رغم ان الشاعر فاروق يوسف لا يشير البتة إلى (الشاعر الغريب في المكان الغريب) لكن مقالته هذه، المنشورة بعد أكثر من سنة من صدور الكتاب، تشكل استجابة ملتاعة وصادقة، وسط الضجيج العالي الحالي، لمعنى حقبةٍ ومغزى تجربةٍ، ولعلها من هذا الباب استجابةٌ لما ورد في الكتاب المذكور أعلاه. مرحى لقلوب الشعراء.

بعـد ثلاثين سنـة مـن القصيـدة البيضـاء

 

فاروق يوسف

( 1 )

لست موجودا هنا بالصدفة‚ في هذا المكان النائي من الأرض لا أحد يهبط فجأة إلا إذا كان قادما من الفضاء‚ إن حياتي التي خربت في مكان آخر هي التي دفعني عصفها إلى أن أكون هنا‚ كما أنني لست مجنونا لكي يتراءى لي أن بإمكاني‚ مهما كانت حقيقة الجهود التي يبذلها الآخرون لإسعادي والترفيه عني‚ أن أستعيد تلك الحياة‚ لا كما حلمتها‚ فحسب‚ بل وأيضا كما عشتها‚ لا لأن المكان الذي احتضن تلك الحياة قد اختفى؟ إلى الأبد‚ وحسب‚ بل وأيضا لأنني أدرك أن الزمن الذي رعى تلك الأحلام لم يعد له وجود هو الآخر‚ ذلك لأنني انتسب إليه بالقوة نفسها التي أنتسب بها إلى المكان‚ يمكنني الآن بعد الثلاثين سنة التي تفصل بيني وبين لحظة البدء الافتراضية تلك أن أقول: إن عراقيتي (كدت أكتب بغداديتي) قد اشتبكت بسبعينيتي‚ فأنا كائن ولد في العراق ليجد نفسه محكوما بشروط تحول‚ قدر له فيما بعد أن يكون كأي تحول عراقي بداية لمضي جديد في اتجاه الجلجلة‚ كان العقد السبعيني من القرن الماضي هو حاضنة ذلك التحول‚ لم يكن تحولا أدبيا خالصا على الرغم من أنني كنت معنيا بالوجه الأدبي منه‚ كان في حقيقته وفي مستوياته الخفية مرحلة إعداد للمسرح الذي سيشهد أحداثا هي الأكثر دموية في تاريخ العراق المعاصر‚ وكما يبدو لي الآن أن الجيل الأدبي الذي أعلن عن ظهوره في مثل هذه الأيام قد قدر له أن يكون وجبة الحطب الأول؟ التي ألقيت إلى النار‚ تلك النار التي ستلتهم العراق كله بعد ثلاثين سنة‚ لقد احتج الكثيرون يومها على التسمية التي لم تكن اختراعا باهرا‚ أقصد (جيل السبعينات)‚ كانت حجتهم تقول: أن ليس من الضروري أن يكون لكل عقد من الزمن جيله الأدبي‚ وكانوا في ذلك يراهنون على أحقية الخمسينيين والستينيين في التسمية‚ انطلاقا من المزاج الثقافي المتغير الذي عاشه أفراد الجيلين‚ وهو التبدل الذي عبر عنه الشعراء والرسامون والقصاصون العراقيون من خلال لجوئهم إلى ينابيع الهام مختلفة أملتها عليهم الظروف التاريخية التي صنعت أسلوب نظرتهم إلى الحياة المعيشة‚ فالأمل في الخمسينيات كان ملهما لنوع من التكهن المحلي والاسترسال في التخيل التراثي الممزوج برؤية أسطورية‚ في حين كان اليأس الستيني دافعا إلى كسر قشرة