الناقد حاتم الصكر و"قصيدة نثرنا المقفاة"

فصاحة الناقد وحصافته

شاكر لعـيبي

للأنترنيت فضائله ورذائله كما نعلم. من فضائله أنه يمثّل أكبر ميديا، وأضخم صحيفة يومية لم تشهد البشرية من قبل عدداً مماثلاً لصفحاتها. إنه مراسل صحفي نشيط يضع أمامنا مادة وثائقية ومعرفية، لا يمكن الإطلاع عليها من دونه. إننا نعرف عبره ما لا نستطيع معرفته من دونه. لكن قدرة الأنترنيت على الإعلام تمثل من جهة أخرى، وبمفارقة حقيقية، واحدة من أعظم رذائله لأنه يطلعنا على ما لا نريد قراءته مرات. فهو لا يترك لنا خياراً مثل ذاك الخيار الذي نقوم به عندما نلتقط من بين الصحف الكثيرة، مثلاً، صحيفتنا اليومية المفضلة التي نعرفها ونعرف، بدهاءٍ، خياراتها.

 

المقابلة التي قرأتها في موقف "إيلاف" مع الناقد حاتم الصقر منحتني إحساساً بانعدام الخيارات أمام ماكنة الأنترنيت التي لم تترك لنا خياراً سوى قراءة ما لا نريد قراءته. الأمر يصدق على من لا يحب قراءة أفكارنا نحن أيضاً من دون شك. وليس للأمر من بعد شخصي ما انفك يشتغل، صُراحاً ومداورةً، في الثقافة العربية منذ نهايات القرن الماضي، إنما له بعد ثقافي وشعري أبعد في الضمير وما تبقى منه.

 

 

تذكير ضروري بحوار ثقافي سابق

يتعلق الأمر بتجربتي في كتابة (قصيدة نثر مقفاة) التي سبق للصكر أن كتب عنها بأسلوب قد يصفه البعض بالخفة الاصطلاحية والمعرفية في (ملحق الثورة الثقافي) اليمنية دون الإشارة لاسمي، اسمي (العقدة) كما ألمح قبل ذلك في صحيفة (القدس العربي) الغراء.

 

أُعْلنُ هنا للقراء غير المطلعين على فحوى تلك الخطابات والسجالات بأن جهداً صغيراً منهم في القراءة المتتبعة سيضعنا نحن الجميع في نصابنا الحقيقي، وأن اختفاءهم الدراماتيكي هو ما يسمح لنا جميعا، شعراء ونقاداً وصحفيين، بأن نزعم ما نزعم.

 

يسعى مجهودنا قريب العهد إلى توطين (القافية) في قصيدة النثر، وسقنا المبررات الطالعة من النصوص المكتوبة قبل المبررات. غالبية النقاد ومنهم حاتم الصكر سارعوا، حتى من دون قراءة نص واحد، إلى إدانة التجربة. هذا مثلاً ما كتبه حاتم الصكر في الملحق الثقافي (للثورة اليمنية) 12 مايو 2002، قبل مقابلة موقع "إيلاف" التي تعنينا:

 

"إن كثيرا مما يصدر اليوم من تلفُّظ وتنظير واجتهاد ينمُّ عن مجانية وسطحية وحب للمغايرة في ذاتها، كسبب غير شعري لاكتساب صفة الشاعر، وبعض هذه المقترحات يصل إلى حد الكوميديا فعلا كالدعوة إلى كتابة (قصيدة نثر بقافية) مثلاً، فهذه الدعوة التي صاغها صاحبها بهيئة مقدمة أو بيان شعري صارخ تنطوي على سذاجة مرجعها الإيقاعي والنفسي، وفهم خاطئ لوجود النثر في الشعر، وقصور واضح في تمثل إيقاعات القصيدة النثرية، كما أنها تذكرنا بمقترح الشعر المرسل الذي اقترحه الزهاوي داعياً إلى كتابة شعر موزون دون قافية.."...........إلخ.

