Shaker LAIBI

شاكر لـعـيـبـي

قصيدة الجسد المغتبط

شهادة وتأمل بقصائدي الإيروتيكية

 

نموذج شعري مكتوب سنة 1982 

ثمة الحرس أيتها العالية

ثَمَّتَ الحَرَسُ أيَّتَهَا العَالِيَة

وابْتِهاجك الاحتفالي

بعده ساعاتك الحريرية المتماوجة في البهو

وقهقهاتك المتناثرة عن زعفرانات وقرنفلات

ثمت جسدكِ المفعم بالزغب

الحاط لبرهة على الكرسي والدائر دائماً على الحاضرين

عيناك المشبعتان بالتلألؤات والرغائب اللتان تقولان ابتعدوا ثم عودوا

يداك الجانحتان بين المنضدة وريش الطيران

فخذاك المكتـنـزان بالرجَّات القادمان من بحيرتين قطبيتين

ثمت فمك القائل بالكبائر

شفتاك المأخوذتان بالرطوبة والندى

جبهتك الغامضة المكتوبة بالخط الكوفي

نهداك الذاهبان قدُماً بالعزَّة

خصرك المنكسر في حرب الجسد

حوضك الخَجِل من ارتجاجاته

رقبتك المنحوتة بجلال إلهي

خداك المستريحان بين زمانين

رسغك النابض للكون

أهدابك الطويلة الطويلة ، التي تمتدُ بعيداً حتى الملامسة الخفيفة للجسد الآخر

كتفاك المترنحتان كقاربين

أنفك العادي وأنفاسه الحكيمة

أذناك الناعمتان وأقراطهما

سأمدحك أيتها العزيزة

ثمت بطنكِ وسهولها

ظهرك وسهوله

رائحتك وخصوبتها

شعْرك أيتها الساحرة وأناشيده

أصابعك وامتدادها في الضياء

أنوثتك وقلبها الصافي

ركبتاك واستدارة الهلال

ثمت حلمتاك وفجرهما الأمومي

حلمتاك والرجل المحدق إليهما بذهول

ثمت حاجباك وإشاراتهما الحزينة

حاجباك والمد البحري وجزره

وسأمتدحك أيتها الغريمة من جديد

هناك الأصوات البعيدة وكنت تركضين إليها

عيناك المحروستان بالبياض المُصَفّى بالبياض

قدماك الناعستان المنذورتان لرخاء المياه

نهداك الأليفان وهما يقدمان عِظة الإلتذاذ

شعرك وجماهيره الفرحة

يداك وقد تَرَبَّتَا مع الطيور والإتقان

يداك المخدرتان وأظافرهما النائمات كأميرات

قامتك وانسيابها في المكان

واضطراب الهواء بها

وانحراف المثال والتَشبُّه عنها

ساقاك والفضاء المحيط بهما

ساقاك المستنبطتان من الذرة والفطر

 

وسأمدحك أيتها الشريكة

حيث سرير نومنا هو قاربنا

ونحن نجدف بأيدينا في الهواء من لجُـةٍ إلى لـُجة

حيث نجماتنا بعيدة واحتمال لذتنا كبير

حيث انضمام العواصف الكبيرة إلى العواصف الكبيرة

سريرنا المُوشك على الغرق

المُحاط بالأشنات والزَبَد

ونحن المغموران بفقاقيع القبلات

سريرنا الطافي الموشك ونحن بحارته اثنان على سرير طافٍ

يا إلهي أيتها الشريكة !

 

سأمتدح إبرتك وخيطها

وحدتكِ واكتمَالها

صبركِ وفيافيه

عريكِ والنسر

يا خبَّيزةً مفتوحة

ياجمرةً على هيئة الآدمي

يا صقيعاً كاذباً

يايقطينةً

يا ثنائية

 

ثمت الكثير من اليواقيت حولكِ 

رخاؤك المتمطي على الشرفة

البلبل الذي تسقينه من فرحكِ

الصباح المنظم تحت يديك

السجادة وهي تقلد دقتكِ

أحلامكِ الموغلة في البدء

حيث الشروق المتكرر للقلب

وحيث الرجل إلهكِ ومحميتك

وأنت الرطبة المنتظرة

ثمت الحرس تحت شباكك المُفعم بك

المكتـنـز بقامتكِ

شباكك المُشرع للتنهدات الكونية

المتقوس فوقكِ كالأسطورة

وأنا أطل عليكِ من نافذتي البعيدة أيتها البعيدة

لأرى خفق فستانكِ وهو يمسح الرياح

ومرآتك النوَّاسة من سماواتي النوَّاسة

وأرى التماع أجزائكِ البعيدة

 

