Slaibi@perso.ch

النص الشعري والاجتهاد النقدي

شـــاكر لـعـيـبـي

 

ما هي العلاقة بين الشعر والصحافة في الوطن العربي ؟

ثمة التباس محير وثمة خفة متناهية في تعاطي النصوص الشعرية، حتى أن الشعراء الذين يحترمون قصائدهم قد ضربوا صفحاً عن النشر في الصحافة العربية المحلية أو تلك الأوسع انتشاراً

ثمة إذن موقف سالب من نشر الشعر في الصحافة اليومية لوجود يقين كبير لدى جمهرة من خيرة الشعراء العرب أنه يمر مرور الكرام ولا يقرأه أحد، أو على الأقل لا يقرأ الشعر إلا القليل جداً من الشعراء أنفسهم، خاصة وانه لا يُمنح، لا في طريقة إخراجه ولا في الفضاء المكرَّس له، تلك الجدية المأمولة التي هي واحدة من متطلبات الشعر نفسه

يمس الأمر مرات درجات التحوير والتغيير التي يخضع لها النص الشعري على يد المحررين الثقافيين. وهو مساس ذو دلالات وأبعاد تتجاوز النوايا نحو الفهم، وتتعلق بالجهل قبل أن تتعلق بالمعرفة الشعرية. هاكم، أيها القراء الأعزاء، هذه التجربة الشخصية التي تضيء، بشكل صارخ، هذا الجانب الخطير من مشكلة الصحافة مع النص الشعري. فباستغراب شديد بالغ واجه كاتب هذه السطور مؤخراً التحوير الجدي الذي خضعت له واحدة من قصائده القصار المعنونة (جلال) حيث بدلاً من

(جَلَّ جلالُ الوردة)

التي هي جملة محسوبة الحساب شعرياُ، كان يقرأ في النص المنشور

(جلال الوردة)

وهي الجملة التي لا تعني شيئاً على الإطلاق، حيث سمح المحرر لنفسه، ضمن اشتراطات هي في الغالب من طبيعة توفيقية، بحذف المفردة (جَلَّ) التي تتكرر منتوية أن تكون ذات مغزي شعري في أبيات القصيدة المعدودات، وهو أمر يزيد الطين بلة. ومما لا يخفى على أديب بارع متمرس بالكتابة بأن أية مفردة في النص، خاصة في نص مقتصد ومهموم في آن واحد بالاستعارة وبإتـمولوجيا الكلمات، أي تاريخها في الوعي الثقافي، هي شأن مهم للغاية وليس أمراً محايداً بارداً ومن دون دلالة

ومن أجل الطرفة الدالة كما من أجل تبيان درجة الإختلاف في المعنى النهائي للنص التي يقيمها بالضبط تغيير طفيف مثل ذاك الحذف نورد هنا أمام القراء نص الشاعر الأصلي

جلال

جلَّ جلالُ الوردةِ

أختُ الريحْ

 

جلَّ جلالُ الوردهْ

تتمايلُ قربَ قرون الـمعزى الجبليه

 

جلَّ جلالُ ظلالِ الوردةِ

تؤوي الدودةَ ضائعةً والـجـعـل الـملهوفْ

 

جلَّ جلال الظل الورديِّ

الـمبتعدُ الآن بعيداً عنا

 

ونورد الآن النص كما نشره الملحق الثقافي في أحدى الصحف العربية الأكثر انتشاراً

جلال

جلالُ الوردةِ

أختُ الريحْ

 

جلالُ الوردهْ

تتمايلُ قربَ قرون الـمعزى الجبليه

 

جلالُ ظلالِ الوردةِ

تؤوي الدودةَ ضائعةً والـجـعـْل الـملهوفْ

 

جلال الظل الورديِّ

الـمبتعدُ الآن بعيداً عنا

 

النص الثاني باهت ومنطفيء وبائس وهو ليس نص الشاعر الأصلي مطلقاً

هكذا نرى أن الجدل حول هذه النقطة ليس دفاعاً شخصياً البتة، قدر ما يمس التباين الخطير في فهم الشعر، لنقل الشعرية، بين الشاعر وناقده أو ناشره أو الصحيفة التي ينشر فيها. إنه حوار يتعلق مباشرة بطريقة القول الشعري، بدلالات المفردات، بالاقتصاد اللغوي، بالإحالات البلاغية والشعورية التي يمكن أن تؤدي إليها الكلمات العارية نفسها. إننا في صلب الحديث عن الشعر نفسه في نهاية المطاف

من الواضح أن المشكلة لدى المحرر الثقافي كانت الفعل (جل) الذي قرأه بمعنى جد خاص. لنقل أن الفعل (جل) لا يحتفظ فحسب بإحالات دينية كما قد يتصور البعض، ولا يمثل من قريب أو بعيد خدشاً أو تطاولاً على الذات الإلهية جل جلالها. ها هو معنى الفعل (جل) حسب واحد من أهم معاجم اللغة العربية، لسان العرب

"وجَلَّ الشيء يجِلُّ جلالاً وجلالةً وهو جلٌّ وجليلٌ وجُلال: عَظـُمَ، والأنثى جليلة وجُلالةٌ. وأجَلـَّهُ : عَظـَّمَهُ، يقال جَلَّ فلان في عيني أي عظُمَ، وأجللته رأيته جليلاً نبيلاً، وأجلـَلـْتُهُ في المرتبة أي عظـَّمته، وجَلَّ فلان يجِلُّ، بالكسر، جَلالة أي عظم قدره فهو جليلٌ…" الجزء الأول من طبعة دار الكتاب المصري ص 662

 

على أن دلالة حذف من هذا القبيل يمكن تأويلها أسوأ تأويل في بعض الحالات،الأمر الذي يدل، على أية حال على مستوى الخفة في تعاطي الكلام الأرقى، الشعري. على الدوام توجد لدى المحررين إمكانية عدم نشر النص نهائياً وهو أمر سيدل على الاحترام قبل أن يدل على الاستخفاف البادي من نشر النصوص الشعرية مبتورة ومشوهة

 وبالطبع فإننا نحْترِم في الوقت نفسه وإلى أبعد الحدود درجات (الاجتهاد) في الصحافة الثقافية. على أن الاجتهاد لا يعني، كما نحسب، مقداراً مفرطاً من التلاعب في نص صغير، مثلاً، حَسَبَ الشاعرُ لكل كلمةٍ فيه حساباً

هذا الاجتهاد لا يمت إلى جوهر الاجتهاد بصلة

العودة الى صفحة المقالات