شاكر لعيبي

المثقفون العراقيون في سوق الثقافة العربية

 هل استطاع سوق الثقافة العربية استيعاب الأعداد الكبيرة من الكتاب والمفكرين والصحفيين والأدباء العراقيين القدامى والجدد؟ هل ثمة فارق بين المتكونين تحت سلطة الحرية وأولئك المتكونين تحت سلطة القمع وكيف (وهذا سؤال جذري) يستطيع السوق الثقافي التفريق بينهما؟

 

قد يبدو هذا المدخل صارماً ومن دون  تدرجات لونية ضرورية.

 

على أن كمية العذاب في القلوب المكتوية بألف نار تسمح بطرحه. ويبدو لنا أن الثقافة العراقية محكومة رغماً عنها بقول أسئلة حادة وقليلة اللياقة ، مثل سؤالنا، لأن كلّ لياقة زائدة عن اللزوم، قد جرى استثمارها، في شرط مثل شرطنا، لصالح إرباك الثقافة وتشويهها.

 

من يستطيع التمييز اليوم في الساحة الثقافية العربية (المُلْتَبِسَة هي نفسها) بين الرصانة والخفة، بين الالتياع والمنفعة اللتين لم تكف أجيال من المثقفين العراقيين عن التوقف عندهما وعن الاختلاف حولهما بدأب وضنى وبأثمان باهظة منذ أكثر من ربع قرن من الزمن على الأقل؟

 

يعرف الجميع أن القانون الذي يحكم السوق هو قانون الطلب والعرض. كلما تزايد الطلب قلَّ العرض والعكس بالعكس. قانونٌ قديمٌ. ما يحدث الآن هو وفرة العرض المستفحلة بسبب انفضاض مائدة السلطة، مائدة الغراب التي دفعت غالبية المدعوين إلى المائدة أو المتطلعين من بعيد إليها إلى البحث عن مائدة أخرى. هذه الشروط التي تأقلمت فيها تلك الوفرة الراهنة، صارت تحطّم تماماً قوانين السوق ودخلت في منافسة، من دون ذرة من الإنصاف، عروضاً أخرى سابقة أو لاحقة عليها في الزمن. لن أتكلم عن تلك الأمثلة العراقية الصارخة العاملة اليوم في الفضائيات العربية، لأنها من الوضوح بمكان في هذا السياق، وأتكلم عن الأمثلة الأكثر دهاءً من الأدباء والنقاد والشعراء المغترفين اغترافاً قبل قليل من الوقت من مائدة الغراب.

 

لنتنبه قبل ذلك إلى البديهيات التالية:

 

1- أن الثقافة وهي نشاط إنساني معقّد وليست مجرّد مساءلات عقلية طاهرة ومصفّاة للظواهر، وإنما هي كذلك سوق خاصة مكرسَّة لما أسميناه ذات مرة (بالسلعة الميتافيزيقة) أي (الكتابة) التي تتضمن، بشكل مشروع اثنين: من يُطالِب أو من يدفع ثمناً مادياً لها. إنها سوق (بالمعنى النبيل) ذات خصوصية بالغة الرهافة بمعنى من المعاني. هذه المداخلة تتعلق ببعض المثقفين العراقيين فحسب، ممن يشتغلون بسوق الثقافة. والتبعيض هنا يريد لفت الانتباه إلى خطورة التعميم لكنه ينتوي أن لا يكون ساذجاً وذلك لكي يرى إلى ما يدور في ساحته الثقافية نفسها.

 

2- أن السياق الذي تكوَّنت به بعض النُخب الثقافية في العراق طيلة أكثر من ربع قرن قد مسَّ جوهرياً نظرتها إلى الأمر أعلاه. إن أجواء الرقابة والصرامة المهيمنة في الدولة العراقية قد أوصَّلتْ الكثيرين إلى اختلاق طرائق للتخلّص والتملّص من قمع الرقابة لكن بطرق الرقابة ذاتها وفي السياق القمعيّ ذاته. وهو أمر يبدو لي وكأنه قد أنتج عثراتٍ جدية أكثر من إنتاجه للفضائل اللائقة بالثقافة. لقد جرى بعبارة أخرى كل ذلك بأجواء قليلة العافية انحطت بمعايير السوق الثقافي الرهيفة، إلى مجرد (بازار) للكتابة. سوق تختلط فيها القيم والمعايير، وتحتوي الأخضر واليابس.