البيضة وانتقاء الفضاء المناسب عالميا للإعلاء من شأن هذا التمرد بصفته حقيقة وجود‚ يوم أعلن عن ظهور جيلنا لم ننتبه إلى أن التمرد الستيني كان في مرحلة احتضار‚ في الحقيقة لم نكن نرغب في تصديق هذا البلاغ‚ لا لشيء إلا لأننا في أعماقنا كنا نرغب في أن نلتحق به‚ غير أن الوقائع أثبتت أننا حضرنا متأخرين‚ كانت الحفلة قد انتهت وتوزع الحضور بين تيارين حزبيين كانا في العلن يخططان لنوع من تقاسم الحكم فيما يكيد أحدهما للآخر في الخفاء‚ أما من اكتشف أن الحفلة لن تنتهي نهاية مسلية فقد اختار المنفى طوعا حفاظا على كرامة مشروعه الأدبي وحقه في أن يكون صنيعة رؤاه‚ دائرة هذا التجاذب الحزبي (البعثي- الشيوعي) وقد شملت بلهاثها كل جوانب الحياة في العراق وضعت المشروع الثقافي في مقدمة أهدافها‚ هل يمكنني أن ألقي باللائمة على سوء الحظ التاريخي الذي جعل معظم أبناء جيلي يدور في فلك تلك الدائرة التي طحنت الكثيرين؟ لست في مجال التبرئة أو الاتهام بقدر ما أسعى إلى التوضيح‚ عام (1974) نشرت مجلة (الكلمة)‚ بيانا وقعه ثلاثة من الشعراء الجدد‚ إضافة إلى نماذج من شعرهم‚ كان ذلك البيان يحمل عنوان ( القصيدة اليومية) وقد وقعه خزعل الماجدي وعبد الحسين صنكور وغزاي درع الطائي‚ نشر ذلك البيان شكل انعطافة خطيرة في تاريخ تلك المجلة الرائدة في مجال التبشير بالتمرد الستيني‚ غير أننا بسبب ضعف خبرتنا في الحياة والحماسة التي تنطوي عليها مراهقتنا الأدبية قد وجدنا في عدد كامل تخصصه المجلة للتبشير بنا‚ جيلا أدبيا بديلا‚ نوعا من الكرم الذي يجب أن يقابل بالثناء والعرفان والتهليل‚ غير أن هذه اللعبة المسرحية سرعان ما كشفت عن وجهها الحزبي البغيض حين قرر الشيوعيون أن يملأوا الفراغات التي أحدثها عدد (الكلمة) الخاص بالشعر السبعيني‚ حين نشرت جريدتهم الأسبوعية (الفكر الجديد) ملفا عن الشعر السبعيني اقتصر على الشيوعيين‚ وبالأخص ممن لم تتح لهم فرصة الظهور في مجلة الكلمة‚ البعثيون لم يتأخروا في الرد‚ لقد أعد الشاعر سامي مهدي ملفا عن شعراء البعث السبعينيين في مجلة (الف باء)‚ يومها أخذتني الدهشة وأنا أتلفت إلى الطرفين اللذين طبخ كل واحد منهما طبخته السرية لاسباب لا تتعلق بالشعر‚ كنت أنتمي الى أقلية غامضة لم تكن على صلة بالمطابخ الحزبية‚ لقد اكتشفت أن الحزبين الرئيسيين في الحياة السياسية يتنافسان على ملء كفتي الميزان بالبضائع التي تؤكد حضورهما (الجماهيري)‚ ولم يكن الشعر إلا بضاعة في تلك السوق الملغومة بالريبة والمكائد والنيات الشريرة والدسائس‚ ولكن هل كان جيل السبعينيات الأدبي في العراق والذي انتمي اليه كذبة اخترعها خيال حزبي شرير؟

