شاكر لعــيــبــي

مقدمة للشعر العراقي الحديث

محاولة لتأسيس رؤية جديدة

 

على الرغم من أن تاريخ الشعر يضرب عميقاً في الوجدان الثقافي العربي، سوى إن إعادة نظر جدية وجذرية بمفهومة أكثر حداثة للشعر لم تحدث في العالم العربي إلا في أربعينات القرن العشرين

 

يمثل العراق الريادة الفعلية للشعر العربي الحديث. لقد قدَّم الانفلات الأهم عن مسارات الأشكال الكلاسيكية والأساليب المكرورة طيلة قرون، كما مثَّل الشعر الحديث الطالع بين ظهرانيه تحولاً كبيراً في معالجة الموضوعات القديمة، الثابتة، المنظور إليها بصفتها الموضوعات الوحيدة الجديرة بعمل الشاعر: المدح، الهجاء، الرثاء، الغزل،..إلخ

 

ولكي نضع الريادة العراقية المعروفة في سياق محدَّد، فعلينا أن نعرف أن أشهر أعلام الشعر العراقي حتى أربعينات القرن العشرين كانوا يمثلون نسقاً للمعرفة الشعرية السلفية التي تعاود، دون كلل، النسج على منوال واحد، نذكر منهم عبد الغفار الأخرس (1805-1874) وأحمد الصافي النجفي (1895-1977) وجميل صدقي الزهاوي (1863-1936) وحافظ جميل (1908-1984) وعبد المحسن الكاظمي (1865-1935) ومعروف الرصافي (1875-1945) وعلي الشرقي 1889-؟) ومحمد رضا الشبيبي (1888-1966) ومحمد سعيد الحبوبي (1849-1916) ومحمد مهدي البصير (1896-؟) وكذلك الكبير والإستثنائي محمد مهدي الجواهري (1903-2000)

كانت مجهودات هؤلاء تتنوع على الوتيرة ذاتها ولم يستطيعوا، خاصة، تقديم (رؤية) مغايرة لتلك الرؤية الكلاسيكية، وكانوا يكتبون وفق نهج يتمترس حول قيم بلاغية صارت قواعد نهائية للشعر بالنسبة إليهم. لقد كانوا، من جهة أخرى، يعيدون صياغة الأوزان والقوافي التي برهنت فاعلية تاريخية من دون أن يفكروا بإعادة فحصها وغربلتها. كل ذلك لأنهم كانوا، موضوعياً، يقيمون في عالم روحي وفكري ينتمي للماضي أكثر مما ينتمي للتغيرات الحاصلة في القرن العشرين

 

لم يغير من حقيقة هذا التمترس المريح في الماضي أن بعضهم كان يعلن، بين فترة وأخرى، تلك النار الكامنة في روح الشاعر، وتلك الإرادة بالتمرُّد كما هو حال الرصافي المتقلب من تناقض وجودي إلى تناقض، ذاهباً من مداهنة السلطة الملكية الفاسدة، إلى هجائها بشعر وطني ناريٍّ، إلى الارتماء والعيش لبعض الوقت في المباغي البغدادية، مثلما أن بعضهم الآخر كان يُشهر مواقف في غاية التقدم والجرأة كما هو حال الزهاوي المدافع باستماتة عن حقوق المرأة على الصعيد الإنساني، والـمُجرِّب على الصعيد الأدبي محاولات في (الشعر المرسل)، لا علاقة لها بأية حداثة. في حين أن الجواهري عبقري اللغة، كان لاعباً بارعاً على القاموس العربي الثري وكان رجلاً حيوياً ومتنوع النشاطات وساهم في كبريات الأحداث السياسية والوطنية والاجتماعية، وكان يقترب، كل مرة تتفجر فيها طاقته، من أرض الشعر الصافي

هناك أمثلة غير هؤلاء الشعراء الثلاثة ممن كان يتوسل الوصول إلى أرض الشعر لكن بلغة مكبوحة تفتقد، بشكل أساسي، للحرية الضرورية اللازمة للخروج إلى حقل الممارسة الأدبية الأكثر حداثة. ما كان ينقص شعرهم، على ما يبدو اليوم، هي رؤية أخرى للعالم، هو فكر آخر ومعرفة مختلفة عن المعارف السائدة. إن طبيعة المصادر التي غرف منها الشعراء الكلاسيكيون وإشاحتهم الوجه، بالتالي، عن عصرهم لم تكن تسمح لهم بتقديم (شعر حديث)

لم تكن الانعطافة الحاسمة بـمصير الشعر العراقي من نصيبهم إذن، رغم أن الجواهري العصي على التحديد ظل، هو الكلاسيكي، في قلب الفاعلية الشعرية العراقية بمراحلها كلها بحيث أن لا أحد يستطيع استبعاده من تاريخ إنتاج الشعر العراقي في القرن العشرين. الجواهري بهذا المعنى يشكل مفارقة من تلك المفارقات التي يمكن أن يشهدها تاريخ الشعر في العالم كله. انه يقع في منتصف الطريق بين الكلاسيكية المتجهمة ونوع مرتخ من (حداثة شخصيةٍ له) إذا صح التعبير، حداثة عفوية طالعة من إرادته القوية بقول العالم عبر الكلام الشعري. إن قصيدته (أيها الأرق) تعبِّر، إيقاعياً وروحياً وفكرياً، عن منتصف الطريق المحفوف بالمخاطر ذاك

 

لم يستطع مثل أولئك الشعراء أن يتخلوا، على وجه الدقة، عن صرامة (الشكل الشعري) التقليدي

لقد بدا لوهلةٍ أن موقفاً نقدياً من هذا الشكل، إذا لم نقل تطويره أو هجرانه، قد وضع اللبنة الأولى في تطوير الشعر العربي عبر المنجزات الأساسية التي قدَّمها رواد الشعر الحديث في العراق، نازك الملائكة (1923-..) وبدر شاكر السياب (1926-1964)

 