 

ثمة في الفقرة أعلاه لغة واثقة لا تُحْسَدُ حصافة الناقد عليها بينما قد تخونه فصاحته قليلاً. ورغم أننا في حضرة الشعر فإننا نتلمس هنا ما يَطْلق عليه الرياضيون الضرب تحت الخاصرة، المحرَّم دولياً. سأترك الاستشهاد، في غير محله، بالزهاوي إلى حين لأن الناقد سيعاود قوله بعد سنوات ثلاث، وأترك عامداً مصطلحات الجهل والعماية التي وصمت بها التجربة كلها لكي أسترسل في محاججة من نمط حضاري.

 

 

قصيدة النثر وفنون السرد

أزعم أن لا شيء في منطق الحداثة نفسها يمكن أن يمنع شاعراً من استخدام جميع التقنيات المتاحة له في كتابة نص حديث. القافية لا علاقة لها، من قريب أو بعيد، بالنص الحديث، لأن الأمر يتعلق برؤيا مغايرة للعالم. علينا الاحتكام للنصوص وليس إلى التقنيات المجرَّدة. إن (السردية) المفترضة كسبيل وحيد لقصيدة النثر هي أحبولة فوّاحة بالعرفانية تلقمنا حجراً، ولا تبرهن عليها آلاف نصوص قصيدة النثر السردية الباهتة المكتوبة اللحظة. لكن السردية تلك، من جهة أخرى، قد اُسْتخْدِمتْ بتقنيات كلاسيكية وبقافية يونانية تقليدية، على ما يبدو، لدى شاعر مثل كفافيس (انظرْ قصيدته المشهورة "في انتظار البرابرة"، لنسأل على الأقل العارفين بالقافية اليونانية). إن جهالة الناقد باللغات الأجنبية واعتماده على الترجمة له عواقب وخيمة. سوف أستشهد كذلك بشاعر مثل رينيه شار الذي لا يستبعد من تقنياته إي أمر يعتبره الصقر دليلاً على النكوص والجهل والأمية الشعرية، مثل القافية (انظر نصّ قصيدته الحديثة "أغنية لنهر السارغ"، وقد ترجمناها من الفرنسية). دع عنك إيلوار، ودوغي، وبساوو البرتغالي، وأوكتافيو باث، والمئات من الشعراء غيرهم. إن تاريخ الشعر والشعرية لا يتوقف عند النمط الفرنسي (سأقول نمطا فرنسياً) من قصيدة النثر. ولولا خوف الإطالة التي لا طائل من ورائها، لوضعت أمام القراء العشرات من الأمثلة، بلغتها الأصلية، على استخدام القافية في الشعر العالمي الحديث، خاصةً في الشعر الفرنسي وبعض ضروبه التي لا تعتمد بالضرورة على الأوزان. من الممكن للغاية أن يلقي الصقر أمامي ببراهين شعرية مغايرة، لكنه لا يمكن أن يتوقف فحسب أمام تقنية استخدام أو عدم استخدام القافية في محاججته الافتراضية المأمولة عن قصيدة النثر. سيتكلم الآن -انظر موقع "إيلاف" GMT 18:45:00 2004 الثلاثاء 7 ديسمبر- عن (أرضية نظرية إيقاعية غير مقبولة) في استخدامي للقافية في قصيدة النثر. هذه الفكرة غير حصيفة لأن الشعر لا يطلع من النظريات الإيقاعية وإنما من منابع أخرى قد تكون النظريات الإيقاعية جزءاً منها، وهو ما كان مشكلة الزهاوي على وجه الدقة. أما إضافته للكلمتين (غير مقبولة) فهي حكمُ قيمةٍ لا يليق بالنقد، من جهة، ومن جهة أخرى، كأن الكلمتين تقولان امتلاك الناقد القرار الفاصل بين المقبول وغير المقبول، أو كأن قداسة قصيدة النثر قد انجرحت بالقافية الأمر لا تحتمله فكرة الحداثة في العالم العربي التي تقتنع على الفور بالقوانين المريحة والأنساق الثابتة. يُقَعِّدُ الصكر إذنْ لعمودٍ آخر في الشعر العربي الحديث، يُعْرَف بقصيدة النثر المضاف إليها مؤخراً صفة (السردية) مفرِّغاًً فكرة الحداثة من جوهرها إلا وهو تجدّدها المستمر وتجريبيّتها. إننا في الغالب الأعم أمام خطابٍ لناقدٍ حديثٍ مناهضٍ لفكرة الحداثة نفسها.

