مستويات القراءة وطبقات القراء

 

شاكر لعيبي

 

 

يبدو لنا مأزق (القراءة) و(المقروء) اليوم في العالم العربي مدوياً. إنه لا يظهر فحسب في انحسار (المقروء) لصالح (المرئي) وكلاهما في الثقافة العربية مشكلتان معرفيتان، ولكن في هجوم مرئي غير أصيل، مقلِّد على مقروء ذي أصول تاريخية منحسر.

 

ليس لأزمة القراءة عندنا مثيل في ثقافات أخرى لم يمنع الحضور الكثيف للوسيط المرئي فيها من حضور القرّاء ونشر الكتب على نطاق واسع. أزمتنا من نوع آخر مختلف تماما. نوعٌ هجين.

 

ولكي لا تتبعثر فرضيتنا حول القراءة في تراكم أدبي إنشائي غير مقروء، لنحدد المستويات الممكنة السائدة اليوم من (القرّاء) في العالم العربي:

 

1- هناك من لا يقرأ مطلقاً، وهذا يشكل نسبة عالية في الأوساط المتعلمة ، ويطوي مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية من أدنى الهرم الاجتماعي حتى أعلاه.

 

2- هناك من يقرأ لكي يعيد لاحقاً صياغة الأفكار التي يلتقيها ناسباً إياها لنفسه.

 

3- هناك من يقرأ لكي يقتنص، فحسب، بعض الأفكار لكي يردَّ عليها.

 

4- هناك من يقرأ لكي يؤول ما يقرأ على مزاجه، أو ليؤكد فكرة مسبقة عن الكاتب منطبقة بذهنه بشكل غير موضوعي.

 

5- هناك من يقرأ بطريقة خاصة تؤكد له أفكاره هو، حتى لو لم يتضمن ما يقرأ ما يؤيد أفكاره. إننا هنا أمام عملية تأويل ذاتي محض.

 

6- هناك قرّاءٌ يقرأون قراءة عرضية في الغالب، قراءة لا تتفحص قدر ما تمرق بعجالة فظيعة على الأسطر. المشكلة هنا أن الكثير ربما لا يجدون النص مهماً للتوقف عنده بإمعان ولكن نواياهم، على الأقل، سليمة تماما بشأن إرادة القراءة. هذا النمط من القراءة يفوِّت، على ذهن ساهٍ، نقاطاً أساسية في النص المقروء.

 

7- هناك من يقرأ وهو لا يرى (جديداً) على الإطلاق فيما يقرأ، لأنه يعتقد بأنه يمر على أفكار يعرفها منذ زمن طويل لكنها مصاغة، لا أكثر، بطريقة أخرى. إننا هنا أمام مشكلة التحديق بالمرآة وانعكاساتها.

 

8- هناك من يقرأ للمؤلفين الذين يعرفهم (شخصياً) ويخلط تصوُّره، الجيد والسيء، عنهم بمضمون كتاباتهم.

 

9- هناك من يقرأ للمؤلفين الذين لا يعرفهم شخصياً البتة، ونتائج القراءة هنا مثمرة في الغالب وموضوعية نسبياً.

10- هناك قرّاء مجهولون نادرون، يقرأون بعمق نادر وهم لا يشكلون أية ظاهرة في الثقافة العربية المعاصرة.

 

11- هناك من يقرأون فحسب للأسماء (اللامعة) والشهيرة أو التي نثير أعمالها الفضائح أو تكون عرضة للمصادرة والرقابة وهم يدخلون غالباً في سياق (ثقافة الإشاعة) التي حللناها ذات مرة في مقال لنا.

 

12- هناك شاردو الذهن الذين يحسبون أنهم يقرأون بينما هم لا يقرأون على الإطلاق. وهذا ضرب سايكولوجي. إنها قراءة السائر في نومه.

