دفاعاً عن القاريء العربي
شاكر لعـيـبـي
من يطالع الصحافة الثقافية العربية اليوم سيرى إلى اختلاط الحابل بالنابل، وسيطالع إلى التحذلق بأعلى تجلياته المكتوبة التي تتخفى بالكلام البليغ
ثمة على ما يبدو وكأنه موتٌ للمؤلف لصالح انتعاش حرفة ثقافية مسبقة الصنع، ثمة ما كأنه موت للشاعر لصالح صعود الحائك على النول والناسج على القاعدة وعلى النموذج الشعري المألوف، ثمة نفي للصادق لصالح الكاذب، صعود للكتابة الضعيفة والرطانة على حساب الرصانة، ثمة التجهم في الأسلوب وغياب الحساسية بدلاً من الطرافة اللصيقة بالعمق والجديرة بنظر يحدق في الأعماق، ثمة تغييب للناثر ذو الطراز الرفيع وإحياءٌ لأسوأ تقاليد النثر العربي
إن تحوَّل الكتابة إلى مهنة من دون تقاليد مهنية تاريخية هو السبب في ذلك. فالكتابة مهنة وإنها مثل المهن الأخرى تحتاج إلى معايير وإلى تقاليد وأعراف وطرازات وضوابط
وإن الخروج على المعايير والتقاليد الكتابية والضوابط هو شأن من شؤون المتجاوزين الكبار المارقين على المعيار العام، في سلوكهم ثم في إنجازهم. لا تبدو إمكانية توافر هؤلاء جدية في الشروط الموضوعية في العالم العربي التي تعيش وتعتاش على تقاليد التخلف، في الحياة اليومية والسلوكات الاجتماعية والدوائر العريضة والضيقة، في العائلة كما في الشارع. المارقون الكبار هم إما من الهامشيين في الحياة الاجتماعية أو هم ثوريويون من نمط مزعج
ثم أن البوح العرفاني، الباطني والصوفي غير متهيء تماماً بدوره في عالمنا العربي.ذلك أنه لسبب منطقي يصير الباطني الصوفي اليوم ضرباً من إشاحة الوجه عن الواقع الأدبي والإنساني، وبالتالي يقود إلى الانزواء بعيداً في مقامات الأولياء الصالحين أو إلى التشدق بأصولية دينية فاقدة للحدس والوعي وذاهبة إلى الماضي المجيد لوحده، أي نافية للمستقبل
ثم أن قاعدة نفي المُغاير والمختلف في الرأي قد دفعت إلى نفي جزء أساسي وحيوي من الثقافة العربية إلى المنافي. يتجلى ذلك بحضور بضع صحف وتلفازات أساسية عربية في أوربا وليس في داخل الوطن العربي. كما لو أن الثقافة العربية لا تشعر بفعلها وبسعادتها إلا أثناء الإقامة الجبرية خارج مكانها الجغرافي الطبيعي
لا الصوفي ولا الأصولي المقيم في الداخل ولا الأديب شبه الحقيقي المهاجر، لا التقليدي المتشبث بالمعايير العتيقة ولا مدعي التجاوز بقادرين، كلهم، على منح الثقافة طعماً جديداً. إنهم لا يساهمون إلا بتعميق المشكل خالقين لأنفسهم ولنا، نحن القراء، المزيد من المشاكل
في نهاية القرن العشرين وبداية هذا القرن تتضح ملامح المشكل المزيد من الاتضاح: يشيح الجمهور العريض عن فعل الثقافة العميق وينصرف إلى السطح لوحده، إلى القشرة الخارجية البسيطة للثقافة، خاصة إلى أنواعها البصرية. وبفعل تاريخ معين للثقافات البصرية التي هي منتوج غربي، فان البصريّ يوضع، بشكل أساسي في خدمة ما هو استهلاكي ويصير وجهاً للدعاية والاستسهال. إنها ثقافة تُكرَّز كما تكرز المقشرات والمكسَّرات و(الشامية) ولباب البطيخ في صالات السينما
والطبع فإن (روايات عبير) هي الأعمال المقروءة على نطاق واسع من لدن القراء والقارئات العربيات، قبل روايات محفوظ وعبد الرحمن منيف، وبالطبع فإن كتب (الطوخي) في السحر والتنجيم تُباع على نطاق أوسع من كتب محمد اراكون وعابد الجابري وطرابيشي وأدونيس
إن الورطة لشاملة ومدوخة، وإنه يمكن تبرير الخراب الثقافي بشتى أنواع التبريرات. وإن المخرَّبين والمخرَّبين (بكسر وفتح الراء على التناوب) يفتشون عن عللٍ وأسبابٍ شرعيةٍ لأفعالهم وأسبابهم من دون أن ينفوا، جميعاً، أن ثمة خراباً ما وورطة ما لكن كلٌّ من وجهة نظره
ليست وجهات النظر المتنوعة في العالم العربي دليلاً على العافية، كما ليس دليلاً عليها فرض فكرة واحدة وحيدة، قدر ما أن وجهات النظر هذه دليل على التخبط في الظلمة والعشوائية: نوع من المتاهة التي تدوِّخ للحظة مستَهْلِك الثقافة العربي، ذلك أنها لا تستند على أصول جرى التثبت من دقتها وصحتها وفاعليتها. إنما هي مجرد وجهات نظر اعتباطية في الغالب
أمام المؤلفين والكتاب والصحفيين الشائعين اليوم في ثقافاتنا ما هي يا ترى أسلحة القاريء العربي وما هي مستنداته ومحاججاته المضادة؟ القليل جداً من الحجج والمعارف. فإنه إزاء جيش من المدججين بالكلمات والجمل والتنظيرات واليقين الفكري المطلق والحداثات والقصائد وتاريخ العرب ومعرفة الإسلام والشعر العباسي والأدب الفرنسي والانكليزي والشهادات الجامعية واللغات الأجنبية، نجد أنفسنا، نحن القراء العرب، من دون أسلحة فاعلة خاصة وأن معاهدنا العلمية وجامعاتنا لا تزعم، ولا تريد، الإنغمار جدياً بتلكم المعارف كلها، أو أنها تمر عليها بطريقة أكاديمية محضة (يعني غير معنية فعليا بالمعرفة التي تتطلب التساؤل ووضع البديهي على المحك)، وذلك أنها تتحايل علينا وعلى أنفسها لا توصم بالجهالة والتخلف.
أمام زحف الكلام المبهرج نظل، نحن القراء العرب، في ضباب اللايقين المعرفي، وإزار الهجوم الكاسح للعارفين نتبقى في مساحة الجاهلين، سنظل نقرأ على نطاق واسع (روايات عبير) وكتب (الطوخي) إلى حين…
العودة الى صفحة المقالات