ويبدو اليوم أن تقبل الشكل الشعري التقليدي، أو رفضه، كان مرتبطاً بالمستوى الثقافي العام في بلد مثل العراق، فمن جهة، كان المرتبطون به قد تلقوا نمطاً من المعرفة التقليدية التي ترفض كل ما يمكن أن يـمس المعايير والقيم المدرسية التي ترعرعوا في ظلها، بحيث أن فكرهم نفسه كان مستمداً، بشكل غير مباشر، من الانحطاط الثقافي والسياسي والاقتصادي العام، بل كان حاضراً، بدهاءٍ، في شعرهم وفي مواقفهم من العالم. ولأن عدم المرتبطين بالشكل التقليدي، من جهة أخرى، كانوا يتعلمون للتو المعارف الأحدث بمدارس حديثة ومناهج أفضل من مناهج أسلافهم، ويتواجهون مع مفهومات ثقافية وأشكال تعبيرية جديدة مهما كانت درجة الالتباس التي تشوبها

كانت نزعة شعرية جديدة تتململ في مناطق أخرى من العالم العربي، في مصر وفي المهجر اللبناني: (مدرسة الديوان) (جماعة المهجر) وأشعار جبران خليل جبران وخليل مطران وعلى محمود طه وإبراهيم ناجي وأبو القاسم الشابي وإيليا أبو ماضي وعمر أبو ريشة. نزعة كانت موسومة، غالباً، بالرومانسية التي كانت تمنح (الخيال) دوراً أساسياً في عمل الشاعر

نظن أن الحركة الرومانسية العربية تشكل مفصلاً حيوياً في تطوير القصيدة الحديثة. فقد أطلقت الرومانسية، مستَلهِمَة التجارب الأوربية، العنان للخيال الشعري وارتياد الآفاق المجهولة حينها. كان ثمة انتباهة جديدة في شعر المهجر اللبناني، والشعر الرومانسي العربي، عامة إلى (الطبيعة) التي يبدو وكأنه كان يُعاد اكتشافها (أو اختراعها) لأول مرة في الشعر العربي. كما كان هناك في شعر الرومانسيين العرب الذين لم يتخلوا بعد عن صرامتهم الشكلية، محاولة لاختلاق أنواع مفاجئة وجديدة على الذائقة الشعرية مثل القصيدة القصصية. بالإضافة إلى ذلك فقد بدا جلياً كما لو أن الشعراء الرومانسيين كانوا يكتشفون (الذات) الشاعرة المغتربة عن الواقع بشكل لا شفاء منه. ذاتهم الحالمة، المستوحدة، المكتوبة على الدوام على طراز الشكل الشعري القديم، لا تُشابه أبداً أي صوت ذاتي مهيمن يمكن لقاءه في الشعر العربي الكلاسيكي. تاريخ الشعر العربي يقدِّم (اعتداداً متضخماً بالذات) ولا يقدِّم إلا نادراً (انكساراً حقيقياً للذات)

الذات المنكسرة، الحالمة، المتفتحة على الطبيعة كانت تُلقي بشعر طازج وطاريء على الشعر العربي وستكون في صلب عملية التجديد. وحسب رأينا فإن قصيدة مثل (لست أدري) رغم جميع وجهاتها الرومانسية يمكن أن تلتقي أوسع لقاء مع أوائل قصائد الريادة الشعرية العربية

 

كان ضرورياً لكي يتفتق الشعر العراقي الحديث عن (رؤية جديدة)، أن يعيد التفكير بالشكل وبالعروض. يقول الكثير من الباحثين اليوم أن الانطلاقة الأولى للقصيدة الحديثة في العراق كانت تقع بالتلاعب والمس الخَفِر، لكن المؤثِّر، بالعروض القديم

 

كان الأمر يتم على يد نازك الملائكة والسياب على استيحاء في باديء الأمر، وكان يجري تسمية الشكل الجديد من القصيدة العربية (بالشعر الحر) بإشارة إلى تملصها من القيود الصارمة للعروض المعروف على الأقل

إن قراءة نقدية لأوائل أعمال الملائكة والسياب تدلُّ، من دون شك، على انسلاخ جزئي من العروض ومن فكر الماضي، وتدل في الوقت نفسه على بقاء نسبي في نمط اللغة الشعرية السابقة. ما زال الاثنان، في عالم رومانسي يليق بأبي شبكة أكثر مما ينتمي لروح الشعر الحديث. لكنهما كانا، من دون شك كذلك، في صلب فكرة جديدة يومها على الشعر العربي ألا وهي فكرة (وحدة القصيدة) المقالة بخفوت. سيطوِّر السياب الفكرةَ لاحقاً بعد قراءته المعمقة لأليوت. وحدة القصيدة الحيية تبرز إذن، في هذه المرحلة، كبديل لفكرة (وحدة البيت) المألوفة المعروفة

 

غير أن هذه الاندفاعة العروضية المترافقة مع النـزعة الرومانسية، ستدفع الشعر، من داخله، نحو تطور راديكالي، بحيث أن القصيدة المعاصرة في العراق لن تبدو بحال من الأحوال، في خيرة نـماذج السياب والبياتي، تقليداً سافراً، حداثوياً قادماً من خارج تاريخ الشعر العربي، مثلما يمكن أن نلاحظه لدى بعض السورياليين المصريين أو غيرهم ممن يُقال لنا أحياناً بأنهم السباقون في تطوير شكل ومضامين الشعر العربي. يُضاف إلى هذا الأمر أن انحناء السياب على الأساطير المحلية والعالمية، كما تصعيده لما هو طفيف ولليومي، مثل النهير (بويب) والقرية (جيكور) والسيدة (وفيقة) و(شباكها)، إلى مصاف دالة وإشارة كونية يعزِّز فكرةَ تطوُّرٍ حدثَ في الصميم من الشعر وجرى المضي به نحو آفاق جديدة

 

هذا ستنبثق القصيدة الحديثة في العراق وفي العالم العربي

ومنذ اللحظة يمكننا الحديث عن ثلاث فترات في تطور الشعر العراقي منذ أواخر الأربعينات حتى يومنا هذا:

