Shaker Laibi

الحدود المتجهمة

العلاقة بين الثقافة والبعد الأخلاقي

شاكر لعـيـبـي

 

قد يبدو عنوان هذه المادة غامضاً قليلاً وقد يبدو للبعض عريضاً وطناناً

يتعلق الأمر بالنسبة لنا بالتساؤل فيما إذا كان يوجد في الفعل الثقافي بعد أخلاقي معين، بل بعد أخلاقي عال ورفيع المستوى، بمعنى التساؤل عن جواز أو عدم جواز بعض الممارسات من طرف المثقف العربي. يتوجب هنا التزام الحذر والدقة وإشهار أمثلةٍ وأنماطٍ للتدليل على الظاهرة: يترجم البعض اليوم مادة لكنه ينشرها موقعة باسمه، يسعى آخرون بالأثمان كلها وبعضها رديء إلى الحضور في اللقاءات العربية والدولية والحصول على الدعم وغير ذلك ومنهم أدباء معروفون، يحاصر البعض زملاءهم في لقمة العيش بطريقة بشعة، يكتب آخرون مقالات مديح عال الصوت عن نفسه موقعة باسم مجهول (نعرف أديباً يواظب على الكتابة في صفحة رسائل القراء في جريدة لندنية بأسماء متعددة ممتدحاً أعماله النقدية والروائية)، آخرون من ذوي المواقف اليسارية الحادة لا يخافون اليوم من التنقل من منبر إلى ثان لا علاقة لهما البتة بمواقفهم الفكرية والسياسية التي بنوا على أساسها مجدهم، مواقف الكثير من الأدباء العملية من المرأة والزمن وكرم الروح والأريحية ونبذ القتلة والنفاق لا تنسجم قيد أنملة مع مواقفهم المعلنة والنظرية لا تنتهي الأمثلة التي تعلن كلها أن ثمة تفارقاً جدياً بين النشاط الثقافي الذي يتوسم فيه القراء الرصانة والجدية ويرون فيه بعداً أخلاقياً سامياً وبين نـزعة لا تحتكم إلى أي بعد منطقي ولا تلتزم خاصة أيما موقف أخلاقي متماسك داخلياً

 

هل هناك أخلاق تـميـِّز العارف عن الجاهل؟


وبالطبع هناك سلوكات (إذا صح هذا الجمع) مُفارِقة ربما يتفق الجميع على وجودها

وفي يقيننا فكما هناك تفارق بين الجمال والقبح، هناك تفارق بين أخلاق العارف العالِم وأخلاق الجاهل السادر بغيه. وكما أن هناك مفهومة معينة (للفضيلة)- مهما كانت ملتبسة ونسبية وربما متأسسة على قاعدة دينية- فإن هناك مفهومة (للرذيلة) بالأبعاد نفسها

نقول ذلك لأنه يراد اليوم، في الممارسات الثقافية، الخلط المدوِّخ والمغرض بين فضيلة ورذيلة وبين (جمال) المواقف المشرقة و(قبح) الرأي والسلوك، يراد تضييع الحدود بين أخلاقين متنافرين لا تطلعان من الوعي ذاته بالعالم ولا بالوقف نفسه من الأشياء: موقف عميق أي جميل وأخلاقي ويشكـِّل فضيلة وموقف مسطـَّحٌ أي قبيح ولا أخلاقي ويشكـِّل رذيلة

ليست الكتابة هي الفضيلة الوحيدة للكاتب، ليس مجرد الإقدام على فعل الكتابة هو ما يمنحه جواز الخوض في كل موضوع ويعطيه الحق في التخلي عن الخـُلُق الكريم باسم رفض العتيق البالي، المكرس، المتخلف الذي، وياللغرابة، يمتح منه وتطلع منه، هو نفسه، مواقفه الفعلية الملموسة كلها

وفي الحقيقية فالبعض يشتغل في حقل التجارة في الوقت الذي يفترض فيه انهم يتعاطون الثقافة. إن للتجارة معايير لا تتقيد بالضرورة، على ما يبدو، بالأخلاقي ولا بالمواقف الراسخة في الوجود التي هي خصيصة من خصائص الوعي الثقافي. هؤلاء صاروا يتكاثرون اللحظة وهم يدمجون العمل التجاري بالعمل الإبداعي منتجين لنا خلطة يغيب عنها، على وجه الدقة، البعد الأخلاقي ذاك. ولسوء حظنا فإنهم يتناسون أن حقول وطريقة عمل النشاط التجاري لا تتسق بالضرورة مع آليات عمل الثقافة وأنهما قد ينفيان بعضهما في اللحظات الكبرى. ينسون كذلك أن خلطتهم هذه لا أخلاقية

إن المتتبع لمسار تطور وتاريخ الصحافة العربية سيرى إلى أن هذا النمط من المؤلفين والصحافيين كانوا حاضرين منذ بداياتها الأولى. هؤلاء الكتاب قد اخترعوا لغة صحافية ومنظومة من المفاهيم المعمولة على مقاسات دقيقة كما روَّجوا للبعض من المصطلحات الجديدة على اللغة العربية التي تستهدف كلها أول ما تستهدف، لكي يُستثمر المشروع الربحي الكتابي بشكل جيد، أن لا تقول شيئاً محدداً ذا معنى وأن لا تجرح أحداً وأن لا تكون مسؤولة أمام نفسها وأمام قرائها وأن تقول شيئاً يشبه الكلام العميق دون أن تمتلك في الحقيقة هذا العمق. الغائب الكبير في هذا الطموح المنفعي هو المعنى. هذا ما يمكن أن نتلمسه مثلاً في تعليقات بعض الإخوة الصحفيين العرب في بعض القنوات الفضائية العربية. إن يستمع المرء إلى تلكم القنوات فأنه سيتأكد من طبيعة خطاب أجوف لا يحلل قدر ما (يمرق) بمهارة ويتحاشى الذهاب إلى صلب الموضوع. هذا المروق يطمح أن يوطـِّن كاتبه، باسم الخطاب الإبداعي والثقافي، في المنفعة

إن غياب المعنى، أيَّاً كانت طبيعة هذا المعنى، يقود إلى غياب الأخلاقي

وبالطبع يجب أن لا يفهم من كلامنا هنا دعوة إلى تحوُّل الكتابة الصحفية أو الإعلامية إلى خطاب فكري وفلسفي عميق ليس بمتناول إلا القلة. كلا، لا نريد قول هذا. نود القول أن الأكذوبة تعمَّم الى درجة لا أخلاقية على كثير من الأصعدة في الممارسة الثقافية بدءً من ظاهرة الكتب الأكثر مبيعاً التي تحدثنا عنها هنا مرة إلى ظاهرة د. ثروت عكاشة الذي سرق بشكل فاحش مجمل كتبه المتعلقة بتاريخ الفن في العالم من مؤلفين غربيين، دون أن يرن جفن لأحد. إننا نزن كلامنا بميزان الذهب فيما يتعلق بهذا المؤلف والوزير السابق. أنه يعرف أن السائد المعمَّم في ثقافتنا يبيح له التواجد على هذه الشاكلة

في ثقافتنا ثمة بالطبع أقلام نبيلة من طراز آخر ... نحييها

العودة الى صفحة المقالات