 

 

القافية ومشكلات الإيقاع

ستسأل الشاعرة الشابة منى كريم الناقد حاتم الصقر - في مقابلة مع "إيلاف" - السؤال التالي:

 

"عُرفت قصيدة النثر بتخلصها من الإيقاع، ما رأيك في التجارب التي حاولت منح بعض الإيقاع لقصيدة النثر كصنع موسيقى من تراكيب الجملة وتراتب الألوان والأفكار حسب وصف الأستاذ صلاح نيازي، أو مثلاً كتجربة شاكر لعيبي مع قصيدة النثر المقفاة؟".

 

الجواب الكامل هو:

 

"ثمة التباس في السؤال.. قصيدة النثر لم تعرف بتخلصها من (الإيقاع) إلا إذا كان المقصود (الإيقاع الخارجي) المتحصّل من الموسيقى الشعرية التقليدية (الأوزان والقوافي)، وكثير من الأطروحات النقدية الحداثية تؤكد وجود (إيقاع داخلي) بديل عن تلك الموسيقى المقصاة في قصائد النثر. وعلى هذه الفرضية دارت بعض دراسات كتابي (مالا تؤديه الصفة) بيروت 1993، وبعض دراسات كتابي الأخير (حلم الفراشة) صنعاء 2004 وفي تلك الدراسات مقترحات وتصورات لوجود ذلك الإيقاع البديل مثلاً كإيقاع التكرار والتوازي وإيقاع السرد والإيقاع الخطّي المتكون من هيئة النص وتنضيده الكتلوي. هذا الزعم النظري المدعم بتطبيقات نصية وتحليلات فنيّة وصفه البعض من الزملاء بأنه (وهم) أو (تصوّر تجريدي) وافتراضات قراءة، مبعدين تماماً وجود إيقاع داخلي أو أي إيقاع في قصيدة النثر، ما دامت تقوم أساساً على اتحاد متناقضين هما الشعر والنثر، ولكل منهما أعرافه واشتراطاته. التجربتان اللتان يشير إليهما سؤالك لم تجدا ملموسيّة نصية :أي أن التجّسد أو التحقّق النصي لهما ظل غائباً، لكنني أجد أن تراتب الألوان أو تدرجها وكذا تجاور الأفكار أو تقاطعها والبناء الجملي جديرة بالفحص والدراسة حقاً، وتساهم في البحث عن أطر إيقاعية لقصيدة النثر، تنسحب من بعد على وجودها النصي كله - أي مستوياتها الدلالية والبنائية واللفظية والخطيّة. أما التجربة التي لخّصها السؤال بأنها (قصيدة النثر المقفاة) فلم أجد لها ـ شخصياً على الأقل ـ أي مستند نظري إيقاعي مقنع، وذكرت في إحدى اللقاءات أنها تخلخل إيقاعية قصيدة النثر بجلب القافية لمتن متمدد دلالياً وبنائياً متخلصاً من إيقاعية الوزن، وذلك يجعل النص ناشزاً، ويعيد إلى ذاكرة القراءة تجارب شعراء النثر الشعري وطابياتهم [؟] المتذبذبة إيقاعياً، إضافة إلى أن هذا المقترح يعكس أو يقلب مقترح الزهاوي الذي أسماه (الشعر المرسل) القائم على الالتزام بالوزن مع إهمال القافية، وذكّرت بالنقاشات الذوقية التي دارت حوله، ووجدت في مبررات رفضه ما يصلح لرفض قصيدة النثر المقفاة التي لم تفرز أفراداً من النصوص تعزّز الفرضية الإيقاعية تلك. وأظن أن سردية قصيدة النثر التي تأكدت في العقود الأخيرة جديرة بالتأمل والمحاكمة النظرية، كمقترح عملي للبحث عن طرق إيقاعية جديدة لقصيدة النثر العربية".