أولاً: الفترة التي تضم في آن واحد الرواد وفترة سنوات الخمسينات، ويمثلها خير تمثيل، بالإضافة إلى الملائكة والسياب، عبد الوهاب البياتي (1926-2000) وبلند الحيدري (1926-2000) ومحمود البريكان (1931-..) وسعدي يوسف (1934-..) وحسين مردان (1927-1972) ورشدي العامل (1934-1990)

ثانياً: الفترة المنبثقة في بدايات سنوات الستينات التي حملت نفساً شكلانياً صارخاً ونيَّةً، لم تتحقق بالضرورة، كانت تلح على (تـجاوز) السابقين ونفي المنجز حديث الولادة بدعاوى الذهاب بعيداً في تكسير الأشكال والموضوعات البائدة، ثم ريبتها بكل منجز شعري لاحق لها

ثالثاً: الفترة المبتدئة باستلام حزب البعث للسلطة في العراق (1968) إلى يومنا هذا وتضم جميع ما سمي على عجل بجيل السبعينات والثمانينات والتسعينات. وبشكل علم فقد جرى بحزم، في هذه الفترة، إيقاف أي نَفَسٍ لا يتطابق مع توجهات الدولة العقائدية، وسعيها المحموم إلى التبشير بنمط خاص من الشعر الذي يضع للدعائي والإيديولوجي أكبر مكان في الفاعلية الشعرية في البلد. في هذه الفترة تتعايش جميع الأنماط الشعرية السابقة، من دون أن تنحني أفضل نماذجها إلى خيارات المؤسسة الرسمية

تقسيمنا الجديد الحالي يريد أن يهجر نهائياً التقسيمات العشرية التي دأب عليها النقد في العراق: جيل الرواد، جيل الخمسينات، الستينات، السبعينات، الثمانينات، التسعينات التي تبدو لفرط هشاشتها وكأنها تلقي بفكرة القطيعة التامة بين الشعراء المختلفين بالسن، كما بفرضيةِ إضافاتٍ جوهريةٍ تحدث كل عشر سنوات، وهو أمر ليس صحيحاً أبداً إذا لم يكن محض طرفة وفكاهة

نلاحظ في هذا السياق أن تداخل التجارب والهموم الشعرية هو السمة الأساسية في هذه الفترات ونرى أن وطأة العالم الخارجي قد أثقل جميع الفترات هذه بشجونه. كما أننا نرى إن تضخيم الفروقات بين شعر الأجيال المختلفة هو أمر افتراضي ومتخيَّل، قائم على تراتبات وانساقِ فكرٍ اجتماعي ذي طبيعة غير شعرية، الأمر الذي لا ينفي وجود مفاصل ذات خصوصية تَسِمُ هذه الفترة أو تلك. هنا جدل يليق بحركة الأشياء في العالم لا يتوجب تخطيه لصالح الفكر التجريدي المهوِّم، ويتوجب بالتالي التشديد على خصوصيات تطور الشعر العراقي الحديث في فتراته الموصوفة ولكن بوضعها في إطار الاستمرارية والنمو وليس بإطار القطيعة المزعومة

 

سنلاحظ أن فترة الريادات، الأربعينية والخمسينية كانت تتمخض عن تجارب شكلية ولغوية من كل نوع. كان البياتي يوطِّد في الضمير الثقافي محاولته الشعرية في التعبير مداوَرَةً عبر الأقنعة. إن (قصيدة القناع)، حسب البياتي، هي النص الذي يتلبس فيه الشاعر صوتاً تاريخياً معروفاً ويجعله يتحدث بلسانه. كان البياتي لذلك يستعير أقنعة ابن عربي والمتنبي والحلاج وأبي العلاء المعري ووضاح اليمن والسهروردي والحلاج وعائشة وغيرهم، مختاراً من حيواتها تلك المنطقة التي يجدها جوهرية و(عبر-تاريخية) ويمكنها أن تقول الحاضر نفسه

بينما ما فتئ بلند الحيدري منذ ديوانه (خفقة الطين) عام 1946 يتنقل من لغة مباشرة، سهلة، غنائية إلى نص متعدد الأبعاد والأصوات في ديوانه (حوار عبر الأبعاد الثلاثة).

ثمة شعراءٌ آخرون مختلفو المشارب نضعهم في هذه الفترة بسبب اقتراب همومهم ولغاتهم واستعاراتهم من هموم الفترة وبلاغاتـها: محمود البريكان باقتصاده المحسوب واندفاعه نحو المطلق والشمولي، سعدي يوسف بانحنائه منذ مجموعته الأولى (القرصان) عام 1952 على اليومي والسياسي مصعِّداً إياه إلى مجال فاعلية أصلية للكائن الشاعر، مجرَّباً ومنقَّباً لاحقاً في الأصوات والأشكال كما في مجموعته (الأخضر بن يوسف ومشاغله) عام 1972. هناك أيضاً أعمال شاذل طاقة المنسي لسبب أيديولوجي والذي يتبقى عمله (المساء الأخير) عام 1950 واحداً من أوائل المجاميع المكتوبة بأجواء الحداثة الطالعة يومها، من دون إضافة جوهرية تُذكر. كان طاقة واقعاً تحت تأثيرات طاغية للسياب لكنه كان يجتهد على المستوى العروضي. ثم هناك رشدي العامل ورومانسيته الثورية منذ ديوانه (همسات عشتروت) عام 1951، من بين شعراء آخرين منهم على سبيل المثال: صلاح نيازي (1935-..)، وصادق الصائغ (1936-..) الذي ابتدأ كتابة الشعر العمودي في بداياته الخمسينية ناشراً إياه في مجلتي (الفنون) البغدادية التي كان يرأس تحريرها و(الآداب) البيروتية، قبل أن يكتب الشعر الحديث وينشره في الستينات لكي يُعتبر من حينها شاعراً ستينياً

 

