شاكر لعيبي

 

 

الشاعر العربي بوصفه "دونجواناً"

 

 

 

1 - لن يكفي التحليل النصي المُصفَّى على ما يبدو، وحده، في تقديم شروحات وافية للشعر العربي المعاصر، مثلما لن يكفي التحليل السوسيولوجي لهذه المتعة، خاصة إذا ما طبق على يد اجتماعيين عرب اقرب منهم إلى السياسة مما هم الى المناهج، الحذرة والواسعة الافق، لعلوم الاجتماع المعاصرة. توحي جميع التاويلات والنقود م المكتوبة اليوم، او تقول صراحة، ان النص الشعري متماهٍ ومندغم بالظاهرة الثقافية، لانه كذلك تظاهرة من تظاهرات ثقافة من الثقافات، طالما انه، ويا للاسف، يستشهد ويعود ويطلع من الواقع مواربة ومداورة. البداهة والحذر المنهجي واجبان في مقام كل خطاب ادبي عربي وغير عربي

 

2 ـ ان مصطلحي "حضور" و "غياب" المستلهمين من الادبيات الصوفية، او "المرئي" visible و"اللامرئي" invisible  الماخوذين من مصطلحات الادب الاوروبي، قد يشوشان ويفسدان قراءة صحيحة ممكنة لشعر عربي يعرش اللاشعوري في ثناياه، ويجرح او يحزف حتى الميتافيزيقي فيه

 

 

3 ـ لنستحث الشعر ولنفحص، في مقامات الحضور والغياب العالية هذه، فرضية تزعم تراجعا (او غيابا : الاثيرة على قلوبنا المكتوية بالحداثة) للشعر المتعلق بالمراة، اي الشعر المسمى في الارث العربي المجيد غزليا، والراسخ دوما، كما نتوهم في الفعالية الانسانية الاكثر بداهة

 

4 ـ لا يتعلق السؤال، وها هنا حذر منهجي اخر، بخطاب شعري يتوجه، شكليا، الى المراهَ، او خطاب من المراة موجه الى الرجل (وقد تصاعد اليوم وتعالى صوته)، كما انه لا يتعلق ابدا بمقولات تاملية، تحررية، صار لها انصارها الشفاهيون والحقيقيون الذين يمكن رؤية تكاثرهم الداعي الى الارتياح. هذه المقولات تشبه الأقاويل ولا تتتطابق في الواقع اياه، الا قليلا مع المفهومات اللغولِة البليغة

 

5 ـ يستطيع القارىء الفطن، اذا ما استثنى نزار قباني وقلة اخرى سنسميها، ان يلاحظ غيابا وغيبوبة لشعر له تاريخ عريق في الضمير العربي. غياب مثير للحيرة على الرغم ان النساء العربيات ما زلن، والله اعلم، "حاضرات "، ولو اشباحا محجبة، في الحقل التخيلي والمعرفي وفي الوعي والثقافة المُنتجة

 

6 ـ شكليا لكن بنيويا كان "المطلع الغزلي" في القصيدة العربية التقليدية جزءا من البناء الكلي للنص، اللبنة الاولى من العمارة اللاحقة، بل "اللازمة" الضرورية للنص، اي نصا اساسيا في الجسد العام للقصيدة. في حين انه سيتلاشى في زماننا، ويفنى، بالتدريج، لصالح صسمارات اخرى لكي يُلغى كليا في نهاية الامر، كما لو كنا نشهد غيابا فيزيقيا لحمراة نفسها في المرجعية الثقافية وفي الدوافع التخيلية، ثم انحسارها النهائي خلف الحجابات والمقولات الحقيقية والمجازية

 

7 ـ يرفض بعض الخطاب العربي الخوض في البداهة التي هي لفرط بداهتها اصل الفكر نفسه. تفترض البداهة اننا ازاء تهميش، لكي لا نقول الغاء، لبعض الشعر الجوهري من الحساسية العربية الى درجة اشهار همّ وحيد، فريد، اجتماعي في جوهره، وسياسي في تمظهراته، ينبثق على انه الموطن الممكن الكبير الذي على الخطاب الشعري ان يتوطن فيه. يرتدي السياسي خرقة المتصوف ويذهب التروتسكي الى الاعيب السوريالية. يصير "السياسي " رديفا لـ "العميق"، للكوني، للنبيل وللسامي، للتضحية بالذات وباستشراف آفاق المستقبل. ثمّة في الخطاب السياسي، المموّه على يد لاعبي اللغة العظام في شعرنا المعاصر، بعض الوهم، طالما ان مفهومة الامة او الوطن الام لم تعد مثلما كانت منذ حين، وطالما ان مسقط الراس هذا يصير معادلا لألم ابنائه لى الغائهم؟ سيقول العقل المفرط انه لا يمكن ان تحُب اوطان تقتل ابناءها وتشردهم. هذ الافراط ليس من مصطلحاتنا ولا يضيف شيئا الى المعرفة، خاصة معرفة لماذا مثلا يطرد السياسي الغزلي من مملكة الشعر