 

على أن هذه المستويات تتداخل يقيناً فيما بينها، ويمكننا اعتبار هذا وذاك منها شيئا واحداً، لكن نتائج هذه الأنواع من (القراءة) مأساوية. لقد بلغت نسبة المبيعات من الكتب مرة صفر % فقط لا غير. ففي بيان للناشرين أثناء أحدى معارض الكتب في مدينة الإسكندرية نقرأ: "السيد مدير عام ادارة المعارض.. الهيئة العامة للكتاب، يرفع هذا لسيادتكم اصحاب المكتبات ودور النشر العارضون المشتركون في معرض منتدي القلعة من 20 يوليو إلي 11 أغسطس 2002 (...) لكن نظرا لأن المعرض الأول المقام في القلعة ونحن أول ضحاياه حيث نسبة المبيعات صفر % فعليا ونظريا لأن تسويق وبيع الكتب والأدوات التعليمية المساعدة هي مصدر دخلنا ورزقنا الوحيد، وان نتيجة تواجدنا في المعرض حتي الآن لاشيء ماديا".

 

على أن هناك نتائج مأساوية غير متوقعة ناجمة عن هذه المستويات من (اللاقراءة) نلتقيها كل يوم في حقول الثقافة العربية. في استعراض الصفحة الثقافية لجريدة (اللواء) البيروتية لمجموعة شعرية صغيرة تتضمن مقدمة نقدية يذهب الأمر الى حد بعيد، ويُدرج الخبرُ عنوانَ المقدمة النقدية على اعتباره عنوانا لقصيدة من قصائدها، لأن المحرر لم يكلف نفسه حتى عناء تقليب المجموعة واكتفى بالفهرست.

 

وأظن بأن انحسار القراءة هو تجل عن انحسار الأدوار المناطة بالمثقفين وبالأعمال الفكرية والأدبية في العالم العربي. لا يريد أحد من مثقفينا الاعتراف بهذه النتيجة، بيما يريد خصومهم  تجريمهم لوحدهم وتحميلهم عبء ما آل إليه الوضع العربي برمته. كلا الموقفين مُلتَبِسٌ ومُرْبكٌ.

 

واحدٌ من مسببات سيادة المستويات هذه من القراءة هو اختلاط الأدوار بين منتجي الثقافة ومستهلكيها، حيث القرّاء هم المؤلفون والعكس بالعكس.

 

وثاني تلك المسببات هو فقدان الجمهور العريض الثقة بالنص (المكتوب) المعاصر، أياً كانت طبيعته، لأن هزائم العالم العربي قد فُسِّرت على ضوء فشل المضمون الذي كان يبشر به النص وما كان يدعو إليه مبدعوه.

 

ثالث تلك الأسباب هو انفراط عقد الفضيلة الثقافية وغياب البعد الأخلاقي في الوسط منتج النص. لا أحد سوف يقرأ من الان فصاعداً لدجالين منافقين يقولون شيئا ويفعلون شيئاً آخر. أضف إلى ذلك أن العالم الثقافي العربي يشهد تناقضاً فادحاً على هذا المستوى يتجلى في التالي: كلما تقلصتْ الهوة الجغرافية والإنسانية بين مثقفي العالم العربي، كلما انشدوا إلى كتل وتكتلات إقليمية وطائفية وقطرية وحتى دينية. المثال اللبناني هو مثال باهر ويلخص ما قد يحدث في رقعة أخرى من عالم العرب. لا أحد يثق ويقرأ نصاً طالعا من طهاراتٍ مشكوكٍ بها. وبعبارة أخرى فإن دخول الثقافة العربية العولمة، التي يُفترض أنها تفتح، من الوجهة الإيجابية، أبواب العالم على بعضها، لم يحدث، أي هذا الدخول، إلا عبر بوابات ضيقة كما نرى الآن، حتى لكأن القبيلة العربية والطائفة تستعيدان أمجدهما عبر قنوات هذه العولمة وتعلنان زهوهما. هكذا سنرى أن الكثير من الصفحات الثقافية لا علاقة لها ببعد شمولي وأفق متفتح لأنها تتطوي على علائق محض شخصية، سنقول أنانية وعقلية جزيرية (من الجُزُر) المنغلقة على نفسها ولا تعترف بالجزر الأخرى المتماسة والمشتركة معها بصخب الأمواج ذاتها. كيف سَيَقرأ قاريءٌ في ثقافة تعلن جهارا نهاراً ظاهرة كهذه؟ وبالطبع فإننا لا نتكلم هنا عن ثقافات ملتزمة أو متحزبة من حقها الإعلان عن خصوصياتها واستبعاد نصوص خصومها. وبالمناسبة فإن قرّاء هذه الثقافات ملتزمون بقراءة دقيقةٍ للناطقين الرسمين باسمهم وبصحفهم ومنشوراتهم. وهؤلاء هم من قد يكون القراء عن جدارة في العالم العربي.