سأسميكِ القلقة وأجلس طيِّعاً بين راحتيك الخفيفتين

أدعوك الأفعى وأقدِّم القرابين

أيتها الملاسةْ

أيتها الملاسةْ

أني أنزلق في ظلامكِ

سأسميك الكوثر وأشرب من ينابيع الريف

أسميكِ الغزالة وأحرض عليكِ أسدي

اسميكِ الوردة وأمضغ تويجاتك المرًة

أيتها الثرثارة سأدور مع لبَّانك

أسميك البَطِرَة وأمدد سيقاني في شمس "البطرانين"

أسميك الربَّة وأرى إلى زهرة الحيض

اسميك السر ماذا تخفي حقيبتك ؟

أيها الفرو، أيها الرخام، أيتها الحمائم، أيها الغرين على الحُلمات، أيتها المياه المشعَّة فوق الشفائف،

مَن يغوي من ؟

سأمني نفسي يا أنثاي بأنثى

سأسميك السميرة وأضجر منك

الطاهية وآكل شفتيك

الرتيبة وأعود إليك

أناديك

بيروت 1982

طالما سيتساءل الرجل الحاذق فيما إذا لم يكن عجباً أن يغيب الجسد في الشعر العربي الحديث، وتطغي التهويمة والفكرة، ان تغيب اللذة وتحضر كل أشكال التأمل والندب والصراخ الداخلي والاحتجاج العاطفي والنشيج الوطني. وهذه كلها شرعيات الحضور بالطبع، شرط أن لا تطغى وتتكبر كما تفعل حقاً منذ أكثر من نصف قرن

 

أليس من العجب أن يؤجِّل الكائن إعلان الكلام الداخلي، الأكثر صدقاً، لجسده هو نفسه، وينفي مفردات رغائبه الأكثر حميمية ومخياله الأكثر صراحة واغتباطاً

 

مستغرباً ساءلتُ نفسي، منذ منتصف السبعينات كيف ان صحافة اليسار - وكانت يومها (طريق الشعب) – لم تكن تقيم وزناً للشعر الغزلي، في الوقت الذي يُفترض ان تكون فيه سبـّاقة في الخوض بمياه أكثر طليعية. أية علة يمكن ان تمنع القلب الوطني من ان يتحسر على إنثاه كما يتحسر على شعبه؟ ساءلتُ نفسي. عبثاً، فالوقت العربي لم يكن، وربما حتى اللحظة، وقت تساؤل من هذا القبيل، فهو يعيش كارثة انسانية وأقتصادية وإجتماعية نشهد عواقبها المتتابعة في بداية القرن الحالي. عبثاً رغم شرعية التساؤل. واحدة من القصائد القلائل التي نشرتها في تلك الصحافة كانت قصيدة غزلية طويلة عنوانها (آه … أيتها الطفلة السماوية) وفيها يتبدى هذا النـزوع الى غزل حسي خَفِرٌ لكن مسكون بعمق، وبحساسية شاب في بداية العشرين، بخفة الجسد الأنثوي والتداعيات التي يثيرها في ذاكرته. كانت القصيدة تتمسك بتناقض ذاك الإحساس المبكر للذكر المتلمس بدايات فوراناته غير الرومانسية، وهو يتأرجح بين الرجس والطهارة إذا ما استعرنا مفردتين من قاموسنا الديني، أو بين الرغبة الصريحة والتأسي المرمز، الغامض. ثمة دائماً إشارة الى الغامض، الكوني، الرمزي والمقدس القابع في الإيروتيكي أي في تلك المساحة الواقعة بين التوق لإمتلاك الجمال الحسي والتأمل فيه

 

في سياق ثقافي مهموم بما يحسبه الضرورة والهوية والصراع، فان مثل هذا التأرجح، مثل هذا الموضوع لن يكونا مفهومين البتة ولن يكونا مقبولين الا قليلاً. واحدة من ردود الفعل جاءتني من شاعر حزبي وكان يجادلني في بناية اتحاد الأدباء العراقيين، كأنه يعاقبني، عن جريرة نشر هذه القصيدة. كنت في بداية العشرين، لامع القلب ومنتصباً. مع موضوع مثل ذاك كنت أحسب نفسي اقع على جوهر الإستعارة التي تضيء الطرفين المعتم والمضيء من هذا القمر الغبي الذي هو الإنسان. قدر ما كنت شغوفاً برصانة الشريف الرضي، بفرادة المعري، بحكمة وذاتية المتنبي، بالعمق الذي يثير الشعر الجاهلي غباره، بطرفات جرير، بإستعارة البحتري التي تقول الأشياء مداورة (أي بعمق اكبر) بروح علي بن الجهم المستوفزة، بوحدانية زريق بن علي، بشعر الخوارج في كتاب الاغاني، كنت ايضا وبذات الحماس مشدوداً ومشدوهاً بإيروتيكية امرؤ القيس وطرفة بن العبد، بأبيات أوس بن حجر