( 2 )

أعتقد أن العقد السبعيني في العراق كان مفصلا رئيسيا في الحياة العراقية‚ ولا أبالغ إذا ما قلت أنه كان المختبر والمستودع لكل التجارب الذي صنعت أسلوب العيش العراقي في العقدين التاليين‚ وصولا الى مرحلة الاحتلال الأميركي‚ كان عقدا ملتبسا من جهة حيرته المفهومية‚ فعلى سبيل المثال: كان الرخاء الاقتصادي الذي هو عنوان ذلك العقد حقيقة ولم يكن واقعا‚ فالدولة الثرية كانت ترعى شعبا فقيرا‚ شعبا لم يغادر أمسه الرث بعد‚ وعلى المستوى السياسي ظل وعد التعددية يتقاسمه حزبان شموليان ينظران الى الديمقراطية من جهة كونها لوثة رأسمالية ينبغي التصدي لها ومواجهتها بالعنف‚ كانت السبعينيات مصنع الأوهام الذي انتج الحكم والمعارضة على حد سواء في العراق لذلك فقد كانت زمنا مختلفا‚ زمنا لا يمكن إلحاقه بما سبقه غير أنه امتد بسقفه ليلقي بظله على ما تلاه من الأزمنة‚ مرحلة ملتبسة الصفات مثل هذه لا يمكن أن تمر من غير أن تنتج جيلا أدبيا يشعر بأحقيته في الفهم‚ وهنا أقع بكل يسر على المقولة الأسطورية التي سعى الشعراء من جيل السبعينيات إلى تفكيك أسرارها‚ (الحق في الفهم)‚ ولم أدرك إلا بعد سنوات أن كل محاولاتنا للفهم كانت تصطدم بجدار الحزبية التي تحرم الفهم إلا من جهة كونه إذعانا لسلطة الفكر المتداول والسائد‚ لقد عاش الحزبيون من جيلي الشعري نوعا من ازدواج الشخصية‚ لم ينقذهم منها إلا تخليهم عن ارتباطاتهم الحزبية عن طريق الفرار إلى الشعر‚ فخزعل الماجدي الذي هو بعثي كان يرى في التخيلات الجنسية نوعا من الإلهام الذي يضع الإنسان في متناول أسطورته وفي المقابل فقد انهمك هاشم شفيق وهو شيوعي في تفكيك أسرار اللذة الذاتية التي ينطوي عليها اكتشاف العالم اليومي العابر‚ عالم الأشياء التي يتستر وجودها على لمعان روحي غامض‚ كان الاثنان أكثر براءة من أن يلحقا بدسيسة حزبية‚ الضرورة التاريخية لولادة جيل أدبي جديد قابلها تحول ملحوظ في تقنيات ومضامين الكتابة الشعرية بوجه خاص‚ فمن يعود إلى المحاولات الشعرية الأولى للشعراء: كاظم جهاد‚ زاهر الجيزاني‚ سلام كاظم‚ فاروق يوسف‚ خليل الاسدي‚ هاشم شفيق‚ خزعل الماجدي‚ أديب كمال الدين‚ صاحب الشاهر‚ شاكر لعيبي‚ رعد عبد القادر‚ عبد المطلب محمود‚ مرشد الزبيدي وسواهم من الشعراء الذين غزت أسماؤهم المجلات الأدبية ( والذاكرة تخون) لابد أن يلتفت إلى نوع جديد من الكتابة الشعرية‚ كتابة تنأى بعيدا عن الأسطرة الخمسينية ولا ترى في غموض الكائن الستيني المتوتر وغربته مصدر الهام لها‚ لقد مارس الشعراء السبعينون نوعا غير مقيد من الانتقائية في العودة إلى أسلافهم ومصادر إلهامهم‚ كما لو أنهم كانوا قد حلموا المبادئ التي انطوت عليها مرحلة ما بعد الحداثة قبل أن يعرفوها‚ لقد امتزجت في محاولاتهم تأثيرات خليل حاوي ويوسف الخال وسعدي يوسف وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وتوفيق صايغ وحسب الشيخ جعفر ومحمود درويش ويوسف الصايغ وفاضل العزاوي‚ ليصنعوا منها عجينة لا تذكر بالمواد الأولية التي شكلتها‚ لم تسع القصيدة السبعينية إلى التحرر بعنف من الستينيات مثلما فعلت القصيدة الستينية في مواجهة هيمنة الخمسينيات‚ لقد جرى فض الاشتباك بشكل هادئ‚ على الرغم من أن الستينيين كانوا هم سادة الملعب بحكم هيمنتهم عل؟ المؤسسات الحكومية والحزبية‚ ولهذا السبب فقد سعى الستينيون إلى ممارسة نوع من الأبوة المبكرة‚ وهو ما تخلوا عنه غاضبين بعد عشر سنين‚ حين نشرت مجلة (الوطن العربي) التي تصدر في باريس عام (1984) مقابلة مع أربعة شعراء من السبعينيات هم: (زاهر الجيزاني‚ خزعل الماجدي‚ فاروق يوسف‚ سلام كاظم)‚ لقد قوبلت تصريحات السبعينيين بموجة غضب عارم وهرج وصل حد الإسفاف‚ بل أن البعض ممن استقبحها حاول أن يستغل حالة الطوارئ التي كان العراق يعيشها ليدعو إلى منع الشعراء الأربعة من النشر‚ كانت تلك المقابلة بكل ما الحق بها من سوء فهم‚ جسدته مئات المقالات النارية المناوئة‚ هي علامة الولادة الثانية لجيل السبعينيات في العراق‚ حدث ذلك قبل عشرين سنة‚ ترى هل ترك السبعينيون بعد كل زوابعهم أثرا حقيقيا في القصيدة الحديثة في العراق؟

( 3 )