 

لا أحد يقرأ في زُحمة مثل هذه، رغم وفرة عدد المتعلمين وخريجي الجامعات. الكل يطوي كشحاً عن القراءة لكي تطلع منها المستويات والطبقات الموصوفة المفترضة هنا.

 

للفكرة القائلة أن منتجي الثقافة هم مستهلكوها نتائج أخرى: أن من البديهي أن تنشأ حروب طفيفقة ومعارك حول عملية القراءة نفسها ويتهم المثقفون بعضهم بإساءة وبتأويل وبعدم قراءة ما كتبوا، طالما أن القاريء ليس بمرجع اليوم، بينما المرجع المعرفي الحق موضوع في الهامش وليس بمرهوب البتة. إنه هو نفسه لم يعد، إلا قليلا، يحترم وظيفته المرجعية. لقد خلط نفسه الخضراء بالقش اليابس كما يدل أكثر من مثال من الشعراء والقصاصين والنقاد والمسرحيين. كيف يمكن لقاريء اعتيادي أن يعترف (وأن يقرأ بالتالي) بمرجعية الكاتب الفلاني المتهافت لسبب من الأسباب، أو من دون سبب، على المال جهارا؟ ثمة مشكل عام تطلع منه نتائج القراءة كلها.

 

إن سيادة الكتب المنشورة على حساب مؤلفيها المستشرية اليوم تضيء في آن واحد مشكلة المرجعية ومشكلة عزوف القرّاء عن القراءة. فالطابعون كتبهم على حسابهم يريدون اقناع القراء بسقوط أية مرجعية، وإنهم باسم الحرية المشروعة، يصيرون هم أنفسم مراجع لأنفسهم، وأن أدبهم رفيع للغاية لكن لا أحد بقادر على منحه قيمته ونشره. هكذا سيطبعون على حسابهم الخاص كتبهم ويقومون بتوزيعها بالعملة الصعبة من جيوبهم. فعلهم بطولي بالفعل سوى أنه يستخف بالقرّاء في نهاية المطاف ويتراجع بعملية القراءة إلى درك، ذلك أنه يُربك هذه العملية المنطقية البسيطة: أنشرُ لك لأنك أثبت منذ بعض الوقت جدارة ولأن خبيرا عارفاً قرأ النص واقترحه عليَّ أنا الناشر. العارف ساقط من حساب كهذا لأنه يُعتبر بمثابة رقيب قمعي لا يفقه بالتيارات الجديدة ولا يعي ضرورات الأجيال الأحدث سناً. لا يصل كتاب المؤلف الذي ينشر على حسابه عبر قنوات الناشر المحترف المدروسة، ويضيع أو يصل اعتباطاً ويشيع الاعتباط في الثقافة. ومن نتائج الاعتباط الفوضى وضياع المعايير المتجلية في انصراف القراء عن القراءة.

لا أحد سيقرأ بشروط كهذه، ولا أحد سيقرأ بشروط مماثلة.

لا أحد سيقرأ.

لا أحد يقرأ.

والحابل مختلط بالنابل.

 

أبو ظبي 15-7-2002