أدونيس إذ ظلّ يبطن "ضغينته" ثلاثين سنة 

 

حسين مرهون

 

(1)

 

بعد أن خفتت وتيرة المجالدة (الثقافية وغير الثقافية في آن!!) التي سبقت الحرب علي العراق واستمرت إلي أثنائها، مابين المفكر الفلسطيني وأستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا إدوارد سعيد، والبروفيسور العراقي في جامعة برانديس كنعان مكية الذي وصف في أحد كتبه المثقفين العرب بالانتهازية واللاأخلاقية لأنهم إمّا أشادوا بأنظمة عربية متخلفة أو لزموا الصمت حيال الانتهاكات التي تقترفها الحكومات المتخلفة ضد شعوبها، يبدو أن مجالدة أخري (ثقافية وغير ثقافية في آن أيضاً!!) آخذة في التصاعد بوتائرها المختلفة في غير ما منبر ثقافي وإعلامي، بعد أن سقطت التماثيل وسكتت المدافع في بغداد. إذ لايبدو أنّ حدث سقوط صدام في التاسع من نيسان/ أبريل 2003م منذرٌ بتلاشٍ سريع لأعراض هذا السقوط ولحدة النقاشات التي أعقبته، ولعلّ مرد ذلك إلي أن الأمر مرهون بتلاشي نماذج أخري من (الصدّامات)، ولكن برسم ثقافي هذه المرة. هذه المجالدة افتتحها الشاعر السوري أدونيس في خواطر نشرها بجريدة الحياة اللندنية، في تاريخ 41 أيار/ مايو الجاري، تحت عنوان (انظرْ الي سيف الطّاغية كيف يُشحذُ وإلي الأعناق كيف تُهيّأُ للضّرب) قال أنه كتبها في أثناء زيارته الوحيدة إلي العراق سنة 1969م ضمن وفد اتحاد الكتاب اللبنانيين، وبث فيها جملة من الانطباعات التي كونها عن العراق وناسه آنذاك، وهو ينشرها الآن لأول مرة. وبرغم تأكيد أدونيس في مستهلّ هذه الخواطر علي أنها ليست "حكماً" علـي الشـعب العراقي بوصفه كُلا، وإنما هي انطباعات عن السلطة وأهلها وعن (المناخ) الثّقافي والسياسيّ الذي كان يؤسّس له الدّائرون في فلكها وأفلاكهم في تلك المرحلة تحديداً، إلا أن هذا التأكيد لم يكن ليقف حاجزاً دون تحول هذه الخواطر إلي مادة خصبة للمجالدات الكلامية بينه وبين نفر من المثقفين العراقيين الذين نددوا بموقفه الاستلابي والتبخيسي حيال واقع العراقيين وتاريخهم.

(2)

 

