شـاكر
لعـيـبـي
طبقات
القرّاء...
وطبقات
المستمعين
في
مقالة
نشرناها في
إحدى الصحف
العربية في
لندن (بتاريخ 2002 -
9 –18) بعنوان "مستويات
القراءة
وطبقات
القرّاء"
صنّفنا بنوع
من المرارة
والجدية في
آن، القرّاء
العرب إلى
اثنتي عشر
طبقة لا تبدو
واحدة منها
صارمة وقادرة
على القيام
بشراكةٍ مع
المؤلف في
صياغة العمل
المكتوب. وبدا
لنا وجود
انصراف واسع
من طرف غالبية
المعنيين
بالثقافة عن
هذا الجهد
النبيل
والمعرفي
الذي هو
القراءة.
لسنا
لوحدنا من
يزعم هذا
الزعم. هناك
الكثيرون ممن
يقولون بهذا
الرأي. لم يعد
أحدٌ يقرأ،
الجميع يمرُّ
بسرعة على
الكلام.
استهدفت
تلك المقالة
الكلام (المكتوب)بالطبع،
على أن الكلام
(المسموع)كذلك
لم يعد (مقروءاً)،
ولم يعد يثير
توقّفات
نابـهة. يضرب
السهو
الثقافي أعمق
مما يظن جميع
المعلِّقين
على مشكلة
غياب القرّاء.
بين
ما هو مكتوب
ومسموع
ومقروء ثمة
جدل ضيق
الحدود.
الاستماع مثل
القراءة
يحتاج إلى جهد
ونباهة
وتكرُّس
للموضوع
المقروء أو
المسموع.
نحن
هنا
أمام فرضية
أخرى: ثمة
الآن، على ما
يبدو، (غياب
للسَماع) إلى
جوار غياب
القراءة. لو صح
هذا الأمر
لتوجب
الاعتراف أن
إشكاليات
ليست
بالحسبان
تضرب في
أساسات
الثقافة
العربية.
لقد
برهنت مواقف
جماهير واسعة
في العالم
العربي
والكثير من
مثقفيه،
بمناسبة سقوط
نظام الطاغية
صدام، أن
المسموع
والمقروء
كليهما كان
يجري
الاستخفاف به.
لقد كان يجري
الاستسلام
للأوهام ولم
تكن النصوص،
نصوص الطاغية
أو نصوص
مناوئيه،
لتجد آذاناً
نابهة صاغية،
ولم تكن
كتابات
معارضيه بشكل
خاص تُحمل على
محمل الجد.
القراءات
مشوشة
ومندمجة
بالأمنيات
والأحلام
والتمنيات:
نصوص الطاغية
يُبالغ في
تـَمَنِّيها
ونصوص
معارضيه
مُبالَغٌ
بالحطّ من
قيمتها
المعرفية
والروحية
والجمالية.
نصوص
الطاغية كانت
نصوصاً
مسموعة في
الغالب على
هيئة خطابات
متلفزة،
ونصوص
معارضيه على
شكل نصوص
مكتوبة
ومقروءة. وبين
هذا وذاك كان
المسموع
والمقروء (وربما
ما زالا) في
مهب ريح الوعي
العربي.
وربما
يكون واحد من
الأدلة
النصية على
استماع ملتبس
في ثقافة
العرب هو كلمة
صدام حسين
المقبور التي
قيل للأمة
العربية إنه
يعتذر فيها عن
"غزو الكويت".
لقد كتبتُ
محاولة نصيّة
سريعة في
استكشاف
بواطن هذا
النص، كدليل
على التباس
مشكلة
القراءة
والاستماع في
العالم
العربي، ولم
تقبل الكثير
من الصحف
العربية
نشرها يومها.
على
أن قراءة نصية
حتى لو كانت
لخطبة من خطب
صدام حسين لا
يفوت أوانها
أبداً رغم
اندثار
الطاغية
العراقي،
لأنها قد تقول
معنى ودلالة
عن مشكلة
القراءة (ومن
ثم إشكالية
السَماع) التي
ما زالت تؤرق
شريحة واسعة
من ثقافتنا.
سأقول
أولاً إنني
لست معنياً
بالشأن
السياسي
المباشر. إن كل
مسألة تدور في
نطاق راهن
العراق أو
ماضيه ليس من
شأن هذه
المقالة، قدر
ما يعنيها
استخدام (الكلام)
وطريقة (قراءته)
في الثقافة
العربية.
لقد
شددت كبريات
صحف العالم
العربي
وفضائياته
وكبار صحفييه
وصغارهم على
أن الأمر
يتعلق بخطاب
أدبي يعتذر
فيه قائله عن
غزو الكويت.
لقد قُرئ فيه
فحسب التراجع
عن جريرة
الغزو؟ هل هذه
القراءة
دقيقة
بالفعل؟
لنقرأ
أولاً الفقرة
المذكورة
كاملة عن غزو
الكويت
المشدَّد
عليها من طرف
الإعلام
المكتوب
والمرئي (أي
المسموع):
"إننا
نعتذر إلى
الله من أي فعل
يغضبه سبحانه
إنْ كان وقع في
الماضي مما لا
نعرف به
ويُحسب على
مسئوليتنا
ونعتذر لكم
على هذا
الأساس أيضا".