إن الفترة الواقعة بين أول قصيدة مكتوبة على نمط الشعر لحديث في نهايات الأربعين وبين نهاية سنوات الخمسينات تنطوي على ملامح شعرية مشتركة، منها التمسك بشعر غنائي صدَّاح، مازالت بقايا رومانسية الرومانسيين عالقة به، ومنها تعزّز القناعة بجدوى شكل (الشعر الحر) وبأهمية معالجات نصية لثيمات ومفردات لم تكن تدخل سابقاً بسهولة في حقل الشعرية. قبل هذا فإن شعر تلك المرحلة كان يدأب على (التجريب) بالمعنى الذي يمكن أن نفهمه من انهماك الجمع الغفير من شعراء المرحلة باستثمار الإمكانيات التي يمنحها لهم وضع شعري مستجِدّ، وليس بمعنى (التجريبية) التي يمكن أن تحدث في واقع شعري واضح الملامح يستدعي تجريباً قصدياً، واعياً لأدواته وأغراضه من أجل تفجير الإمكانيات الأخرى القابعة في ثنايا الشعر. كانت الفترة إذن فترة الفورانات والتجريب والحماس منقطع النظير للشكل الحديث كما أنها كانت فترة المواجهات النقدية والنظرية مع أنصار القصيدة التقليدية الذين لم يرضوا بإلقاء أسلحتهم المجرَّبَة منذ 14 قرناً من الممارسة الثقافية

لكن هذه الفترة نفسها كانت تشهد، أكثر من أية فترة أخرى، انشداداً إلى الهمّ الوطني والسياسي. لم يكن ممكنا من، الزاوية الموضوعية، أن يفلت الشاعر العراقي من التغيرات الحاصلة في العالم الخارجي؛ صعود الفكر اليساري، نضالات الشعوب المسحوقة وسقوط الملكية في العراق في 14 تموز 1958. لم يتوانى السياب عن الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين الشعر والسياسة في العراق "السياسةوالأدب عندنا – يقصد في العراق- ممتزجان بشكل يتعذر معه الفصل بينهما"، وهي علاقة لم تكن تنتج، وبشكلٍ مفارِقٍ، نصوصا مسطـَّحَة وساذجة. على العكس من ذلك تماما فيلزم فهم هذا النـزوع السياسي في شعر هذه الفترة بالمعنى الإغريقي لكلمة سياسي police أي تلك العلاقة الحميمة بين الشاعر والمدينة city

 

إن كلاً من جيلي الرواد وما يُسمى بالخمسينيين يشكلان، تقريباً، نهجاً متماثلاً في إنضاج وتطوير القصيدة العراقية الحديثة، وذلك مهما تنوعتْ أساليب تعبيرهما. لم يشكِّل مجمل شعرهم هجوماً صريحاً كاسحاً على البلاغات والأوزان والموضوعات المهيمنة. وبالقدر الذي كانوا فيه يتخذون مسافة محسوبة وخطيرة مع تلك البلاغات فإنهم كانوا يستمدون منها بعضاً (أو كثيراً) من طاقاتهم في التعبير الشعري.

لم يتهيء انسلاخ واضح عن مظاهر وبقايا البلاغة والوزن والرؤية الخمسينية (المصابة بأثر التاريخ الشعري العربي الطويل) إلا منذ بداية الستينات. لقد تابع شعر هذه الفترة تطور المستوى التعليمي والثقافي في البلد لكي يشهد (انحرافاً) عن سطوة (المهيمن) اللغوي والاستعاري ضارب الجذور. يقف المرء، عند مراجعة شعر الستينات، أمام محاولة (شكلية) مهمة للغاية من اجل الذهاب إلى بعض المناطق المحرَّمة حتى ذلك الوقت، سواءً في الوعي بالعالم أو باستخدام اللغة الذي يشير بدوره إلى وعي، مقال مداوَرَةً، بالعالم نفسه

لنعد القول أن هذا الانسلاخ بقي جوهرياً من طبيعة (شكلية)، خصوصاً في الكثير من الأشعار التي تزعم تمثيلها للفترة الستينية. كانت هذه الطبيعة الشكلية، بل (الشكلانية)، ذات حدين وفعلين ثقافيين بارزين، فإنها، من جهة، استدارتْ بالشعر السابق نحو مناطق مثيرة لحساسية الشعر وهي تستخدم، بخفة متناهية في بعض الأحيان، الهواجس الجديدة للفكر العالمي مثل الوجودية والفوضوية ولغة اليسار المتطرف وغيرها، وهي من جهة أخرى كانت تستند إلى سطوةِ إبهارٍ عارمٍ لشكلٍ مزعومٍ سيشيح بوجهه عن أي شكل سابق، كما إلى جماليات مأخوذة، حرفياً، من الشعر الساخط والمتمرد في أمريكا وأوربا، من بين بعض المصادر الأجنبية الأخرى

لا تكشف جميع نصوص هذه الفترة بالضرورة عن معرفة العارف بأسرار الشعر، إذا لم تفضح عيوباً جمة، وتكشف عن استسهالات من كل نوع ربما ستُقارن، ويا للغرابة، باستسهالات الكثير من الشعر المكتوب في سنوات حروب العراق الطويلة القائمة منذ 1980، الذي لم يجد أمامه أية مرجعية إلا النظر في مرآة نفسه بجرأة. أشعار الستينات لا تستطيع كلها الوقوف جنباً إلى جنب مع عمق السياب وانسيابية البياتي ووجودية حسين مردان وتمرد الرصافي الكلاسيكي وحكمة البداوة في شعر الجواهري الكلاسيكي كذلك

 

لكن خيرة ممثلي الستينات، المشار إلى بعضهم قليلاً في صخب المراجع والكتابات الستينية، لا يقفون هذا الموقف الباهت ولا يمارسون شعراً هامشياً باهتاً رغم تهميش النقد لبعضهم. إن مراجع هؤلاء الشعراء مستمدة من المعرفة بتاريخ الشعر العربي وبالاحترام الجم لرواد القصيدة الحديثة في العراق: فاضل العزاوي (1940-..)، سامي مهدي (1939-..)، حسب الشيخ جعفر (1942-..)، فوزي كريم (1945-..)، عبد الرحمن طهمازي (1946-..)، حميد الخاقاني ومن ثم القاص والشاعر سركون بولص (1944-..).