وقد لهوتُ بمثل الريــم آنسةٍ تصبي الحليم عروبٌ غير مكـلاحِ

كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت من ماء أصهبَ في الحانوت نضاحِ

أو من معتقة ورْهاءَ نشــوتها أو من أنابيـب رمـان وتـفـاحِ

ومن ثم بلغة عمرو بن ابي ربيعة، بأبي نواس وعصابته، بشعر سيدات العرب وخاصة الشاعرات الإماء التي تحتوي على بلاغات اخرى غير بلاغات الرجال. هؤلاء الشعراء والشاعرات الأيروتيكيون كانوا يستفزون، عبر الجسد، جرحاً كبيراً لدى الكائن الآدمي المشغول بالحكمة الصافية. هذه الأخيرة تبدو في تاريخ الفكر وكأنها امتياز للعرب وللساميين من قبلهم وللآسيويين من بعدهم. الحكمة الطاهرة التي تؤجل الرغبة.لكن اولئك الشعراء الإيروتيكيين كانوا يعلنون الحكمة ذاتها، ويا للغرابة، عبر تعطش الجسد للجسد. بين الشبقي والنبوي من يستطيع ان يُرسـِّم الحدود؟ ربما نبي الإسلام لوحده صلى الله عليه وسلم. كانوا يعلنون الطهارة عبر الرجس ومنهم تعلم المتصوفون المسلمون الكبار وهم ينهمكون بغزل محض حسي من اجل إعلان شأن اللاحسي. كم تبرهن على ذلك نبرات (ترجمان الأشواق) لإبن عربي. من دون شك فان ابن عربي كان يعرف حق المعرفة الشوق الجنسي عينه ولم يكن يستعير، فحسب، قناع لغة غزلية مألوفة معروفة، ولكنه يتسامى بها نحو معانٍ أكثر جلالاً

 

وعوداً إلى تجربة اللذة في الكتابة من دون اقنعة صوفية أو غيرها، فأظن ان انجازها رهين بوعي مغاير الى حد بعيد، وعي يشتبك بضراوة مع اشياء العالم، ويهجر الوعي المشاع المقيم على افكار مريحة، لكي يذهب الى المناطق الأكثر توهجاً. ان قصيدة حسية أي إيروتيكية ستصطدم بالضرورة مع الوعي المسترخي الـمُستند الى نظام تعاطٍ جماعي، مقبولٍ للغة نفسها. ان تفجُّرَ اللغةِ يحتاج الى موضوع متفجر منظور اليه من زوايا منسية أو مهجورة. لكم أراد الوعي العربي الراهن ان يطمس الجسد، أن يقلل من شأن الرغبة الجنسية أو يدجنها من دون جدوى، وهو يعلن تعارضاً بيِّناً مع التعاطيات الخفية للرجال والنساء العرب المقالة اليوم عبر الأنترنيت في إطار تعبيرات فجة لكنها دالة لجهة تفنيدها للحشمة الإجتماعية المنافقة

 

سوى ان زاوية نظر مهجورة تحتاج الى افق حقيقي من الحرية الداخلية. ضمن منظومة من الإعتبارات الفكرية الفاسدة وممارسات القمع السافر للإرادة الأنسانية، خاصة بتعبيراتها الأدبية، فانه لم تتوفر لشعرنا (أو الا للقليل منه) فرصة انضاج قصيدة ايروتيكية. لن يتهيء لنا بروز شاعرة معاصرة مثل الإيرلندية ماري دورسي التي ستكتب مثلاً مخاطبة الرجل

 

(فخذاك، بطنك- / في نعومتها وقوتها-/ ثدياك فجأة؟/ تكبر الحلمتان في يدي/ لمعان ظهرك/ تحت كفي/ ردفاك في نعومة الشعلة/ جلدك- ذلك الجلد الداخلي/ مثل حرير/ فمك، مثل بستان ملؤه الفاكهة/ يقطر عسلاً على لساني/ أزهار البحر المشدوهة تحت الماء/ تترنح وتتمايل/ مع كل لمسة يتغير جلدك/ صوتك، فتنفتح الأرض/ ويرتج القمر