 

8 ـ ان طغيان السياسي على الغزلي يُفسر مشاعر الاهتياج الوطني، حب الوطن الموازي للايمان الديني، حب الوطن الذي ابتذل على يد "الشعراء الوطنيين" و "الشعر الوطني" الملقن للاولاد في المدارس، بمعنى طغيان الهموم الاجتماعية الموضوعي. سوى انه لا يفسّر تماما غياب ذلك الشعر الغزلي الذي نحلم به

 

9 ـ يمكننا التفتيش عن علة للموضوع في اماكن اخرى، يمكن ان يضها المصابون بجدل التاثير الوحيد للخارجي، الاجتماعي والسياسي على النص الشعري المنغلق على ذاته والشائح بوجهه عن الواقِع، في اطار تحليلهم السوسيو - سياسي، وفي نيتهم ان لا يتركوا لنا البتة متنفسا لموعظة من نمط اخر. ويمكننا على الدوام ان نتفهمهم ونسامحهم"

 

10 ـ ها هنا فرضية اخرى : يبدو ان المغامرة باتجاه المراة لم تَعُذ تشكل، في الضمير المستتر من الجملة العربية الغامضة، كما كانت في ما مض، مغامرة وجودية، كما لو ان الكينونة الانثوية لا تؤخذ على محمل الجد ولا يجري الايمان بانها تستاهل، هي ذاتها، شعرا يليق جها وليس بما يحيطها او يرضي، فحسب، السعادة المنغلقة على نفسها للذات الشاعرة. لم يكف الخطاب الشعري المعاصر عن استحضار المراة رمزا من كل نوع : للوطن، للامة العربية، للحزب. لم تكن تخاطب، في الغالب، كجغرافيا ادمية، ككينونة مستقلة وفضاء خاص

 

11 ـ اذا استثنينا شهوانية نزار قباني المتانقة، فان الانصاف يوجب وضع ادونيس وانسي الحاج في الطرف الاخر من المعادلة. ففي مجموعته "المسرحِ والمرايا" مثلا لا يفعل ادونيس الا كتابة تاريخ الانوثة هذه. في وقت مبكر نسبيا من تاريخ القصيدة العربية الاكثر حداثة كان ادونيس يعالج الجسد الانثوي بوصفه فضاء من نوع خاص، بوصفه عالما صغيراً microcosm المعبّر عن العالم الكبير macrocosm ، حيث تتناوب وتتوازى الاشارات هنا وهناك. كان يخوض في تضاريس الجسد كما يمكن ان تخُاض تضاريس الطبيعة. في حين تصير المراة الحية والملموسة وليس الرمز في "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع " للحاج موضوعا للقصيدة ومقولة للشمولي الذي تُطثع منه العبر والخيالات، وتصير تماهيا في الطبيعة. قبل هذين الشاعرين كان ثمة التماعات اصلية وثمة الكثير من الشعر لدى الياس ابو شبكة في "أفاعي الفردوس " تبدو اللغة عنده منهمكة باستحضار لم اعلان اللذة الجسدية، وتبدو وقد فاحت بشبقية فادحة، وحلت المراة في قلبها. يُمنح الجسد الانثوي لدى ابي شبكة معنى الغواية والخطيئة. كان ابو شبكة، وقلة اخرى من مجايليه، يذهبون الى هذا النبع بوله سنقول صوفي، وكانوا يمنحون الايروسي مكانا، ثم ينقلون هذا الأيروسي الى مصاف الفاعلية الواجبة الوجود، اي البديهية. سيستلهم بدر شاكر السياب منهم، ومن مناخات يومئذ الثقافية، تلك النبرة الغزلية الحيية الطالعة شعرا في "شناشيل ابنة الجلبي " مثلا وفي قصائده الجميلة عن "شُباك وفيقة. بعد هؤلاء سيجيء قباني، ومن بعده سيشيع السياسي ويطغى ويتكبّر