في بداية خواطره (الانطباعية) عن العراق يقف أدونيس عند أسطورة جلجامش ليعلن من خلالها أن الحياة المثالية التي يحلم بها الناس في الخارج عن العراق ليست إلا موتاً متواصلاً. فيقول (أظنّ انّ الوقت حان لكي نقول لجلجـامش. أوهمتَ بعضَنـا، وأقنعـتَ بعضـنا الآخر انّ للحياة في بغداد سرّاً لا نزال ننتظر أن تكشفه لنا. خصوصاً انّ كلّ شيءٍ يكاد ان يؤكّد انّ هذه الحياة ليست إلاّ موتاً متواصلاً. وانظرْ الي سيف الطّاغية كيف يُشحذُ، وإلي الأعناق كيف تُهيّأُ للضّرب). إن هذه الحياة التي تتحول إلي موت متواصل تنسجم تماماً مع طبيعة العراق المستئذبة (الضفّة اليُسري من دجلة، ذئبةٌ علي اختها اليُمني، وأنّ هذه ذئبةٌ علي تلك. الآن، في هذه اللحظة، يخيّل إليّ انني لا أري في بغداد إلا شخصين: الحلاّج مصلوباً، والتّوحيدي يطرحُ كتبه الي ماء دجلة). وفي موقع آخر يقول (مَا للشمس في بغداد، تطلعُ كل يومٍ، حاملةً بين يديها طفلاً أعمي؟). ويستمر أدونيس في بث انطباعاته عن العراق والعراقيين عبر عدد هائل من الرموز والعلامات إلي أن يتجاسر، فيعلن ( أكاد أشكّ ان ابا نواسٍ، وأبا تمّامٍ، والنّفري عاشوا في بغداد). كما يعلن وبتجاسر أكثر عن (لاإنسانية!) الإنسان العراقي المعاصر (ماضياً، كان يسكن علي ضفّتيك بشرٌ لا يؤمنون بالوحدانيّة، وكانوا مع ذلك اكثر إبداعاً وإنسانيّة. احفادهم الموحّدين الذين يُحاصرونك اليوم). ويتساءل أدونيس. (ما الفرق بين بغداد 1258، وبغداد 1969؟) فيجيب. نفسه (الأولي فتكَ بها التّتار، والثانية يفتك بها ابناؤها). هل سيكتفي أدونيس بذلك؟ لا!! يضيف (هل رأيتَ شعباً يحتاج الي الظلم لكي يشعر أنه موجود؟ شعب العراق؟). إن هذا الشعب الذي يحتاج إلي الظلم لكي يشعر بوجوده سيهرب منه إلي شقة في السماء (أبو حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل). وإذ يصل أدونيس إلي ذروة التنفيس عن متخيله الذي كونه في هذه الزيارة الوحيدة عما يسميه مناخ السلطة وأهلها في العراق يتوقف في خاتمة خواطره لكي يختزل كل ماقاله (كنت رأيـت كيـف يحـدث أن تتحـول اللغة الي جيش هائل من الحيوانات المفترسة. وكنت حتي تـلـك اللحظـة مـن السنة 1969، أتعبُ كثيراً في التمييز بين البشر والشياطين والآلهة، عندما أنظر الي أهل السلطة في العراق  ربّما لهذا لم أشعر في بغداد إلا بالبرد حتي وأنا في حضن الشمس).

(3)

 

إن أدونيس أراد لهذه الخواطر أن تجيء علي هيئة (قل كلمتك وامشِ) وكان فيما يبدو يطمح من خلال التنبيه في مقدمتها بأنها ليست حكماً علي الشعب العراقي بوصفه كلاً إنما هي انطباعات سجلها عن مناخ السلطة وأهلها في العراق، إلي إغلاق الطريق أمام أيّ متربص له يمكن أن يفتك به علي أول الطريق. لكن هذا الإغلاق كما ظهر لم يستطع أن يكون إلا بداية لموجة من الانتقادات أتت من صوب عدد من المثقفين (معظمهم عراقيون) رأوا أن أدونيس إنما يصدر عن رؤية نمطية استلابية تضمر ضغينة للعراق وأهله.

 

أولي هذه الردود جاءت من الكاتب العراقي عبدالقادر الجنابي ونشرها عبر شبكة إيلاف الثقافية تحت عنوان (إذن احتفظ ادونيس بضغينته أكثر من ثلاثين عاما) ورأي فيها أن خواطر أدونيس تنم (عن ضغينة ضد العراقيين)!! وبرر الجنابي سبب هذه الضغينة بأنها ربما تكون عائدة إلي أن (بعض العراقيين كشفوا عن انتحالاته وتراجمه السيئة وتحليلاته الغيبية حول الصوفية والسوريالية). ويقول الجنابي (إن الضغينة ليست مجرد جملة طارئة أو فقرة فالتة وإنما روح الخواطر هذه: لذا من الأفضل ان يقرأها أي عراقي أو أي مثقف عربي غير حاقد علي العراقيين ليفهم ما أقصده). ويتساءل الجنابي (لماذا احتفظ ادونيس بهذه "الخواطر" البائسة اكثر من ثلاثين عاما لينشرها اليوم وفي وقت يتعرض فيه العراقيون إلي هجمة شرسة من قبل مثقفين عرب لا وجود لهم إلا بفضل نظام صدام حسين وأشباهه الذين تنتظر شعوبهم يوم سقوطهم. لماذا لم ينشرها مثلا قبل الحرب حتي تفهم علي الاقل إنها تعبير عن موقف ضد الطاغية الذي يبدو ان ادونيس كان اول من رأي سيفه يُشحذ، وبالتالي مساندة للعراقيين التي بقيت اعناقهم تُضرب ثلاثين عاما لم نسمع فيها لأدونيس لحظة احتجاج واحدة!). وبعد التعريض بكل مايشكله أدونيس من علامة وسلطة علي أرض صلبة من النقد والحداثة الشعرية مشهود له فيها، يخلص الجنابي إلي أن هذه الخواطر لم تكتب علي ذمة تاريخ 1969م كمايدعي أدونيس إنما هو كتبها اليوم والدليل علي ذلك أنها مكتوبة بمفردات شائعة في الوقت الحاضر.. فـ (كيف يمكننا تصديق ادونيس بان خواطره هذه تعود الي 1969 وتاريخه كله محاط باالادعاءات)!! يقول الجنابي في معرض مجالدته مع أدونيس.