 

هذا الجواب البلاستيكي يعلن، في الحقيقية، بأن المشكلات الكبرى المتعلقة بإيقاع الشعر، لم يتوقف أمامها النقد العربي الحالي، وفيه يصرّ الناقد على الضرب تحت الخاصرة. الصكر يحيل على دراساته الشخصية التي تتضمن دراسة الإيقاع البديل مثل:

 

"إيقاع التكرار والتوازي وإيقاع السرد والإيقاع الخطّي المتكون من هيئة النص وتنضيده الكتلوي".

 

أليس رجماً بالغيب الحديث عن (إيقاع خطي)؟ سنقبل إيقاع التكرار والتوازي المفهومين لدينا، ولكن ألا يجب أن يوضح لنا أحد المقصود "بإيقاع السرد" ثم "الإيقاع الخطّي المتكوّن من هيئة النص وتنضيده الكتلوي". الجملة الأخيرة تتضمن التباسات شديدة. وهو أمر يدعو القارئ إلى إعادة قراءة جذرية لكل أعمال الصقر. تشكّل تلك النبرة الملتبسة مقدّمةٌ فحسب من أجل الحطّ من شأن (قصيدة النثر المقفاة). قَبْلَ فكرتهِ عن "سذاجة مرجع [قصيدة النثر بقافية] الإيقاعي والنفسي، وفهمنا الخاطئ لوجود النثر في الشعر، وقصورنا الواضح في تمثل إيقاعات القصيدة النثرية"، ألم يلتق حاتم الصقر بإيقاع خطيّ متكوّن من جسد النص وتنضيده الكتلوي في مجموعة عنوانها (كيف) مثلاً؟ سيطوي الصقر كشحاً عن هذه المجموعة التي سيجدها في مكتبته يقيناً، ولن يجيب على هذا السؤال بالذات.

 

 

النقد وسوسيوجيا الثقافية

لنتوقف، قبل الذهاب إلى مشكلة الزهاوي، أمام نقطة أو اثنتين يمكن تماماً أن يكونا في صلب سوسيولوجيا الثقافية، ولا علاقة لهما البتة بخلاف شخصي كما سيسارع البعض القول عن سوء طوية. النقطة الأولى تتعلق بهذه الرغبة الشرسة في نفي الآخر المختلِف، بالأثمان كلها، خاصةً وبدءاً من تحاشي النطق باسمه. يلاحظ القارئ أن حاتم الصكر أطلق عليَّ سابقاً من دون أن يسميني (صاحبها)- أي قصيدة نثر بقافية- من أجل تنكيري النهائي، ويلاحظ الآن أنه يستخدم (التجربة) نيابة عن (اسم القائم بالتجربة) من أجل عدم تكرار اسمه بعد المرة الأولى التي ورد بها في سؤال المحاوِرَة. ثمة الكثير مما يمكن تعميمه في هذا الموقف. نحن أمام نفيٍّ مزدوجٍ: من جهة للتجربة الشعرية (قصيدة نثر بقافيةٍ هنا) التي يمتلك الصقر وغيره حرية رفضها. ومن جهة أخرى نفي للكائن الآدمي الذي لن يُمنح حتى الحق ببهجة تسميته باسمه. إننا أمام قلة صبرٍ على خصوم الأدب تنطوي على رغبة في التخلص منهم بأي ثمن. ولأن الناقد لا يقدر على إبعادهم، عملياً، من فضاء الأدب، فهو يستخدم آلية أدبية، قد يقول سيغموند فرويد لا شعورية، في نفيهم من ذاكرته ومن الذاكرة الأدبية الجماعية في نهاية المطاف.

