Shaker Laibi
القصيدة المستحيلة
ملاحظات عن القصائد المكتوبة عن محمد الدرة
شاكر لعيـبـي
إزاء الحدث الفلسطيني الجلل اليوم، علينا الاعتراف ببرودة دم ان العرب قاطبة قد اكتفوا بالحماس العاطفي وباستخدام الكلام المشحون بالتوهج والارتباك النفساني والتوتر العاطفي لوحدها. كأننا أمام إرادة لفظية عربية في مواجهة إرادة الحديد والقوة الاسرائلية. كأننا نكتفي بالقيام بدور الشاهد (ربما شاهد الزور) على ما يحدث بوصفنا متفرجين غرباء عن الواقعة تاركين الفلسطينيين والاسرائيليين يقومون بدور اللاعب الفعلي، القوي أو الضعيف، القاتل والقتيل في دورهما الدرامي على المشهد لوحدهما
ما هي قيمة الكلام الطنان أمام الدم؟
سنأخذ القصائد المكتوبة عن الطفل محمد الدرة كمثال على الكيفية التي يستخف بها الكلام المنطوق، والكلام الشعري هذه المرة، بالحدث الفعلي. ثم على الكيفية التي يتراجع بها بعض الفضاء الشعري إلى مستوى ودور لا يرقيان حتى إلى مستوى الشهادة التاريخية والأخلاقية
ففي مجمل القصائد المكتوبة عن الدرة، ثمة نية مخلصة للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني. هذا التضامن من طبع لغوي محض. فمن دون فعل مجسَّد، أي فعل مادي قائم على الارض، يصير النص ضرباً من التنغيم العاطفي المترف. إنها، غالباً، قصائد شعراء ينعمون في بحبوحة شخصية طفيفة، ملهمة ومترفة، وهم والحق يقال، يتطلعون بين الفينة والأخرى إلى ما يجري حولهم، لكي تستوقفهم مرارة مشاهد العالم الخارجي القاسية. إنهم يتوقفون للكتابة عن ذلك كأشخاص برانيين. هذه القصائد تقع خارج الحدث وغير مصدومة به إلا كما يصدم البعض بمشاهدة فقير هندي معدم في شوارع بومباي. هذا الفقير ليس جزءً عضوياً من الروح العميق للشاعر وليس فقرة مهشَّمة من فقرات عموده الفقري. إنه (الغريب) الذي نتطلع نحوه بنوايا في قمة الصدق. النوايا لوحدها لا تكفي في المشهد الفلسطيني حيث تختلط قضية الأرض وفورانات الدم والثأر التاريخي ومنطق العنف في خلق مأساة أرضية لم تشهد لها البشرية مثيلاً من قبل. لسنا إزاء مأساة شعرية إغريقية لم تحدث أبداً ولكننا أمام حدث حقيقي وأثر ملموس وجرح نغَّار لا تكفي الكلمات والقصائد المكتوبة على تلك الشاكلة في توطينه في الضمير الثقافي العربي، وقبل ذلك توطينه على أرضه الجغرافية المحسوسة
تبدو القصائد المكتوبة عن الدرة وكأن ما يحركها هو ضمير مستتر، خارجي، طيب القلب ولكنها ضمير يشيح بوجهه عن المشهد إذا جد الجد، تاركاً إياه لشأن الفلسطينيين اليتامى على المشهد وحجارتهم العنيدة، أو للشأن الدولي بأروقته المعتمة وألاعيبه ومصالحه الاستراتيجية
هذه القصائد، في مرات أخرى، تبدو وكأنها نشيج طويل في رثاء الذات الكاتبة نفسها، الميتة التي لا تقوى على الارتقاء إلى نبضة الدم العبيط
أليس أمراً ذا دلالة كبيرة أن قصائد كثيرة عن الدرة كُتبت بروح واستعارة وقاموس كلاسيكيات، وعلى نمط القصيدة العمودية الصادحة بقوافيها ونغماتها الحماسية، كما لو انه تقبع في هذه الاستعارة والعمود القديمين رؤية روحية وفكرية لا تمتّ إلى زمن (وقوع حدث الدرة) بصلة. لا تمت إلى زماننا بصلة، كأننا نخاطب حدثاً وقع في الماضي البعيد، وها نحن بعد آلاف السنوات نقف لنتأسى عليه، كأننا نكتب عن سقوط الاندلس، كأننا أمام انتهاك المغول لبغداد، كأننا لسنا في زمن حقيقي مشهود، مأساوي
لا أخشى القول أن (فلسطين) وليس حدث الدرة الفاجع، كاشف الخلل العربي المتغطي بجلالة الشعر وحصانته، فلسطين نفسها نادراً ما شهدت نصاً عربياً يرقى إلى مستوى آلامها، إلا من طرف الشعر الفلسطيني في أرقى نماذجه. أليس في ذلك دلالة بليغة على غيبوبة الوعي التاريخية، ودليلاً على نبذ المصيري والجوهري لصالح الهامشي والطفيف. أزعم بأننا لا نجد نصاً شعرياً عربياً واحداً يحاكي العذاب الفلسطيني. ربما سنلتقي بأغنيات لفيروز مكرسة لنكبة 1967 وليس بشعر عربي راق عن الموضوعة ذاتها
هذا الصمت هو نوع من إشاحة الوجه عن الحقيقة، هو برهان عن أن الذات العربية لا تريد مواجهة نفسها جدياً أثناء الموضوعات الكبرى. إذا ما استثنينا أسوأ الشعر العاطفي الكلاسيكي ذي الرنين العالي، فلم يفكر أحد البتة بإقامة (أنطولوجيا فلسطين في الشعر العربي المعاصر) وذلك أن النصوص، ببساطة شديدة، لا توجد إلا نادراً. وإن وجدت فإنها من قلة العمق والنـزوع العاطفي المبتسر بمكان. إنها لا تتصاعد إلى مستوى نصوص معمَّقة عن ضياع (المكان) وعن (إهانة الكرامة) والتاريخ العربيين المعاصرين. إهانة عميقة جداً لا يريد أحد أن يصرِّح بها لأنه لو فعل فأنه سيجرح شعوره الشخصي المتكبر، المتصنع والمتضخم
غياب هذا الانطولوجيا يدل على أن فلسطين أكبر من الكلام اللفظي العربي. وأن مواجهة هذه الحقيقة لهو أمر في غاية الصعوبة. ربما لن تدخل القصائد المكتوبة عن الدرة إلى التاريخ الأدبي بصفتها شعراً عميقاً عن الجرح العميق للمكان المضيَّع. إنها لا ترقى إلى مستوى أية تراجيديا يونانية ضعيفة المستوى لأنها نوع من كوميديا عربية تتقنع بالأسى والأسف وتتلبس النوع الأدبي الأكثر نبلاً، أي الشعر، كقناع لضعفها الوجودي. لهذا السبب ستظل فلسطين إلى أجل غير مسمى نوعاً من (قصيدة مستحيلة) في الشعر العربي المعاصر. ما عدا النماذج الفلسطينية المعدودة عن الأرض فإنها قد أنتجت شعراً عربياً كثيراُ مكرساً للتأوهات. هناك فرق حقيقي بين من يكتب عن رثاء المكان المُسْتَلب بالحديد والقوة، وهم القلة المرهقة، ومن يكتب في رثاء شمعة تستلب نفسها بنفسها، وهم صغار شعراء عصور الانحطاط العربية الذين طالما بكوا ذوبان الشموع دليلاً على ضعفهم الداخلي وذوبانهم في الظلمة
العودة الى صفحة المقالات