 

وفي رد آخر اختار شاكر لعيبي (العراقي أيضاً!) أن يقف عند الأفكار المسبقة التي استبطنتها خواطر أدونيس، فكتب مقالاً بعنوان (أدونيس والأفكار المسبقة عن العنف في العراق) حاول من خلاله أن يفضح المأزق الذي أوقع أدونيس نفسه فيه عن طريق تمثل جملة من الأقوال النمطية السائدة عن غلظة العراقيين ودمويتهم وغلوهم في عقائدهم، وهو ما أدي به إلي أن يغفل تاريخاً رائعاً من عصور العراق الذهبية. يصف لعيبي بداية تلقيه لخواطر أدونيس (قرأتُ هذا النص ملياً وأعدتُ قراءته، ولم أثق بقراءتي بسبب براعة أدونيس في إدخال الفعل (يظن). وقد أقرأتُ النص لصديقين شاعرين، أصرّ أحدهما أن أدونيس لا يتكلم سوي عن شبهة القسوة عند العراقيين ولا يؤيدها بينما جزم الآخر أنه يتماهي مع هذه الشبهة ويؤكدها، وهو ما أذهب إليه). ويعلق لعيبي علي هذه الشبهة التي أوقع فيها أدونيس نفسه بينما تعامل معها ببداهة (نص أدونيس هذا أوصلَ بعضنا، وأنا منهم، إلي الظنّ أن أدونيس يخطئ مرتين: مرة عندما يستعيد الحكي الشائع السائد عند العوام عن قسوة العراقيين بصفته بداهة، ومرة عندما يستبق الأحداث العراقية التي لا تدعم تلك السذاجة السائدة في الوعي العربي المثقف). ويعبر لعيبي عن إحساسه بالمرارة إزاء هذا الاختزال المشوه لإنسانية الإنسان العراقي وفضله علي حضارة العرب، فيقول (جري تناسي عصور العراق الذهبية، العراق ذي الروح الَمرِح، الذي ربما علّم العرب فنون الكتابة الطريفة والساخرة علي يد الجاحظ، وتناسي الكثير من المثقفين العرب أدب الدعابة والطرافة والفتوة والخلاعة الذي تنطوي عليه الكثير من مصنفات الأدب التراثي العربي المكتوب في العراق منذ بابل وحتي سقوط بغداد العباسية. لنحرق إذن كتاب الأغاني التي تعلمنا عليها. ولننس شعر الإماء والجواري).

(4)

 

لن يحرق أحد كتاب الأغاني، ولن ينسي أحد شعر الإماء والجواري .. هل يتجرأ أدونيس ويعلن عن ذلك؟!

 

لم يعلق أدونيس للآن علي نموذج التلقي الذي قابل به المثقفون العراقيون "خواطره"، والذي جاء علي عكس ما حذر منه في مستهل حديثه عن سيف الطاغية الذي يشحذ والأعناق التي تهيأ للضرب. لقد وقف أدونيس ضد الحرب علي العراق وكان في موقفه منسجماً مع قناعته بأن فعل الحرب نفسه، كثقافة، لا يمتلك أي مشروعية أخلاقية أو إنسانية، فهل يقف ثانية ليرفع هذا اللبس الذي يكاد أن يحجب ما هو إنساني بينه وبين العراقيين، مثلما كاد أن يحجب ما هو إنساني بينه وبين المصريين في وقت ما سابق!

إيلاف GMT 5:34:20 2003 الإثنين 26 مايو

 

 كاتب بحريني