 

12 ـ عندما نتحدث عن غياب فاننا نتحدث عن اللكنة المتسيدة فى الشعر العربب التي صار عمرها اكثر من نصف قرن. اننا نعرف ان شعرا غزليا قد انتج كذلك بكثافة لدى شاعرين او عشرة من الشعراء، ولعل جميع الشعراء العرب قد كتبوا نصوصا مُفردة عن الموضوع، ولكنه بقي هامشيا كظاهرة شعرية. ما زالت المراة هامشية في حقيقة الأمر. وإذا ما كان صحيحاً وعتيقاً الافتراض ان القيم الراسخة في التقاليد الاجتماعية تتمظهر عن تقاليد شعريهَ مماثلة لا تتوازى مع تلك الاولى وتتحايل عليها عبر سمو مفترض للقول الشعري وقدراته المزعومة والصحيحة على تجاوز التقاليد البلاغية والاخلاقية في حقبة من الحقب. لا تتوافر، كما يبدو، هذه الوظيفة التجاوزية لكل شعر عربي. ما زالت نظرية الانعكاس الشائخة مفيدة هنا

 

13 ـ إن غياب شعر غزلي، ايروتيكي انما هو واحد من اسباب رواج شعر نزار قباني الغزلي الذي يغدو شاعره في اللاوعي الشعبي العربي شاعرا صادما، متجاوزا وفي مصاف الجريئين الاحرار. يخاطب نزار قباني بالاحرى وعيا متخلفا للغاية ويتلاعب على المطمور في اعماقه. وعي سيثيره مجرد التلميحٍ اللغوي الى اعضاء ومفاصل المراة، ناهيك بحلمتها وثدييها، كما تثير مواطنا عربيا صالحا ومؤمنا، بالضبط، رؤية قدمها او طرف اذنها. وإذا ما كرّر نزار قباني مرارا بانه "يناضل " من اجل رفع الاقنعة وتحرير السيقان والأثداء من ربقة الظلام فان ايحاء ات لغته، في الحقيقة، تستلهم الدفائن القديمة الخربة. لقد اشتهر قباني بشعره الاول الدْي يستثمر تقاليد التخلف الثقافي خير استثمار

 

14 ـ يمكن ان يكون شعر نزار قباني الغزلي اشارة ودليلا الى المقدار الذي يتماهى فيه المعضل الاجتماعي بالمشكل السايكولوجي وبقوة النص وحيله التعبيرية الفذّة سنحبّ شعر نزار لاننا امام نص شعري وليس خطبة نثرية..الأمر الذي لن يمنعنا من التوقف ورؤية كيف يختلط المحرم بالدفين، بغير المصرّح له بالظهور يعالج الشعر لديه موضوعه (المرأة) متوقفا عند العناصر الاولية، الاستفزازية ويبقيها في اطار المتعارف عليه، اي الجسد عضوا لإشباع لذة وحيدة الطرف وذكورية، بحيث يبدو الشاعر وهو يلعب دور الدونجوان الجديد، الدبلوماسي الذي يثري مفرداته ويغطي نزواته بأدب جمّ

 

15 ـ بعد ان اشتهر كشاعر للمراة، وصّافها والمتغزل بجسدها البديع، سيكرس قباني معظم شعره اللاحق لنبرة سياسية تعلن التناقضات في الشخصية العربية والطرائف وتروي الالم الحبيس في الذات السياسية العربية. انه يتخلى هو نفسه عن شعره الغزلي بمعنى من المعاني. وليته ما فعل. ففي غزله الاول يكمن السياسي ايضا بدلالته الاعرض، الانسانية، وبمعناه اليوناني : فاعلية الكائن وفعله في الجسد الاجتماعي

 