 

انّى لنا بذلك ونحن نتحرك في داخل غرفة معتمة محكمة الإغلاق؟ لهذا السبب فان وعياً يفارق المألوف الغزلي لا يظهر الا لماماً وعلى إستيحاء في الشعر العربي الحديث. إننا سنعثر على ابيات أو تعبيرات تود الإنفلات من مدارات التعبير المقبول لكن هذه الشذرات لا تشكل نوعاً أدبياً الا لدى البعض وفي السنوات الأخيرة فحسب

 

لهذا فعندما أعاود قراءة نصي (العذراء) سأعثر على محاولة تعبير ايروتيكي مقالة على وجل مرة أخرى. انها تود اقتناص ما خُيّل اليّ تفكير صبية متفتقة للتو عن زهرة الرغبة في وحدتها. لكن نصي المعنون (أنثى) المكتوب سنة 1983 في طرابلس لبنان والمنشورة في مجموعتي (أستغاثات) الصادرة سنة 1984 يصرِّح تصريحا. اسمح لنفسي بإيراد القصيدة كاملة هنا بسبب وضوح مقاصدها وأهميتها كذلك في تجربتي

 

"ثم قالت / – لاتخف…لا تخف/ ووضعت شمسها في يدي/ وعلقت محبتها على قلبي/ وكان العقل سعيداً في شرفته العاليهْ/ - لا تخف …لا تخف/ رأيتُ ثدياً على العشب/ ولذة تلمع كالسكين على كتفيها/ وبروقاً تتطاير من الجسدْ/ - لا تخف…لا تخف/ وتقلّب في السؤدد، في الأهواء، في النيران، في المس../ وكانت تتقدم نحوي برغوات وعصافير/ كانت تتفتح/ - لا تخف… لا تخف/ مثل هواء كانت تتسع/ مثل موت يلبس تاجاً/ مثل ورد يتفتح/ - لا تخف… لا تخف/ خُذْ يدي، ودعْني ارتّل/ كانت تخطر في الضوء/ حيث نوارس تتمرغ قرب قدميها/ وأبوابٌ تصطفق لعريها الظافر/ كانت تتقلب بين شهقةٍ وخدَر/ بين جرحٍ وأمومهْ/ بين وعودٍ وقصب طري/ كانت تتقلب تحت مطر احتفالي/ حيث رجال يختضون وكأنهم خرجوا من أسطورة/ حيث أحزمة وشرائط وميداليات للجنون/ حيث خواتمٌ ربانية منذورة للكمال/ حيث الجسد يغرّد/ والعواصف مُعطـّرةٌ/ والرخاء مطلق/ - لا تخف… لا تخف…يا حبيببي

 

في هذا النص تظهر، صراحة، الإستجابة الى لغة شعرية مشحونة بتصريحات إيروتيكية غير مترددة. سيندغم التوق العاطفي بالهيمان الجسدي ويتوحد العاشق بالمعشوقة عبر دلالات رمزية محض جنسية. لم يفوت عباس بيضون في مقالته المنشورة في (السفير) عن المجموعة الإشارة الى هذا النص عينه ولو بحس انتقادي. هل هي مصادفة ان يُكتب هذان النصان في أجواء الحرية الكاملة اثناء اقامتي في بيروت 1980-1982 ثم 1983؟ لا أظن أبداً. ان التجربة البيروتية هي تجربة الحرية بمعناها العميق. لحسن الحظ فانني قد خرجت من العراق باكراً، أي انني لم أتكون الا جزئياً، الا تجريبياً في بغداد. ان شدة التوتر الإنساني في بيروت كانت وحدها القادرة على مخض الأساسي لدى الكائن الحساس

 شدته وكذلك أهمية التنوع في الرؤى والتيارات والافكار والاساليب الأدبية كما أساليب العيش التي حكمت فترة بداية الثمانينات البيروتية تلك. في لبنان ثمة حرية من دون الكثير من الشروط المحبوكة على الطريقة العربية التي تلغي في النهاية أية إمكانية للحرية. بعد حصار بيروت وخروجنا، فان أية عودة الى الشروط السابقة على تجربة الكائن الحر في بيروت لم تعد ممكنة بالنسبة لي. ان الأجواء الرخية لحركة الكائن وطلاقته في القول والتعبير ومن ثم في التصرف بجسده كانت حاضنة لتفتق نصوص لا تغترف من القاموس واللغة والأساليب الطاغية. حاضنة لتخصيب النص ومدّه بالنسغ الكافي لكي يزدهر. ليست مصادفة بالمرة ان اتحسس مواطن جديدة لتطوير نصي في بيروت