يستحق حسب الشيخ جعفر انتباهة استثنائية بسبب سعيه لتطوير النمط الشعري المعروف (بالقصيدة المدوَّرة) التي يقدم ديواناه (الطائر الخشبي) 1972 و(زيارة السيدة السومرية) 1974 بعضاً من أفضل النماذج لها في الشعر العربي. لا يتعلق الأمر هنا بمجرد مسعى شكلي إنما، مثل أي مسعى شعري أصيل، بتداخلٍ بين (الشكلي) المستجِدّ و(الشعري) المحض. بينما يقدِّم فاضل العزاوي في (سلاماً أيتها الموجة) مثلاً انتهاكات مستمرة للغة العرب الثابتة وجرأة في الخوض بتابو المعاني شديدة الرسوخ في عالم الشعر العراقي، رغم كل ما قد يُقال عن مصادره الشعرية الأوربية. ويمثل فوزي كريم رصانة الشاعر العارف بإرثه وبأدواته واستعاراته، في حين أن حميد الخاقاني، المنسي غالباً بسبب قلة كتاباته ومنشوراته، يعاود مصالحة الفوضى الستينية العارمة بالمراجع الشعرية التقليدية ضمن لغة تراثية مشغول عليها لكي تصبح أكثر حداثة. أما فاضل عباس هادي المنسي هو أيضاً لكن بسبب مروقه الخاطف في عالم الشعر العراقي ثم انسحابه عن عالم الستينات، فيكشف عن جدارة شعرية قابعة في لغة حسَّاسة للداخلي، المتماوج حيناً والصاخب حيناً

إذا ما غضضنا الطرف قليلا عن مثابرة بعض أهم الأصوات الستينية الرصينة المسماة هنا، فإن الدعاوى عالية الصوت للستينيين كانت تقع في مشروع (تجاوز) الرواد والخمسينيين. كانت المسافة مُعْتَبَرَة بين (المشروع) وبين التحققات النصية الستينية. لا يشير التحليل النصي لكثير من نصوص الستينات إلى تجاوز مزعوم مقال مراراً وتكراراً في النقود ومعبـَّرٌ عنه بحماسة طفولية في أنطولوجيا مكرسة لهذه الفترة صدرت سنة 1993

لأول مرة في تاريخ الشعر العراقي ستنطبع بقوة فكرة (التجاوز) الغامضة والإطلاقية، المروَّج لها ستينياً، في ذاكرة الأجيال اللاحقة من الشعر العراقي، بحيث أن كل فترة ستزعم، موهومةً، تجاوزها للفترة التي تسبقها. يتوجب على الدارس أن يضع هذه الفكرة المفصلية نصب عينيه قبل قراءة الطروحات النظرية، المتماسكة أو الهشة، التي ينطلق منها مجمل الشعر العراقي منذ هذا الوقت بالضبط. نادراً ما نلتقي بفكرة مماثلة في أماكن أخرى من العالم العربي الذي يعلن بدلاً عن موضوعة (التجاوز)-بالزاي- العراقية المكابرة، فكرة (التجاور) بالراء المعجمة وفكرة (الإستمرارية). يتوجب البحث عن غياب (التجاور) هذا في مناطق لا تتعلق البتة بالشعر إنما بالبنية الاجتماعية والطبقية والعائلية التي تنبثق منها، كذلك، الثقافة العراقية

 

على الرغم من ذلك فإن أفضل نماذج الشعر في ستينات العراق كان يتماوج ويعتمل بروح متمرد جنيني. صحيح أنه كان شعراً شكلانياً لكنه كان ضرورياً قدر ما كانت الاندفاعة العروضية الشكلية ضرورية في تطوير النص الشعري الحديث

لا ينبغي اليوم تقديم مديح جاهل للشعر الستيني بوصفه التمرد الأكثر جذرية في مسار القصيدة العراقية ولا تقديم هجاء أكثر جهلاً لهذا الشعر بوصفه لغطاً شكلياً ولغوياً بعيداً عن كل معنى عميق. لا هذا ولا ذاك من الموقفين بقادر على استكناه الرجفة الحق المعتملة في جسد الشعر في العراق الذي مثَّل الستينيون لحظة من لحظاته المضيئة

 

لقد كان يمكن أن تتطور هذه الرجفة الجمالية باتجاه أعمق وأكثر أصالة وكان يمكنها بالفعل أن تفجِّر ينابيع جديدة في لغة القصيدة. سوى أن هذا الأمر قد حُدَّ وجُبَّ وجُوبِهَ بصراحة، بل أنه لم يكن ممكناً بسبب صعود الأيديولوجية الشمولية للسلطة سنة 1968. لقد صمتت الكثير من الأصوات الستينية لفترة طويلة بعد تلك السنة، ولم تعاود نشاطاً شعرياً خصباً إلا بعد سنوات من خروجها من العراق، بينما طلعت أسماء وسطية لا يمكن إدراجها في الستينات ولا في السبعينات، وظلت تتأرجح بين اغتراب الستينات وصعود لغة الايديولوجيا الصاخب في السبعينات (عبد الكريم كاصد، شوقي عبد الأمير، موفق محمد، مهدي محمد علي، رياض قاسم، وليد جمعة، مصطفى عبد الله، يحيى السماوي، مخلص خليل، حسين حسن، نبيل ياسين، حسين الحسيني، خالد الحلي، علي حسين عجة،..إلخ) وهي أصوات تحتاج لوحدها بحثاً منفصلاً يعالج خصوصية انبثاقها وانطفاء بعضها

 

كانت تلك الأيديولوجيا، بعد مناورات سريعة العطب، تسعى إلى تقنين نشاطات الكائن الإنساني ولجم إبداعاته في جميع الحقول وفقاً لرؤيتها شديدة الضيق

 

بالنسبة لمراقب محايد، غير عراقي، فإن عرقلة من هذا القبيل قد تبدو أمراً متعسفاً وإفراطاً في تحميل السلطة وزر فاعلية مثل الفاعلية الشعرية. أن التحول التدريجي للشعر إلى أداة إعلامية مثلما التدخل البطيء لكن العميق في تفصيلات الحياة اليومية للمواطنين وللشعراء العراقيين يمكن أن يفسّرا اندراج الشعر في نطاق الرقابة والإعلام الفظين (وهناك مثالٌ لضابط في الجيش كتب مجموعة شعرية بعنوان "وردة إلى عيون ليلى البعثية"). كان مسعى تفريغ الشعر من طاقته التأملية والمعرفية وتحويله إلى مجرد أداة بائسة محموماً: مرة باسم الأيديولوجيا، ومرات كثيرة باسم التغني بالحروب المتواصلة