16 ـ لكن الشعر الغزلي سيحضر في الادب الشعبي، بجماليات لا تضاهى، وفي أدب العاميات العربية المعاصرة (مظفر النواب، طلال حيدر)، يصلح النواب عاميا مثالا بارزا لكتابة ايروتيكية رفيعة المستوى وهذا يفسَّر على مستويين اثنين : حضور المراة الفيزيقي في الريف العربي جنبا الى جنب مع الرجل بسبب ضرورات العمل، ثم استلهام هذا الريف لتقاليد ادب شفاهي يحتفظ الانساني العميق وما هو عفوي بمكان بارز فيه. لا الفقهي المتشدّد، وهو ضد المراة عموماً، ولا المدينّي المتحذلق الواصل عبر الطريق التركي، وهو محجبها الاول، قد غيّرا شيئاً يذكر من الطبيعة الشفاهية للنص العامي ومرجعياته الحيّة

 

 

17 ـ ان محاصرة المراة لم تكن ممكنة على الدوام. تطلع "الحيلة"، وهي مفردة لها إرث في المعطى التراثي وامتدادات عميقة في جميع الادب العشقي والايروسي التقليدي، بصفتها وسيلة لمجاراة النازع البديهي لدى الانسان، بصفتها تحايلا على الحيلة الفقهية والاخلاقية. ما لا يمكن تطمينه علنا سيجري اشباعه خفية. من هنا وفرة المستتر والخفي من مغامرات الرجال والنساء العرب

 

18 ـ هنا فرضية جديدة : ليس غياب الشعر الغزلي في الديوان العربي الحديث الا تعبيرا عن الالتباس في دور الرجولة او ليس سوى التشديد المرضي على دورها في الخلية الانسانية. فنحن ، كما يبدو، أمام حالة ذكورة لا يشبعها الا التعدد الكمي والتنوع اللامتناهي. تصلح هذه الذكورة الى نقد قاس. الذكورة العربية، الذكورة بمعناها في الوعي الثقافي التاريخي الاسلامي اذن هي التي تهيمن في النصّ وتقدم العالم من وجهة نظرياً

 

19 ـ في مقاومة غياب الغزلي وحضور الذكوري تتفتح بعض الكوى في تاويل الظاهرة. والسزال في غاية البساطة : كيف يمكن لمجتمع يقوم الذكر فيه بقمع الانثى، او يجعلها، فحسب، موضوعا لنزقه، ان ينتج شعرا غزليا؟ كيف يمكن، في مجتمع غير عادل، ولا توجد فيه مفردة تعادل مفهوميا المفردة الأوربية Couple (بالفرنسية والانكليزية : من اللاتينية copula )، التي سيمّرجمها المترجمون ب "الزوج "، ان ينتج غزلا افلاطونيا او ابيوقراطيا؟ اننا في قلب السوسيولوجي منتج النصوص كذلك. لا تذهب كلمة "زوج " العربية في استخداماتها، المتاخرة على الاقل، الى المعنى اللاتيني مثلا، المتاخر والمتقدم، الذي يحملها، منذ البدء، دلالة "الارتباط" و "العلاقة" بين ذكر وانثى من الجنس الحي نفسه، او معنى الاتحاد بين "رجل وامراة" مقترنين بكيفية من الكيفيات. ثمة في العربية كلمتان تدل الاولى منهما على الرجل والاخرى على المراة ولا توجد كلمة تدل على الوحدة العضوية، على "التعالق " بين نوعيهما مثل كلمة Couple التي سيحار القاموس بتعريبها. كلمة الزوج في العربية مرتبطة بالاحرى بالعلاقة الشرعية فحسب، ومنه الزوجة الرسمية، ثم ثمة الزوج، حْلالْى الفرد الذي يبعدنا كثيرا عما نسعى اليه

 

20 ـ علينا ان نرى غياب الغزل، في مجتمع يتكون طبيعيا من ذكور واناث، هيمنة مطبقة للذكر المتمرجل (وهو اشتقاق عامي يصيب عينا من عيون الحقيقة). في عدم تمكن النساء من ارتياد المقاهي ثمة انعدام توازن نفسي سيلعب الرجل فيه دورا فريدا : اذا لم يكن الامر متعلقا بالمحارم وبالمؤسسة القانونية (الزوجة) فإنّ دوره الآخر هو "الدونجوان " من غير منازع

 

21 ـ لا يمكن للدونجوان ان يكتب شعرا غزليا

 

22 ـ يُعزَف الدونجوان بانه "شخصية من المسرح الاسباني صارت تنمطا للمُغْوِي. إنّه الذي يُغْوي عديم الذمة". علينا، منذ اللحظة، النظر الى مفهومة الشاعر الدونجوان ضمن دلالتها الاستعارية، المفيدة هنا

 