 

سأروي كيف إنبثقت في تلك الأجواء قصيدتي (ثمة الحرس ايتها العالية). كنت اتردد في سنوات 1980-1982 على مقهى كنا نسميها (مقهىجورج) باسم مالكها، وهي تقع أمام آداب الجامعة اللبنانية (حيث كان البناية التي يقع فيها منـزل الشاعر أدونيس). كنتُ أشعر على أية حال ببهجة كبيرة في التردد على المقهى حيث يلتقي ثلة من الطلبة اللبنانيين والعرب والصحفيين والكتاب وبعض الشعراء، أتذكر عادل فاخوري اللحظة وطالب يمني يدمن شرب البيرة. المتوسط كان على مقربة وهو يببعث بأنسام رخية والصبيات في غاية الطلاقة، تلك الطلاقة اللبنانية التي كانت تحتوي في آن على كرم جم وحضور طاغٍ. بعد أن أنجزتُ نصي (نص النصوص الثلاثة) كنتُ قد قررت العكوف نهائياً على أعمال نثرية طوال تحاول، فحسب، قطيعة مع الأنماط الشعرية المهيمنة، وتطلع شعريتها كل مرة من همٍّ مقيم حقيقي وتفترض أن الكتابة هي تجريب متواصل لكن حول موضوعات محددة. كنت فتى في بداية العشرين جامحاً، هاجماً بشفتين غليظتين، وكنتُ قد قررتُ إجراء نقدٍ واضحٍ لتربيتي ولأخلاقي ومجايليّ من العراقيين، والإندغام مع نمط تفكير آخر، روحي وأخلاقي، يجد في الثقافة الشامية (لو صح هذا التعبير وحُمل على محمل توصيف محايد) الأكثر رهافة في تقديري، ملاذاً روحياً وأخلاقياً. لنضف هنا أن حضور حركة المقاومة الفلسطينية في بيروت في تلك السنوات قد أنعش وخصَّب كل فكرة جديدة. فعلى الرغم من أننا يمكن أن ننقد اليوم (فكر المقاومة) من وحهات كثيرة وأن نعيد تقييم ممارساتها على الأرض، فأننا لا نستطيع إلا القول أن حضورها الثقافي كان قد ساهم بتفعيل الأفكار والإتجاهات والأساليب وخلق خلفية تتعايش عليها الأجيال والأشعار والتيارات المتناحرة ورفع الاختلاف المنظور إليه، عربياً، على أنه الشر الأكبر، على أنه الخروج من إجماع الأمة، إلى مصاف حقيقة أساسية من مصادر انتعاش المقاومة الفلسطينية نفسها التي، مداورة، أنعشت الفكر العربي: فلقد كان بالإمكان أن تتلاقح وتتخصب أراء وأفكار جد متباعدة قادمة من مصر وسوريا والعراق واليمن والبحرين وفلسطين وليبيا، وأن تقدم حركة المقاومة الدعم المادي للسينمائيين العرب وأن تشغِّل الصحفيين في مؤسساتها الإعلامية وأن تضم الجميع مثل طير كبير يقع على عش هائل. بين جناحه الأيمن وجناحه الأيسر كانت تتحرك كل الرياح واللغات، من (جماعة الرصيف) الهامشية إلى ورق مجلة (الكرمل) الثمين، من اليسار العراقي المتطرف إلى مأذنة جامع جمال عبد الناصر، المرابطون، من أبو أياد إلى النأمات الهشة، الرومانسية الخارجة فحسب من أجل جرعة كبيرة من الحرية والبيرة، من لكنة غزة الى لهجة (مدينة الثورة) البغدادية، من بخور (القدس) الى تجارات الشام. إختلاط خلاق منح للشعري، للروح الشعري نسغاً متصاعداً وللقصيدة العربية لغة أكاد أقول جديدة. إن جميع اللغات والاساليب الطالعة فيما بعد في الوطن العربي تجد أساساتها في تلك الفورة الشعرية في بدايات الثمانينات. كان يتوجب على الفلسطيني لكي يرفع جرحه إلى مصافٍ أكثر روحانية، أكثر تألقاً، وأن ينقل (نضاله) من السياق السياسي والعسكري، سأقول المعروف والمبتذل، إلى سياق الجرح الوجودي، كان يتوجب عليه أن يندغم بالجدة والجديد وأن يحتضن، ربما مرغماً، كل نبرة مارقة، كل صوت خافت لكن اصلي يدعِّم تألق ذلك الجرح