 

لقد برهنت السنوات الممتدة منذ سبعينات القرن الماضي حتى مفتتح القرن الحادي والعشرين مفارقة وتفارقاً مع هذا المسعى، وبدا من الصعب جداً الانحراف بتاريخ الشعر العراقي برمته إلى مسار محض ايديولوجي يائس. أن تاريخ الشعر العراقي العريق لم يكن يسمح بهذا الأمر. لم يكن (قمع اللغة) الخفي في سنوات السبعينات من الجهالة بحيث يلعب اللعبة القمعية الفظيعة لوحدها. لقد فتحت السلطة العديد من الكوى وتشدقت بأجمل العبارات والمقولات للبرهنة على حيويتها وعلى تقبلها (للآخر) المختلف، لكن من أجل ابتلاعه فحسب. لقد أنتجت العديد من الشعراء من دون جدوى (عبد المطلب محمود، مرشد الزبيدي (1954-..)، خزعل الماجدي (1951-..)، ساجدة الموسوي (1950-..)..وغيرهم). سوى أن الشعر لم يستطع إلا الاتساق مع منطقه الداخلي مطوِّراً التجارب السابقة ومتجاهلاً، في نهاية المطاف، اللعب السياسية والإيديولوجية كلها. ولا تنقصنا الأمثلة لشعر متسق مع مناطقه الحميمة بأسماء مثل زاهر الجيزاني (1949-..)، رعد عبد القادر (1953-..)، خليل الأسدي (1951-..)، عقيل علي، جلال وردة، من بين آخرين

 

ها هنا تتفتح فترة جديدة في تاريخ الشعر العراقي تمتد لمدة تقارب الثلاثين سنة (1970-2000)، وفيها نلتقي الآن بالمفارقة التالية: من جهة لدينا شعر متماه مع تاريخ الشعر في البلد في نيّةٍ لاستيعابه والإضافة إليه، ومن جهة لدينا سلطة الأيديولوجيا العاتية التي يتوجب التعاطي معها ثقافياً وشعرياً

منذ بداية سنوات السبعينات، ستطلع في أفضل النماذج الشعرية العراقية نبرة تحترم الإنجاز المتراكم ولا تزعم امتلاكها لوحدها، مثل الستينيات، العصمة والمعرفة الشعريتين. لم تكن هناك رغبة (بالتجاوز) وإنما وعي بأهمية (الإضافة).

تعلن سنوات السبعينات الأولى الممتدة حتى يومنا هذا (حقبة ثالثة) ذات فضاء مشترك: أن الشعر فيها قد أنجز تحت شروط قاسية، تحت هيمنة القمع الاجتماعي والترويض السياسي، تحت ثنائية فكرية يقف في أحد طرفيها حزب واحد في السلطة، علماني المظهر، بينما وقف في الطرف الآخر الحزب اليساري الوحيد المسموح له بالعمل العلني لبعض الوقت. لكنه قد أُنـْجز، في أفضل النماذج المعروفة، كما يَليق بالجَمَال أن يُنجز.

لنلاحظ كيف جرى تداخل بين (الجمالي) (والآني): لقد قادت جميع الحروب التي شهدتها هذه الفترة، ضد المواطنين وضد البلدان المجاورة، إلى أمرين اثنين: إما شعراً مكتوباً في شروط (المنفى)، أو شعراً مكتوباً في شروط (الحرب). هذان العنصران جديدان بالكلية على الشعر العراقي

 

لنتكلم عن المنفى أولاً: لقد أطلق المنفى الشعر العراقي نهائياً من إطار (المحرَّم) اللغوي والقاموسي والاستعاري نحو أفق الحرية في التعبير الشعري، وهو يلقي أمام الشعراء نماذج أخرى (لشعرية) لم تكن سائدة في العراق. لقد شكلتْ بيروت ودمشق أولى منافي الشعراء العراقيين من مختلف الأجيال (وليد جمعة، جليل حيدر (1945)، صادق الصائغ، سعدي يوسف، هاشم شفيق (1952-..)، عواد ناصر، كريم عبد، مشرق غانم، منعم الفقير، عبد الكريم كاصد، فائز العراقي، حاكم مردان، مهدي قاسم، غيلان، آدم حاتم، سهيل نجم (1956-..)، شاكر لعيبي (1955-..)..إلخ. يشكُّل المنفى حقلاً لاختبارات شعرية جديدة. في هذا المنفى الممتد طويلاً حدث تخصيب للنماذج الشعرية العراقية المعروفة وجرى تطويرها على أيدي الشعراء العراقيين الجدد الملتقين بأقران جدد ذوي هموم وفهم مغايرين للشعر نفسه وللشعرية. في اللحظة البيروتية تلك، تلاحظ الباحثة فاطمة المحسن أن "من بين الجيل الشاب يمكننا أن نسوق هاشم شفيق وشاكر لعيبي كمثالين لإمكانية الحضور المنفتح للشخصة الشعرية العراقية المنغلقة في العادة على محيطها. فقد استثمرا تلك الصيغة في العلاقة المجدية بحاضرة ثقافية مثل بيروت، وثابرا على تطوير قصيدتيهما وإن باتجاهين مختلفين، ولكنهما يلتقيان في التصميم على الخروج من العزلة والانكفاء على المكان العراقي وهموم المنفى الضيقة"

 