23 ـ قد تُوصف حالة اندونجوانية من وجهة نظر التحليل النفسي كحالة خوف دائب من الاخصاء، كان الدونجوان في طور التوكيد المثابر، في ممارسته اليومية وفي كتابته الشعرية، على خلوّه من حالة الاخصاء هذا التحليل لا يهمّنا، ولا يقنع القارىء العربي المتوسط الذي سيرتعد من فكرة الاخصاء الرمزي. لا يُعزف هذا التحليل كذلك الخصوصيات النصية لدى الشاعر الدونجوان الذي لا يكتب نصا غزليا

 

24 ـ يفضّل البعض ان يرى في هذا النمط من الرجولة الدونجوانية ممارسة لُعبية سالبة. لعبة موضوعها الوحيد، تقريبا، المراة، لن يكتفي الدونجوان فيها بعلاقة واحدة وانما يصير هدفه الكبير "اسقاط " اكبر عدد ممكن من العشيقات في حبال شباكه الغرامية والجنسية وفي وقت متقارب، كما لو كان هاويا لجمع الطوابع او تجميع الفراشات. كيف يتهيّـأ له اذن ان ينصرف الى كتابة نص شعري متوازن عن المراة؟ عندما تصير المراة، وجسدها على وجه التحديد، لعبة الرجل، فمن الواضح أنّ هناك عدم اشباع عميق وعدم اكتفاء جهنمي من الجسد الانثوي الذي يجري تعاطيه ى "حقل " للرهان، ومعاودة الرهان، اي المواظبة على البرهنة على امكانياته الخارقة وعدم عطبها. سوى أن عدم اشباع من هذا القبيل انما هو الاسم الاخر لعدم القناعة او الاكتفاء من جسده الشخصي هو نفسه : من هنا غياب نص يتامل الذات الشخصية للشاعر وغياب نص عن جسده هو نفسه

 

25 ـ لا ينسجم التامل الغزلي البريء، مثله مثل النص الايروسي الأقلّ براءة، مع صورة رجل ـ شاعر يغامر بوضعيته الاجتماعية كلها ودفعة واحدة، ولا يهمه ان يخسرها. لو كان مقامر الروليت مثلا مهووسا بدفع ما يمتلك من مال الى طاولة اللعب، فالدونجوان يفعل الامر ذاته على الصعيد الاجتماعي. لذّة المقامرة، في كلتا الحالتين، هي الجوهرية، وليس لذة النص. إنّه لكي يمتلك موضوعه ماديا عليه ان يخسر النص : لن تتهيا له والحالة هذه الفرصة لكتابته

 

26 ـ تغيب عند الدونجوان مفهومة ""الكرامة" بمعنييها المُسبَّط والمُرْهف. أفضل القيم الأخلاقية منسية لديه، وتتحور لكي تكون مطلقة النسبية، ذلك ان آلية عمله، بوصفه مغازلا محترفا، تقع فيما يلي : السعي الغزلي المتواصل، المصاغ مسبقا من دون الكثير من الصدق، وخاصة من دون الالتفات الى الصدود المحتمل، الى رذات الفعل العنيفة والضيفة من طرف موضوعه الاثير : المرأة. نوع من رجل تجريبي يحاول مشروعه مع أكبر عدد ممكن من النساء لكي يصطاد فريسة واحدة في نهاية المطاف. إنه يبتلع، كل مرة، قوة الصدّ، بل الاهانة، ويجري لها عملية محو سريع من ذاكرته، منتقلا الى فريسة اخرى

 

27 ـ وفي مقابل ذلك، وبتناقض فادح، تظهر لديه نزعة تبجّحية تدفعه، بوصفه صائد نساء،"عديم الذمة" الى اخفاء وطمر حالات الفشل المتكررة التي هي جزء عضوي من حياته الروحية. هنا ضعفه وقوته. هنا مقدرته على الاستمرار في كتابة نصه.انه لا يعلن الا الناجح من مغامراته، الا المجد المؤثل. ليس ماضيه سوى النصر المبين رغم وفرة الهزائم. لا يعلن الا تفوقا ظاهريا فهو ليس معنيا سوى بالكمّ الفعلي من تجارب اللذة. الرجولة هنا، النص، والأمّـة دائمة الخوف من نفسها وغير مطمئنة الى نفسها. أنها كلية القدرة وقوية من أعلى الرأس الى أخمص القدمين، من المحيط الى الخليج، ولا تحتمل نامة من الضعف. يتجلّى كبح "الضعف" وعدم إعلائه في الندرة النسبية للنصوص التي يعلن الشاعر العربي فيها لحظات انكساره الفردي ولحظات بكائه، ويغدو الوجه الاخر لضعف عميق لدى هذه الرجولة