 وهكذا كان. إن كل مغامرة في اللغة وكل نزوة عابرة وسريعة في الحياة اليومية السرية للكائن العربي، ستتحقق، ولو جزئياً، في بيروت في ظل المقاومة. كانت اللغات تتلاقح وكانت الكائنات تتفتح عن حريات مختلفة أكثر شهوانية.وكما كان الجسد يعلن عن نفسه في شواطيء (الرملة البيضاء) كانت مغامرات الشعر كما مغامرات الرجال والنساء العرب المقموعة هناك، تفوح هنا

 

كنتُ سعيداً وكانت غلظة عائلتي اللغوية تشف وتتحور يوما بعد يوم. كنتُ قد ورثت عن أبي حبه الجم للأنثى، الأنثى النوع ( أو الجنس s ex كما نقول في العربية بخلط فادح) وليس بالضرورة للأنثى الجسد (على الأقل هكذا كان معروفا لدى بنات العائلة…) لكنني، جهاراً، كنتُ مثاراً بالإضافة الى ذلك ببيضوية تكوينها الذي يجد تعبيراته الواضحة في إستدارات الخدود والأثداء والعجيزة، بل حتى في تكوين الكف الأنثوية المستديرة غالباً وفي التكويرة النهائية البينة لدى مشيتها، مقارنةً بخطوط الرجل المستقيمة وزوايا جسده الحادة في كل مكان التي تثير بدورها مخيلة المرأة كما يبدو. كانت هذه الإستدارة تبدو لي ملغزة وذات معان غامضة اردتُ إقتناصها في ذلك النص. لكنني لم اكن قد فكرت ملياً بمغزاها العميق بعد. لاحقاً عندما سأتعمق في النص التراثي سأجد تأويلاً لشغفي بتلكم التكويرة. ففي نص لأخوان الصفا يرد: "وكذلك إذا نظرتَ وتأملت واعتبرت وجدتَ أكثر ثمار الأشجار وحبوب النبات وبذورها وأوراقها مستديرات الأشكال، أو كُريّات أو مخروطات قريبة من الإستدارة. وهكذا الثُقَب التي في أبدان الحيوان الى الإستدارة أقرب ما تكون. وهكذا أشكال أواني الناس، وأدوات الصناع وأرحيتهم، ودواليبهم، وآبارهم، والكيزان والغضائر والقدور والأقداح والقِصاع والخواتم والقلانس والعمائم والحلي والتيجان أقرب الى التدوير" وهو تفسير يبدو لي معقولا، معقولاً فحسب لجهة جمال وسرية وكونية الجسد الأنثوي البيضوي

 

عندما أفكر اليوم بـهذه القصيدة يبدو لي ان هناك اشياء اردتُ قولها لاواعياً ربما : اردتُ إكتناه العالي، عبر الأنثوي، عبر غزل صريح يُخرِّج المعاني من شكل الشفة وتكوين الجبهة (المكتوبة بالخط الكوفي) والإندغام الجسدي بالآخر. عبر المفارقة كذلك. المفارقة الواقعة في ان الشغف بما هو انثوي يحمل في طياته عنفاً خفياً، او واضحاً كما هو الحال اثناء المباضعة، (اسميك الغزالة وأحرض عليك أسدي)، والواقعة من جهة أخرى في معرفتنا بالحقائق الأكثر ابتذالاً في الجسد الأنثوي (اسميك السر، ماذا تُخفي حقيبتكِ؟) وبالحقائق البيولوجية (اسميك الربة وارى الى زهرة الحيض). هذا الوله متصاعد مع ذلك وغير منطفيء رغم هذه المعرفة. هنا يقع كل سر الإيروتيكية التي تتلامس تلامساً جلياً مع التصوف. يعلن الإنهماك بإلتصوف والإيروتيكية كليهما مفارقة ظاهرية لنتوقف أمامها ملياً. يبدو تاريخ الرسم قادراً على تقديم أجابات مقنعة لعلاقة من هذا القبيل. فان مسألة الجسدي تنطرح في تاريخ الفن بصفتها تعبيراً عن الالهي، عن المقدس. تظهر هذه المسألة في الأشكال والتعبيرات اليونانية كتوصيف للتوازن الرفيع الذي يحكم الطبيعة والذي يعبر عنه الجسد الادمي العاري

 