والنقطة السيوسيولوجية- الثقافية الثانية تمسّ مقدرة بعض المثقفين العرب على التصرف بالكلام، وإنْ بتناقضاتٍ وأخاليطَ، التي تدل على غياب الوعي العام، الرقيب العادل، فعن أي (اللقاءات) التي ذكر فيها الصكر ما ذكر، يتحدث اللحظة إذا لم تكن مقالته في جريدة (الثورة) اليمنية؟ ولماذا يسمي هذه المقالة (لقاءات) إلا إذا جهلنا بمجريات لا نعرفها؟. الفصاحة والحصافة المتناقضتان، كانتا معلنتين ضمناً في رد الصقر الأول علينا في (القدس العربي)- 2001/12/12 - التي سيقول خلافاً لبعض الجوهري من مضمونه في مقالة لاحقة له في جريدة (بغداد)- السنة الثالثة عشرة بعد سقوط النظام فحسب-. في حوار معه في جريدة (الوطن) السعودية- 19 مايو 2003- سوف يتحدث عن "بعض المنفيين ممن يحوم شك حول درجة إبداعهم، وما ينسبون لأنفسهم من فتوحات تحديثية، (كفّروا) كلَّ من في الداخل، حتى لو كان عمله أدبياً صرفاً، لمجرد أنه يعمل في مؤسسة داخل دولة يحكمها ديكتاتور"، ويستعيد فيها ما قاله في (القدس العربي) عني. إن السطوة التي يفترضها الناقد لنفسه مُقالة بتسلّط يخلط الشعريّ بغيره، وتدل على عدم كفاية معرفته بمواقف المثقفين من الشعريّ وغيره. وهو أمر سأعود له مرة أخرى مطولاً وبالشواهد اللازمة.

 

 

عود إلى مشكلة الزهاوي

إنَّ مقاربة (قصيدة نثر بقافية) بشعر الزهاوي (المرسل) تسعى إلى إبراز العقم الضارب في أصل مشروعيَ الشعري وهي تقاربه بمشروع برهن التاريخ الشعري على عقمه، وإنْ هي زعمت مقارنة بريئة بين الأشكال الفنية المحض. ما تتناساه هذه المقاربة، وهي ضربة معلم محسوبة في وعي الناقد، هو طبيعة التطوّر الذي خَضَع له شعري الذي لم يتابعه الصقر إلا متشظياً كما هو واضحٌ الآن. إن الفارق بين زمنين ووعيين في هذه المقاربة ملغى لصالح البرهان على ضحالة قصيدتي وتأخّر حساسيتي الشعرية. لقد أقيمتْ مثل هذه المقاربة مرة، بين قافيتي وشعر (الرياحنة) كما أسماهم هاشم شفيق في غاليري (آرك). وقد جرى دائماً تأصيل الحدث الشعري الجديد في العالم العربي بأصول تاريخية لا علاقة لها بجوهر الحدث الحديث مثلما قيل عن وجود مصادر وزنية (للشعر الحر) في (البند) و(الموشحات الأندلسية). غض الطرف عن هذا الفارق بين زمنين ووعيين يكشف، كل مرة، محاولةً في غض الطرف عن الوعي الشعري الجديد، وقبل ذلك أيجاد موطن للفعل الحديث في غياهب الماضي، ولو بالمقلوب إذا لزم الأمر هذه المرة، كما تبرهن مقاربات الصقر بين (قصيدة نثر بقافية) و(الشعر المرسل). تفسير ظاهرة هذه القصيدة (بالعكس) أو (القلب) هو أمر ليس جدياً، وقد يعكس المعتقد العميق للناقد بأحوالي وبسذاجتي المفترضة. يبقى لازماً القول أن تناول تجربة شعرية، أي تجربة شعرية يظل يعاني من نقصٍ منهجيّ كبير بمعزل عن معرفة الكيفية والسياقات السابقة التي تطورت بها، وسيحمِّل بالتالي التجربة الأكثر حداثة دلالة لا يبرهن عليها مجمل شعر الشاعر المعني.