أين هم الان؟ أحاول أن أتتبع خطواتهم‚ لقد دمرت حيواتهم في المكان الأول الذي شهد ولادة مغامرتهم الشعرية‚ واتخذت مصائرهم أشكالا لم تكن متوقعة‚ لا من قبلهم ولا من قبل من عرفهم وهم يلقون خطواتهم الاولى على أرض أوهمتهم بالثقة‚ تلك الخطوات التي لم تكن تشي بميلها إلى العزلة والتنسك والتشرد والغياب‚ لقد تشظوا في بقاع الأرض: سلام كاظم في فنلندا‚ زاهر الجيزاني في الولايات المتحدة‚ كاظم جهاد في فرنسا‚ شاكر لعيبي في الإمارات بعد أن عاش في سويسرا زمنا طويلا‚ هاشم شفيق في بريطانيا‚ خزعل الماجدي كان إلى وقت قريب في ليبيا‚ كمال سبتي في هولندا‚ وأنا في أسوج‚ الآخرون لا أعرف هل ما زالوا في العراق أم غادروه‚ غير أنني على يقين من مصير اثنين منهم‚ هما صاحب الشاهر ورعد عبد القادر‚ الاثنان هما الآن ميتان: الأول مات عام (1982) والثاني عام (2003)‚ الشاهر لم يترك إلا أثرا شعريا واحدا هو كتابه ( أيها الوطن الشاعري) ولا يفيدنا في شيء التفكير في ما يمكن أن ينتج عنه شعريا لو أنه بقي حيا‚ أما عبد القادر فقد أمهله الموت قليلا بما سمح له بإنجاز جزء من مشروعه الشعري‚ هذا الجزء الذي سيكون بإمكانه أن يصف إلى الأجيال الشعرية القادمة عذابات رجل قاوم كل محاولات النبذ والإقصاء والتهميش‚ بقوة قديس زاهد رأى في الشعر ملاذا‚ على مستوى النتاج الشعري فان غالبية الذين ظهروا قبل ثلاثين سنة بصفتهم فرسانا لحركة شعرية جديدة ما زالوا يكتبون الشعر‚ أما من توقف عن كتابته فقد فعل ذلك في وقت مبكر كما هو الحال مع عبد الحسين صنكور صاحب (القصيدة البيضاء) التي نشرت برفقة بيان القصيدة اليومية الذي أشرت إليه‚ ولكن هل يقتصر تأثيرهم في الحياة الثقافية العراقية على النتاج الشعري الذي قدموه أم يتجاوزه إلى المعاني التي انطوت عليها ظاهرة تمثلهم الواقعي لوهم التحول الذي كان بمثابة محاولة لصد الخراب القادم من الستينيات؟ أعتقد أن لهؤلاء الشعراء يعود الفضل في ظهور مزاج شعري مختلف عن ذاك الذي ساد في الستينيات‚ وهو مزاج استفاد من تقنيات الكتابة الشكلية غير أنه لم يخضع لها أو يصنع منها هدفا ملغوما‚ كما أنه عبر عن قراءة منصفة وغير متحيزة للإنجاز الشعري العربي‚ فذهب الى مناطق شعرية كانت محرمة لاسباب غير شعرية‚ لكن لا ذلك المزاج ولا تلك القراءة يساويان بتأثيرهما ما أحدثه حضور أولئك الشعراء من حيوية داخل المشهد الثقافي‚ كانت هذه الحيوية نوعا من الاستهلال الاستفهامي لعقود من الوهم‚ وكما أرى؟ الآن فان المغامرة الشعرية السبعينية كانت وراء انحراف الشعر الحديث في العراق طوال هذه العقود عن الطريق الذي أسست له قصيدة الستينيات‚ فالشعر الذي كتبته الأجيال اللاحقة كان بمثابة اشراقات مستلهمة من الفتح الذي مثلته‚ حين يسألني بعضهم اليوم: كيف احتملت العيش في ظل الديكتاتورية كل هذا الزمن؟ أقول لهم بيسر: كنت ارعى الجمال وأكتب الشعر‚ إن معجزة من هذا النوع تكفي للبرهنة على أن الجيل الشعري الذي ظهر قبل ثلاثين سنة كان يقيم في قلب القصيدة‚ مدافعا عن الجمال‚ يكفي أن نقرأ كتبا من نوع: (دخان المنزل) و( الأب في مسائه الشخصي) و( لنعد يا حصاني إلى النوم) و(خزائيل) و(جوائز السنة الكبيسة) وسواها من كتب الشعراء السبعينيين لنثق بالشعر‚ كونه جهة جاذبة للهواء النقي‚

الوطن القطرية Date:November-13-2004