لقد ظلت مسألة الجنسية Sexuality في التاريخ الفني، في أوربا كما في الشرق الهندي والياباني، فاعلية أصلية للكائن لا تستدعي المخاوف ولا الطهرانية، فالأمثلة التي تقدمها على حد سواء بعض جداريات بومباي Pompéi، التماثيل الحجرية الفالوسية الكريتية، التماثيل النذرية fugurines الصغيرة الرافدينية، رسوم الجرار اليونانية والمنحوتات البارزة في المعابد الهندية (دون ان ننسى الكاماسوترا)، تنقل الشبقي الى مصاف التعبد والى مصاف الطقس الروحاني

 

أما في التاريخ الإسلامي فلم ينظر الى الجنسية هذه الا على كونها الممارسة الأكثر لصوقاً بالطبيعة الادمية. لم يكف النبي محمد عن التشديد على عاديتها والحث على استظهارها ولو باطار شرعي (ذاق عسيلتها وذاقت عسيلته). سنشهد، في العصر الذهبي للاسلام، ولادة أدب أيروسي رفيع المستوى (التيفاشي 1253 والنفزاوي 1324) مكتوب على أيدي شيوخ مبجلين ومحترمين ثقافياً. أما على مستوى تاريخ الفن الإسلامي، فأن الاستبعاد المنافق للجسد لم يمنع من حضوره في رسوم وتماثيل أوائل الخلفاء الأمويين (في قصر عمرة مثلاً من القرن الثامن الميلادي) أو في قصور العباسيين (قصر الجوسق في سامراء في زمن المتوكل 861). لقد كان ما هو شبقي، مرة أخرى، يعبر عن الالهي في البشري. هكذا يظهر الإسلام، من بين جميع الأديان التوحيدية الأخرى، وكأنه الأكثر تماساً مع ما يعتبر دنساً، مع الرغبة المدانة ومن اللاتطهرية

 

ان القاعدة العامة في تاريخ الفن هي الانحناء على الجسد الأنثوي كموضوع جمالي. لقد كان يجري الأفتراض بأنه يختصر جميع مشكلات الجسد ويجسم الأشكال الأساسية في الطبيعة، ويصير مناسبة لطرح الأسئلة على الشبقي

 

في بحث تشكيلي متواضع أنجزته في جنيف في سنة 1995 (27 عملاً منفذة غالباً بالحبر الصيني) كانت هناك رغبة بتحويل بؤرة الاهتمام هذه إلى الجسد الذكوري من أجل طرح بعض الأسئلة عن جنسية الرجل، ضمن علاقة تشي بالطرفة كما بالمرارة كما بالغرابة. فالجو العام الذي يحيط هذه الشبقية الذكورية كما رسمتها يبدو وكأنه طقس سحري، كأن عالمه لا ينتمي الى العالم، وان ثمة عزلة عميقة تحكم العلاقة مع الأنثى. ثمة توكيد ساخر على القضيب (هذا الفالوس اليوناني Phallus) الذي يصير، على ما يبدو، في مخيلة الذكر العنصر الأهم من بين جميع عناصر جسده. يبدو هذا الفالوس وقد تضخم بشكل غريب وتوتر وارتفع لوحده كتعبير عن ايروس الرجل. الأسئلة تنطرح كلها إذن ها هنا على الرجل الذي من دون أن يكون لوطياً أو مرضياً فأنه يبدو مهووساً ومتوثباً، في حين تبدو الأنثى في حالة من التراجع ومن الاستسلام الشارد لكن الذي يفصح عن قوة عميقة : المُسْتـَلِم والـمُسْتَسْلِم ليس بالضرورة ضعيفاً. ان الديكور الذي يوحي بعزلة مطبقة في هذه العلاقة يريد التشديد على الطبيعة الطقسية للفعل الجنسي، أي على القدر الذي يتضمنه هذا الفعل من المقدس. الرغبة المصرَّح بها التي تقولها الرسوم تخفي توقاً لنوع من اتحاد صوفي. لنعيد القول ان جميع المتصوفة المسلمين قد عبّروا عن رغبة بالاتحاد الالهي عبر رموز محض جنسية. عندما نقرأ ابن عربي وابن الفارض على سبيل المثال فاننا في الحقيقة أمام نصوص جنسية بالدرجة الأولى، بل نصوص تتغزل مرات بالمذكر. وعلى أية حال فان اتحاد الصوفي بربه مثل اتحاد العاشق بمعشوقته لا يمر الا عبر تجربة الجسد الذي ينحني ويتعمد بماء اللذة الجنسية، المقدسة لهذا السبب. يغدو الجسد معبراً الى تلكم الرعشة الكهربائية السامية والأخيرة التي هي القمة الأخيرة للعزلات كلها

 