 

2- أن الأثر الذي تركه خروج مئات من المثقفين العراقيين إلى سوق الثقافة ملموس اليوم في مجمل نشاطات الثقافة العربية المكتوبة. وهو أثرٌ مُبَرْهن، خاصة بالنسبة لمن تكونوا عقلياً وروحياً (وليس بالضرورة أيديولوجياً) في الأجواء البوليسية الموسوسة، ولمن اعتادوا على الالتواء والتعايش مع الكلام الملتوي، ومع فكرة استثمار الكتابة بكل أشكالها (الأدبية، البحث التراثي والفلكلوري والتاريخي، المقالة الصحفية، الاستعراضات النقدية للكتب والمعارض والتظاهرات الأقل شأناًً) بصفتها مورداً للعيش. هذه الفئة المخصوصة تبرز الآن إلى المشهد بوصفها طبقةً من الصُنّاع المحترفين غير المكتوين جدياً بحرقة المعرفة، ولا حتى بالحيادية.

 

ترينا مناطق تواجد هذه الفئة العريضة من صناع السلعة الثقافية العراقية (بلدان الخليج العربي واليمن وعمّان مثلاً)، أن ما كان متوجباً على هذه النخبة الضائعة أن تعمله، لكي تندمج في حركة السوق المربحة، هو أن تهيمن بشكل ما على أخريات المصطلحات النقدية الواصلة إلى العراق، مُتَرْجَمَةُ نُتفاً نتفاً، ومتشظيةً شذراتٍ شذرات (العولمة، نظرية التلقي، الهوية، مشكلة الغرب، وما إلى ذلك) في بلدنا الذي كان يدير فيه النظام الساقط الظهر مبدئياً للعولمة، ويمتلك مفهوماً جامداً ومسطّحاًَ للهوية، ويؤصِّل الغرب كقطبٍ معادٍ شريرٍ بالضرورة القاهرة، وما إلى ذلك.

 

هذه الفئة ناشطة نشاطاً كبيراً، ومن بين رموزها يبرز أساتذة جامعيون وصحفيون ومنظرون وشعراء وكتاب قصة ونقاد وحاملي ألقاب الدكتواره وغير ذلك من نشطاء الكتابة المحترفة. باسم الاحتراف يبتذلون الثقافة، وباسم حاجاتهم المادية وضرورات عوائلهم داخل العراق وخارجه يسمحون لأقلامهم أن تشتغل في حقل قليل الصلة بالمعرفة وهي تلبس القناع الماهر للعارف.

 

إن ازدحام سوق الثقافة العربية بالأقلام العراقية يؤدي الآن، في البلدان المُسمّاة أعلاه وغيرها، إلى وضع الجميع في سلّة واحدة. إن اختلاط الوضع في البلد العراقي يسمح كذلك لهؤلاء الصناع الَمَهَرة وبالتباس أخلاقي وسياسي وفكري إشهار موقف غامض إزاء الوجود والثقافة وكل ما يحدث، ودائما باسم الحدث العراقي. والنتيجة هي أن البعض من أقرب المقربين إلى طروحات السلطة ومنافعها صاروا يدرجون أنفسهم، في المشهد العربي الساهي والشعاري، إلى جانب مثقفين من طراز مختلف تماماً. هذا الانسلال الهادئ في مشهد ليس مشهدهم هو جزء من العقل والسياق الذي ترعرعوا في داخله.

 

من يتطلع إلى كيفية انسلال البعض من هؤلاء إلى الصحافة والجامعات في الخليج وفي عمّان واليمن وبيروت ولندن، وكيف يكتب وينشئ البعض منهم مواقع على الأنتريت (المباح والمتاح للجميع لحسن الحظ) سيُدرك الطريقة التي تُلعب اللعبة بها في سوق ثقافي يستثمرونه على خير وجه.

البعض منهم لم يتوفر لهم الوقت الكافي لقطع حبل السرة مع ثقافة القمع والدجل والوجل والمنفعة، ويقدمون لنا الآن على الساحة الثقافية العراقية ظواهر الشطارة الفصيحة، بكل تجلياتها التي نعرف أنماطاً مخزية لها في بلدان مثل بلدان الخليج. إنهم يستغلون بشكل بشع حتى تقاليد الكرم والضيافة العربية التقليدية نفسها وهم يواصلون أحابيلهم. الأسماء كلها معروفة وستصير مكشوفة لعبة البعض ممن يتقنون اليوم اللعبة.