ولو تكلمنا عن (الحرب) فسنلاحظ الآن حضور نبرة شعرية تشدد على على (العَدَم) و(العبث) الوجودي و(تخريبٍ) للغة. هذه العناصر الشعرية الُمشار إليها كلها فيما مضى من طرف الستينيين كخصيصة إفتراضية لشعرهم، كانت تجد تعبيراتها البليغة، غير المفترضة، في ما نسميه (بشعر الحرب) المكتوب بأقلام جمع غفير من الشعراء الحاضرين في سنوات الثمانينات والتسعينات. لقد كانوا يقومون بفعل مقاومة تراجيدي عن طريق الشعر بعيداً عن مهادناتِ وترفِ الفئات المستقرة، رغم حوار الأسلحة على الجبهات والقمع اليومي في مدن العراق

 

لم يتأسس شعر (المنفى) إلا جزئياً في داخل البلد، بينما كُتب شعر العشرين سنة الممتدة بين (1980-2000) في أجواء (رِهَاب الحرب) وتأمل (الحياة) بصفتها نقيضاً، لكن ليس تتمة، لفكرة (الموت) المهيمنة، وأَحْدَثَ، مثلما حَدَثَ في شعر ما بعد الحرب العالمية الأولى في أوربا وفي إلمانيا خاصة، تفككاً بنيوياً وانسرابات في كل اتجاه وإعلاناً لضجر وجودي وتداعيات وأجواء كوابيس مريرة منفلتة إلى مناطق اللاوعي. كما سنجد في بعضه الآخر أسى شديداً، وأحياناً استعارات من حياةٍ يوميةٍ جاريةٍ من دون طعم. في الكثير من النصوص المكتوبة في داخل العراق والمطبوعة بنسخ نادرة وبوسائل بدائية، فإنه باسم العدم والموت والخراب والدمار الروحي المحيق بشعرائه توصل الشعر العراقي إلى تفكيك، إذا لم نقل، تخريب القصيدة نفسها لكي تنسجم مع طبيعة الخراب الشامل. يتوجب، في تقديرنا، التوقف ملياً أمام النقطة الأخيرة فمنها تطلع جماليات هذا الشعر على وجه التحديد. وهو ما نلتقيه في شعر مكتوب باستعارات رصينة وأخرى أقل رصانة لدى الكثير من الشعراء الذين تكوَّنوا في داخل الوطن العراقي (محمد جاسم مظلوم، باسم المرعبي، دنيا ميخائيل، أمل الجبوري، سلام سرحان، عبد الرزاق الربيعي، عبد الحميد الصائح، محمد تركي النصار،..إلخ)

لكننا لو أخذنا قصائد الكتاب الذي صدر في هولندا مؤخراً تحت عنوان (شعراء عراقيون في هولندا) كنموذج لتجليات وجماليات الشعر في هذه الفترة، لرأينا، من الوجهة البلاغية، أن ثمة عودة حاسمة، في غالبية هذا الشعر، لكاف التشبيه التي تهجر تعقيد الصورة الشعرية لصالح المجاز. ثمة مجازات متواصلة تعيد استحضار عالم آفل مشحون بالغرابة والقطيعة ومنفيٍّ عن العالم. ولرأينا الاعتماد الكامل على قصيدة النثر لأسباب تجاري التطور العام للقصيدة العربية المعاصرة غالباً، وتجاري، مرات، قوة التيار الشعري السائد. سنرى من الوجهة المضمونية أن ثقل (العزلات) هو المهيمن تماماً. ففي شعر شعلان شريــف نقرأ: "كان لعزلتي ما يبرُّرها، كنتُ مشغولاً طوالَ الوقتِ ولأعوامٍ طويلةٍ ببناءِ أسـوارٍ عاليةٍ، كنتُ أطليها بألوانٍ غامقةٍ تحجبُ كــلَّ ضـوءٍ، وكلّ صوتٍ أيضــاً .." في حين لا ينفك صلاح حسن عن تذكرينا بمشكلة الحرب، مرة مع العالم الخارجي ومرات كثيرة بالحرب الدائرة في عالمه الداخلي، أي أننا هنا أمام نوع عويص من العزلة الروحية والبيولوجية: "بيني وبيني حرب أهلية (...) سوف أصفك أيتها الحرب/يا حربي/من سماء القحط واللامبالاة/سوف ألقي على أطلس الدم/نظرة طائر.. كصقر يتنفس العواصف/………/كي أستطيع أن أكتب نصاً خالياً من الرعب". بينما نلتقي في شعر صلاح حيثاني بنبرة من السوداوية الشفافة وتصعيداً لذات مكسورة الجناح: "أيتها البهجة / يا مَن تتشبهين بي وتعنين في الأصل سواي"، وفي أشعار عبد الرحمن الماجدي تلح فكرة العزلة من جديد إحاحاً ذا مغزي ضمن لغة شعرية نسميها تفكيكية حيث الجمل الإعتراضية وكاف التشبيه يحضران بوفرة: "ويكاد التوجس، ساعةَ ثرثرتي، يفلتُ من حبائلها/ لولا اليوم المتدلّي بخيوط / البارحة أوقعه بفخاخنا" ملتقياً بذلك مع لغة قرينه الشاعر علي البزاز المتأرجح بين تلك اللغة الضجرة، المنكَهَة، ونبرة تقول مباشرة البقيةَ من بقايا الرومانسية الخمسينية: "أواه، لم صارت القوارب هكذا هامشية/ كسياج منفي إلى الصحراء، يفتقر لمن يسوره". أما كريم النجار، فيتأرجح بين لغة ناصعة واضحة حسية، وهي من أصعب أدوات الشعر، وبين أسى غنائي وإن لم يكن موزوناً: "حمامة فائق حسن/التي تخضبّت بالأسود/الأسود المعتق". في حين سنلاحظ في شعر محمد الأمين انغماراً بالصور الشعرية المخصَّبَة بقراءاته للأدب الأجنبي، خاصة الإيراني منه. عبر جملة واضحة كذلك فإنه يمنح للصورة ذات الدلالة والمعنى والحكمة الدور الأساسي رغم تأثرات طالعة في نصه من هذا الشاعر العربي أو ذاك: "للتفاحات سماواتها/حيرتي نجمتُها". وخلافاً للشعر المشحون بتأسيات الحرب وذكريات الألم الذي يكتبه (الرجال) من جيلها، فإن شاعرة مثل فينوس فايق التي تكتب بالعربية والكردية كليهما، تجرؤ أن تخوض بموضوعات غزل صريح، نادر من طرف الشاعرات العراقيات، متأرجح بين خفر الأنثى الشرقية وتأجج عواطفها: "لاتناديني……/أخاف أن أستسلم إلى يديك المباركتين/أخاف أن أستسلم إلى قلبك الرؤوف/أخاف أن آتي إلى حضنك/فلا أعود منه/أخاف أن تسرق أنفاسي/و لون عيوني/أخاف أن تعميني بالعشق/فلا ترى سواك عيناي...". هذه النبرة الحسية، بل الشهوانية تشكل، في واحدة من قصائد محسن السراج، اندفاعاً نحو الحياة ورفضاً لقيم الخراب المعممة. من جهته يسعى حميد حداد إلى إقامة مسافة محددة بين الشروخات الروحانية التي يسببها وضع غير شعري البتة مستخرجاً منها مادته الشعرية، على أننا نلاحظ مرة أخرى الكيفية التي تنبثق فيها (مشكلة الحرب) في ثنايا قصيدة هذا الشاعر: "رجل في الثلاثين يهرم/ بعد أن عاش كل الحروب/ ولم يدرك حرية". في شعر كريم ناصر ثمة معانٍ ودلالات واضحة مكتوبة بسلاسة وتقول باصرار الثيمات عينها: "كلُّ المغاور شُحنتْ بالجثث/ حتى القرى بُليتْ بالمجازر / لِمَ لا تمدّ اليدَ للأغصان التي قُطعت/وكما تعرف أنّك صرت مُطالباً مراراً". سنتبقي في ما يقوله مجموعة الشعراء العراقيين في هولندا لكي نرى أن هوساً بوصف المشهد المأساوي وإن تأجيجاً شعرياً له سوف يطلع مباشرة في شعر علي شايع: "ثمة رصاصة تدفعني/ راكضا أمامها" وهو هوس سوف يمتد عميقاً في قصيدته وهو يلقي أمامنا في نهاية المطاف بهذه الجملة المؤثرة: "كانت لحرب / تدخلهم/ ولا تخرج". في حين أن موفق السواد يواجه غرابة الواقع الغريبة بغرابات الشعر: "في هدأة ما/كنت قد قشرت وجهي جيداً/نظفته من غبار الصحراء/تأملته/فسقطت في زاوية أخرى من العالم". ثمة إذن سقوط مدو في نهايات العالم في شعر مكتوب في مناخات خانقة