 

28 ـ يصير المحو الواعي للتجربة الفاشلة طبيعة متاصلة لدى الدونجوان. يحتاج من اجل بلوغ مراميه الى نسب معتبرة من "الكذب " والالتواء على الاخر وعلى الذات. أنّ لعبة الاغواء الطبيعية بين رجل وامراة تتحور لديه لصالح اكذوبة مستمرة يجُري اعادتها بالحاح وباشكال متنوعة. يختفي الدفق العاطفي ويحل محله "كذاب محترف" ذو قدرة عالية على النسيان. تقع منطقة واسعة من ضميره في الظلمات طالما يتعلق الأمر بارواء فائق للعادة لما هو شبقي فحسب، اي للأنا.  أنا الدونجوان العربية المبالغ بها لا تشابه أنا الدونجوان الأسباني الأناني وأحفاده الغربيين، لانها لا تتوطن، مثل الأوربية، المؤسسات، ولا تطلع من مزاج الرأسمال، وليس لديها من تاريخ، بعد ان حطمت وتحطمت مدنها ومواليها، سوى القبيلة، الريف، البداوة

 

29 ـ يحضر الأيروس وحيداً، تقريباً، في وعيه ويختفي اللوغوس. وإذا ما كان هذان المفهومان مترابطين عمليا، ويشدان أزر بعضهما، ويعاودان التجلي على التناوب فان الاول منهما يطغى لدى الدونجوان أو أنه، على الأقل، يستبعد الثاني

 

30 ـ بصفته مهموما بالانثوي، بايروسه الاناني، فان الصداقات مع الرجال تختفي من حياته بعض الشيء. صداقاته عابرة ومؤقتة وزائغة جدا. الأيروس وحده هو الممكن. ولأنّه لا يفصح عن نزعة مثلية لواطية فان الرجل ليس بموضع مناسب لتطمين ايروسه الاناني. هكذا لن نجد في تاريخ الشعر العربي المعاصر صداقات حميمة بين كبار الشعراء، ناهيك عن صغارهم. بدلاً من ذلك سيتوثب الالغاء المتبادل، وانتفاء الحوار الذي هو أسّ الصداقة؟ مع الرجال هو مشعل الحروب. أنّه لا يرتاح الى محضرهم : منافسيه المحتملين على قلوب عذراواته، ومن الافضل استبعادهم عن مشروعه التأريخي

 

31 ـ تتساوى لديه، في هوس حُمَّاه، النساء جميعا: انه يحب كل النساء بالطريقة ذاتها. كلّ الورود لها ذات الرائحة، كل الحقول متشابهة، كل الاجساد البضة. هنا تغيب تقاليد خطاب غزلي متنوع. الدونجوان يستهدي بتنميط لغوي جاهز، بصور واخيلة متاسسة، اثبتت تجربته الثقافية فاعليتها

 

32 ـ سوى ان ثقافة الدونجوان تخفي نقيضها. ولأنّ الثقافة العربية غير محكومة، بالضرورة، بالموات رغم اصفرارات المرض البادي على وجهها، فان اجيالا جديدة في الشعر العربي ستتقدم وهي تتامل الظاهرة، نحو نقد عنيف، غير منهجي مرات وغير مسموح به مرات متعددة، الى المؤسسة الشعرية التي كلما تهدم جزء منها صار هذا الجديد، بدوره، مؤسسة اكثر شراسة كاننا امام طبيعة عصية على الفهم. ستتقدم هذه الاجيال، رغم تمادي الدونجوان في غئه الموصوف، الى منابع اخرى، الى "موضوعات " اخرى ولن تخشى المخشيّ منه : الايروسي مثلاً. حذرة وقلقة ولكتها تهتدي بفضيلة المحاولة. إننا ازاء شعراء لا تختفي لديهم فحسب نزعة "التمرجل " السائدة ولكنهم يحاولون كذلك خلع عباءة الدونجوان. العالم كله جسد استعاري والجسد الحقيقي يصلح كذلك لأقامة النص الشعريّ

 