ولنتمعن
قليلاً بهذه
العبارة
المستخدمة،
الملتبسة
المكوَّنة في
الحقيقة من
أربع جملٍ
متواليةٍ
ولنرَ فيما
إذا تقدم معنى
بالفعل (اعتذاراً)
أم تقول شيئاً
آخر، أم لا
تقول شيئاً.
1-
"إننا
نعتذر إلى
الله من أي فعل
يغضبه سبحانه".
لا يوجد هنا أي
شئ يشير إلى
اعتذار عن غزو
محدّد لبلدٍ
محدّد، بل هو
اعتذار إلى
لله عن أي فعل
على الإطلاق
قد يغضبه
سبحانه.
2- "إنْ كان وقََعَ في الماضي": هذه جملةٌ احتماليةٌ وشرطيةٌ، بمعنى أن قائلها يعتذر فحسب (إذا)، وإذا فقط كان قد حَدَثَ فِعْلٌ ما في الماضي. وبالطبع كلنا نجهل جهلاً مطبقاً فيما إذا كان قد وقع أو لم يقع فعلٌ مأساويّ محدّد في هذا الماضي، كأن الماضي ضارب بالقدم بحيث أن هناك شكاً عميقاً بحدوث أو عدم حدوث واقعة محددة فيه. نحتاج إلى جمهرة من المؤرخين ليقولوا لنا : إن كان قد وقع أم لم يقع.
3- "مما لا نعرف به ويُحسب على مسئوليتنا". هذه العبارة مهولة، بعد الـ (إنْ) التي قذفتنا في شكٍّ عميق. إنها تدلّ على أن مؤلف الخطاب ربما لم يكن على علمٍ بوقوع ذاك الحدث الذي ربما يكون قد وقع في الماضي.
4- "ونعتذر لكم على هذا الأساس أيضاً". كلمة (اعتذار) تأتي الآن فحسب بعد جمل تشككُّ أصلاً وتموِّهُ على وقوع حدثٍ فاجعٍ هو غزو بلد من البلدان. يضيف المؤلف العبارة: "على هذا الأساس"..، أي أساس؟ وأي وظيفة تلعب الكلمة (أيضاً) في نهاية الجملة؟
ولكي
نطلع
باستنتاجات
معرفية يمكن
تعميمها
انطلاقاً من
هذا الخطاب
إلى حقول
ثقافية أخرى،
نقول إن ثمة
تمثيلاً
باهراً، في
الجمل أعلاه،
لنسق (الخطاب
المُلْتَبِس)
الذي يقول كل
شئ ولا يقول
شيئاً، وهو
نسق صار منذ
بعض الوقت
قاعدةً
ذهبيةً لمن
يجدون أنفسهم
في شرطٍ
مُحْرجٍ
ومنفعيٍّ،
أولئك
المتناوبين
المواقف بين
المنطق
السليم وهو
واضح دائماً،
ومنطق
المنفعة وما
يجاورها
ويشابهها
ويماثلها من
المواقف.
نمطٌ
مثل هذا
الخطاب ينطلق
غالباً من
كبرياء في
غاية التطرّف
يقود الكلام
في نهاية
المطاف إلى
التصريح بعكس
المعاني
المطلوبة،
ويَفْتَرض
الجهالة
بقرائه
والمستمعين
إليه.
لكن
ما حصل عملياً
في الثقافة
السياسية
للعالم
العربي أن
الخطاب بجمله
الغامضة التي
لا تعتذر عن
غزو الكويت،
قد اعتبر (اعتذاراً)
صريحاً
بليغاً عن
واقعة الغزو.
كيف يستوي هذا
الأمر وكيف
نفسّره؟ هل
هناك بلاغة
أخرى ومعانٍ
أخرى غير ما
تقوله الجمل
المكتوبة
والمنطوقة
التي قالها
مؤلف الخطاب؟
هل افترضت
الثقافة
العربية، من
محيطها
لخليجها، أن
الكبرياء
اللائق بقائد
وزعيم دولةٍ
على حافة
الحرب يومئذ
كان يمنعه من
التصريح
باعتذارٍ
واضح، وأنه
صاغه على هذه
الشاكلة التي
فُهم منها أنه
قَدَّم
اعتذاراً
بشكل ما على
أية حال؟
في
كلا الحالتين
يبدو لي أن قلة
قليلةً قد
قرأتْ، بدقة،
المعاني
المباشرة
والواضحة
لكلام رئيس
دولة عربية لا
يعتذر عن شيء
ملموس أبداً،
بل يضع أمر
الغزو
كاحتماليةٍ
وفرضيةٍ
مشروطة بحرف (إنْ)
الباهر،
الماهر الذي
لم يتوقف
أمامه أحد
تقريباً.
لا
أحد يتوقّف
أمام الكلام.
لا
أحد يقرأ إلى
درجة أننا
نفكّر، من باب
الطرافة
الدالّة ولا
شيء سوى ذلك،
أن نضيف
لمقالتنا "مستويات
القراءة
وطبقات
القراء" طبقة
جديدة من (اللا-
قراء) إلا وهي
طبقة (الأمة
العربية) التي
يقدّم
تأويلها
للخطاب موضوع
هذه المقالة
خير برهان على
ذلك... للأسف.