 

عندما نقول أن كثيراً من نصوص سنوات الثمانيات وما تلاها المكتوبة في العراق تعبِّر عن (رِهَاب الحرب) فإننا نقول ذلك بالمعنى السيكولوجي المشروح أعلاه، وبمعنى لا يُجاري أولئك القائلين بولادة (جيل الحرب) الـمُعبَّر، مثلما تقول كتاباتهم، عن الحماسة والبطولة والروح المعنوية العالية لشعب (يحارب) من أجل قضية كبرى. عندما نطالع مقابلة تحت عنوان (جيل الثمانينات..جيل الحرب) أُجراها الشاعر عدنان الصائغ مع 16 شاعراً، فإننا في صلب الفهم البطولي الحماسي الدعائي لهذا المصطلح، وليس ما يُراد أن يُقال لنا اليوم عن (جيل ثمانيني) عانى شرور الحرب

 

لقد انتهى المطاف بجميع أجيال الشعر العراقي إلى الخروج إلى المنافي. وانتهى الأمر بالجميع إلى الكتابة المحمومة عن تجاربهم القديمة. وفي الطروحات النقدية للأسماء الأحدث المسماة خبط عشواء بالثمانينات والتسعينات ثمة كبرياء لا يليق بالشعر، وثمة جموح شديد، كما ثمة عدم دقة في تسمية الأشياء والمصطلحات، لكأننا أمام عقل ساهٍ، دائخ بعد عشرين سنة من الحروب المأساوية المتواصلة التي شهدها. هذا التوصيف لا يريد بحال من الأحوال التقليل من شأن منجزهم الشعري قدر ما يريد أن يرى إلى حقيقة فعل الكتابة النقدية التي يمارسونها اليوم في المجلات والصحف التي يصدرونها على عجل شديد في أوربا، معطين الإنطباع أن هذه العجلة ترمـِّز إلى شطر من زمانهم الذي ضاع هباءاً منثوراً في داخل البلد

 

على أنه لم تغب، كما نرى، منذ السبعينات حتى يومنا هذا لا النبرة الغنائية ولا الشعر الحديث الموزون الذي وطدّه الرواد، كما لم تغب جميع المحاولات التجريبية والشكلية وقصائد النثر التي حاولها جيل ما بعد الرواد وسعى الستينيون إليها. إنها تتجاور جواراً صعباً في بعض الأحيان

تشكل غالبية الأصوات، غير الرسمية، اللاحقة لفترة السبعينات تمرداً آخر على نظام الشعر الرسمي المنضبط بقواعد نهائية ليست من طبع الشعر

 

أن فترات الشعر العراق الحديث الثلاث: فترة الرواد والخمسينيين المتماثلة المنجز لكن الطليعية، وفترة سنوات الستينات ذات التمايز المرفوع إلى مصاف المتخيَّل، والفترة الثالثة الممتدة منذ السبعينات إلى اليوم الملتهبة، تعلن كلها أن الشعر العراقي لم يعش القطيعة التي ليست من طبائع الأشياء ولكنه تلقف المنجز الأول والثاني وما بعدهما لكي يمضي بهما بعيداً. وهي تعلن أن أية إضافة متخيَّلة مقطوعة الجذور عن أصولها لم تكن ممكنة البتة، كما تعلن أن الفضاءات الموضوعية والسياقات التي أحاطت به، سواءً لجهة تدخل (الأيديولوجيِّ) أو (المنفيِّ) أو (الحربيِّ) كانت قادرة دوماً على تخصيبه برؤى وأشعار جديدة، وليس العكس

 

تاريخ الشعر العراقي هو تاريخ الخصوبة في وادي الرافدين ضارب الجذور

جنيف 27- أكتوبر 2001