إن نبرة (ثمة الحرس ايتها العالية) تظل تنبض بنشيد، بغنائية تود ان تتعالى بالايروسي الى مصاف سحري أو ديني. جلب الشاعر رسمي المدهون انتباهي مرة الى ان هذا النص هو (نشيد إنشاد) معاصر، وهو يريد ان يصف الطقسية الدينية المتخفية في ثناياه الدينية أي الصوفية ليس الا

لقد كُتب هذا النص في بيروت سنة 1982 في بيروت، وكان مؤملاً ان يُنشر في عدد من مجلة (الكرمل) سوى ان الحصار الإسرائيلي لبيروت أجل نشره ولم يظهر الا في العدد 19/20 لسنة 1986 من المجلة نفسها ثم انه لم يُنشر الا في مجموعتي (كيف) الصادرة سنة 1998 ويبدو انه لك يمر مرور الكرام أمام أنظار قراء الشعر

 

تبرهن كتابة هذا النص ان جيلنا من بين جميع اجيال الشعر العربي قد امتلك الحساسية المبكرة لإعلان موضوعات كانت الى ذلك الحين من قبيل المكروهات، المحرمات أو المرفوضات التي لا تمت الى عالم الشعر بصلة. ان كبار الشعراء العرب يعودون متأخرين الى الإيروسي متأثرين في الحقيقة بأسلوبنا الصريح في التعاطي مع الموضوع

 

أتذكر في هذا السياق ان الشاعر الكبير سعدي يوسف قد قدّمني، بكرم وأخوية شعرية، في نادي اتحاد الصحفيين اليمنيين (اليمن الديمقراطي سابقاً) سنة 1982 او 1983. وقد فكرتُ انه من المستحسن ان أقرأ فحسب نصين طويلين، الأول يعبر عن هاجس اللحظة تلك وهو نصي (حصار بيروت) الطويل الضائع اليوم. والثاني يعبر عن حساسيتي وما أحسب فرادتي وهو (ثمة الحرس ايتها العالية). أثناء القراءة لا أدري لماذا شعر الكبير سعدي يوسف بالحرج الشديد، متدخلاً ومتوصلاً الى مقاطعتي من إكمال القراءة، لتنتهي الأمسية بشكل بارد ولأشعر أنا بالإرتباك الشديد من موقف شاعر أكنّ له، بالأمس واليوم، أكبر الإحترام. جاء الحرج في الغالب من الإعتقاد بان من غير المستحسن، بله المحرج الإعلان في بلد يساري عن نص فواح بالرغبة الجسدية، ففي ذاك البلد يتوجب، على ما يبدو، الوقوف فقط في مقام الخطاب السياسي، الوطني المبجل

 

هذه المقاطعة تحتاج الى وقفة نقدية، ذلك ان سعدي يوسف نفسه سيصدر سنة 1995 كتاباً شعرياً مزيناً بأعمال العراقي جبر علوان تحت هذا العنوان (إيروتيكا). ما الذي حدث بالضبط في وعي شاعر كبير لكي يمنع شاعراً شاباً، سنة 1982، من قراءة إيروتيكاه ليكتب هو بعد 13 سنة كاملة عن الموضوع نفسه. يتوجب البحث عن جواب لهذا السؤال المقلق في مكمنين

  1. شدة هيمنة السياسوي، اللاشعري، بله الأخلاقي (بمعناه القبلي) طيلة حقبة كاملة من عمر الشعر العربي، التي أثرتْ بعمق في لغة وروح الشعر ومن ثم أجّلتْ الإعلان عن نبرات ولغات جديدة

  2. إمكانية تأثر الشعراء جميعاً من الأجيال كلها بعضهم ببعض

لستُ الوحيد من أشار الى النقطة الأخيرة، وقد سبقني آخرون. هذا التأثر طبيعي وموضوعي طالما ان حركة العالم لا تذهب بإتجاه واحد، وإنما هي متعددة الاتجاهات. سوى ان مقاطعة قراءة (ثمة الحرس…) المريرة تبرهن بعد هذه السنوات على صواب التفكير بثيمات أخرى غير الثيمات المستقرة. لقد أثرت في روحي بعمق تلك المقاطعة وساءلتني، وعبرها تساءلتُ عن المسكوت عنه، عن المطمور الذي يراد طمسه نهائياً في الحساسية الإنسانية لدى العرب. انتهت الأمسية باردة لكن القصيدة بقيت ساخنة

جنيف – تموز- 1999

نشرت هذه المادة في مجلة *الشعراء*/ العدد 13

العودة الى صفحة المقالات