 

وفي الحقيقة فهذه المقاربة شكلانية في جوهرها لأنها لا تستشهد حتى بنص معقول واحد لكلٍّ من الزهاوي والشاعر العراقي المعاصر لكي تقيم البراهين على ما تذهب إليه رغم إصرارها على (الملموسية النصية). الناقد يمتلك المعرفة الأصلية، ولحكمِهِ سطوةُ البداهة والحقيقة بمجرد التلفظ به. إنه غير مطالب بأي مثال أو تحليل نصي. يكفي أن يقول أن لا يوجد تحقّق نصي لكي لا يكون هناك تحقّق نصيّ. بل أنه على شاكلة ابن سلام وابن المعتز في طبقاتهما قد أقام مخططه، منذ البدء، للشعراء وصنّفهم بدرجات، الأوائل فيها يُستشهد بنصوصهم بينما الأواخر فتكفي مجرد الإشارة إلى غياب "التجسد النصي" ونشاز القصيدة لديهم. ما هو متضخِّمٌ لدى الصكر يقع في الوثوقية بإطلاق الأحكام، وغياب الرجوحية والأريحية في التحليل (مثله مثل الحاتمي مؤلف "الرسالة الموضحة" التي دأب مؤلفها على اختراع حفريات قديمة لشعر المتنبي)، ولعل للأمر مراجع ريفية وعصبية قبلية وأصول أخرى لم تتهيأ للناقد الفرصة بمراجعتها، ونتمنى أن يقوم بفحصها قبل فوات الأوان أطال الله في عمره.

 

من وجهة نظر المنطق الصرف، لا تصلح عملية القلب هذه (الشعر "المرسل" يقوم على الالتزام بالوزن مع إهمال القافية بينما "قصيدة نثر بقافية" لا تلتزم بالوزن لكن بالقافية) في إقامة أدلة نقدية دقيقة، خاصة وأننا لا نلتزم آلياً بالقافية ولا نُخْضِعُها لنظام السجع البتة كما كان يُخْضِع الزهاوي شعره لوحدة البيت على طول الخط. مقاربة الصكر لن تقدر، في الغالب، أن تصغِّر الهوة بين شاعرين يفصل بينهما مدى معرفي وزمني جوهري. مقاربة شكلانية وليست شكلية، وشتان بين الاثنين، محسومة منذ فقرات الناقد الأولى مع مُحَاوِرَته، وقبل ذلك في جريدة (الثورة) اليمنية: لا توجد تحققات نصيّة ملموسة، يسارع الصقر إلى القول، قصيدة النثر المقفاة لم تفرز أفراداً من النصوص تعزّز فرضيتها الإيقاعية، وبعبارة أخرى لا يوجد شعر.

 

لا يوجد شعر، ولا فتوحات تحديثية. لماذا إذن هذا الإطناب البلاغي والعودة غير الحميدة للزهاوي، ولماذا خاصةً ذاك التوتر غير اللائق بالعمل النقدي. سيكون الناقد أكثر إخلاصا لعمله لو أنه قال لنا أن لا يوجد شعر في قصائدنا النثرية، معلناً فصاحته، مُدِلاً على مواطن الحصافة في عقله.

 

لا يوجد شعر. سنرى بعد حين.

جامعة قابس/ الجمهورية التونسية

2 كانون الثاني 2005