33 ـ بعض الكتابة الشعرية الجديدة، رغم عثراتها وتهميشها، تقوم على أساس الاستبعاد والاستعلاء، على فرضيات الدونجوان نصوصه، لقد طلّعت السنوات العشر الاخيرة نمطا من الشعر المتربي والنامي في تربة مغايرة. انه نتاج صدمة قوية سبّبها الواقع اللاشعري للشعر العربي قامت بشرخه وقلقلت حتى مفهومة الحداثة بطبعتها المحلية فيه. ثمّ ان هذا الشعر يطلع من مناخات، اسمها الاخر: المنفى، وهو أوربي في معظمه وقد عزف الشاعر المهاجر على سبل جديدة كانت لازمة لتخفيف وطاة ذكوريته المتضخمة، من اجل التخلي النهائي اذا امكن الامر، عن شخصية الدونجوان : الشاعر والانسان

 

34 ـ ستحدث عودة الى علاقة عشق مع موضوع موصوف لى الى جسد مُتولَّه به انسانيا وشبقيا، وليس الى وهم العشق. أننا نعود الى خير الامثلة الغزلية التاريخية والى روح القصائد العشقية الشعبية

 

35 ـ تمتد علاقة الذكوري والانثوي، العشق والتوك بالاخر المختلف نوعيا من الناحية البايولوجية والجنسية، الى اماكن غير نوعية، وتتصل، في النهاية، بطبيعة النص الشعري اي بالادبي عموما. اللغة نفسها ستحاول التوغل في مجاهيل الموضوع. لن تنقصنا الادلّة على شعر من هذا القبيل. ثمّة نصوص ومجاميع (امجد ناصر، عبده وازن، وليد خازندار... مثلا) لا تركن سوى الى ايروسها العادل في مغامرة النص. يصير الايروتيكي في هذه الامثلة بمثابة احتفال بالتفاصيل الحميمة، لكن الجسدية، بسعادة حسية او مطلقة الحسية لا تركن، لكي تكون صافية وشعرية سوى الى الشعر. انها مكتوبة ومكتوية بما كان يريد النص - الاب نسيانه، وما كان المجتمع يحاول طمره، وما يسعى الظلاميون الى تحويله الى شيء مدنّس

 

36 ـ ليس عبثا ولا عبر المصادفة- الخلاقة ان تجري الثقافة العربية في السنوات الاخيرة تحقيق الاعمال الكلاسيكية الايروتيكية (النفزاوي، التيفاشي، وأعمال ابي نواس المحرمة، مثلا) على يد شعراء جدد (جمال جمعة في هذه الحالة)


37 ـ ليس عبثا، بالمرّة، ان تهتم مجلة يصدرها ويكتب فيها شعراء جدد واكثر جدة. "الكاتبة"، بموضوع الذكوري والانثوي من وجهة جريئة، بل مفارقة. لا تستطيع ثقافة يسيطر على اجوائها الدونجوان ان تسامح مجلة مثلها

 

38 ـ ليس الاقصاء المستمر لهذا الموضوع سوى نوع من الاخصاء الرمزي للمجتمع العربي (مثله مثل اقصاء الشعراء الشبان وعدم الايمان بقدراتهم على الخلق ) وليس حضور تلك النزعة التمرجلية والدونجوانية سوى توكيد لهذا الإخصاء

 

39 ـ بينما تكون العودة الى الموضوع بمثابة عود مبرور الى تلك الوحدة الكلية الرمزية، سنقول الأحتفالية، والدينية في جوهرها كما تبرهن أناشيد عشتار الجنسية، بالرموز والطقوس الجنسية التي هي جزء من الكوني رغم ظاهرها الطفيف وحميميتها

 

40 ـ لقد اثر الشعر الاكثر جدة، وليس الايروتيكي وحده، على "الكبار" انفسهم كما اشار الى ذلك نوري الجراح مرة في مجلة "الوسط ". لذا فليس عبثا، للمرة الاخيرة، ان يعنون سعدي يوسف مجموعته الاخيرة او ما قبل الاخيرة بـ "ايروتيكا" متاثرا بهذا الروح الطاغي، الحر والمتدفق

 

41 ـ ثمة حساسيات جديدة، تختلف وتتقدم مفهوميا، ربما، على حساسيات الأب الروحي الكبير

 

نُشرت المقالة في مجلة  أبواب اللندنية