Shaker   Laibi

 بحوث ودراسات أدبية وفكرية

   

بيان من أجل قصيدة النثر، طبعة أولى، دار الفارزة، جنيف 1995

الشرق المؤنث أو عريٌ عربي، بطاقات بريدية وصور فوتغرافية منذ 1900، طبعة أولى، دار الأرض، قبرص 1992

في مأزق الثقافة الفاشية، طبعة أولى، دمشق 1984

 

بحوث جديدة : مختارات من دراسة عن الشاعر الألماني ريلكه

ريلكه وتقاليد الشعر العربي المعاصر

شــاكر لـعـيـبـي

في (رسائل الى شاعر شاب) يعلن ريلكه تحفظه وريبته من النقد الأدبي، أي الكلام الدائر حول النص: "النوايا النقدية بعيدة عني. كلمات النقد لا تمَسَّ الا قليلا الاثر الادبي: انها تُوصل دوماً تقريبا الى سوء تفاهمات" عندما يقرأ المرء هذا الاحتراس سيحترس بدوره، بل يتخوف، عند الحديث عن ريلكه نفسه. فان الخشية من الكلام الذي يصف نوعاً آخر من الكلام، وهو جوهر فكرة ريلكه هنا، يمكن ان تعمَّم لتصير سؤالا عن قدرة الكلام عموماً على الوصف الموضوعي، وعلى وصف الشعر وتلمس مواطنه الاكثر سرية أي الأهم. اننا نتساءل الان مثل ريلكه عن القدرة الفعلية التي يمتلكها الكلام، خاصة ذاك الكلام المار الينا عبر وساطات، خاصة وساطة الكتابة بلغة اخرى غير اللغة الام ؟

سنقول فورا ان بحثنا الحالي يتعلق بجانب صغير من نص ريلكه الشعري وهو ذاك المكتوب مباشرة باللغة الفرنسية الذي ترجمناه الى اللغة العربية. كيف يمكن لمن لا يعرف الالمانية أن يحيط بعوالم هذا الشاعر حتى لو زعم، مثل العربي، بان علاقته بالشعر تحدد، من بين جميع ضروب الثقافة الاخرى، كينونته الداخلية، وانه لهذا السبب، يمكن ان يتكلم عن شعر شاعر مثل ريلكه بثقة وإنصاف.

 

هل نحب ريلكه بسبب أن النص العظيم يتخطى حاجز اللغة؟ هل ثمة تقاليد داخلية arriere pays في الشعر تتجاوز اللغات، وتسمح بتفاهم مثل تفاهم الطيور المهاجرة الملتقية بأصنافها في قارة اخرى اثناء انتقالاتها الموسمية؟

هذه الاسئلة، وما يجاورها ويحيط بها، تثيرها في النهاية قراءة الشاعر بلغة اخرى أو مشكلة الكتابة بلغة اجنبية وهو، كما نعلم، ما حاوله ريلكه.

 

فلنتوقف في البدء أمام هذه النقطة.

 

 

ولادة شعر ريلكه باللغة الفرنسية :

لا تبدو الكتابة بلغة اخرى بالنسبة لهذا الشاعر الالماني، ويا للعجب، شيئاً خارقاً للعادة، حتى انه قد كتب قصيدتين اثنتين في اللغة الايطالية وقصيدة بالروسية. غير ان ما يلاحظ بيسر هو ان قصائده الفرنسية تتجاوز مجال المحاولة وحقل الطرفة، وتشكل وحدة نصية معتبرة، substantial body على حد تعبير مترجمها الى الانكليزية بولين. اللغة الفرنسية كانت "اليفة اليه مثلما الالمانية" على ما يقول في رسالته الى الشاعرة الروسية مارينا تسفيتييفا المؤرخة في 1926 قبيل وفاته بقليل. حتى ان هذه الشاعرة تلاحظ ان رغبة ريلكه في كتابة الشعر باللفرنسية تجيء بسبب انه "كان متعباً من تفوقه, كان يريد العود الى المدرسة، لقد امتلك اللغة الاكثر عقوقاً من بين جميع اللغات بالنسبة لشاعر من الشعراء: الفرنسية".

قبل اربع سنوات من دخوله بعلاقة صداقة مع هذه الشاعرة الروسية، انجز ريلكه وبنفس الفترة الزمنية تقريباً (مرثيات ديونو Les Elégies de Duino ) و(سونيتات الى أورفه). المرثيات ظلت معلقة منذ سنة كتابتها 1912. كان شتاء 21-1922 مرحلة "انتاج خصبة" كما يقول هو نفسه. سنة 1924 وصف حالته الى صديقته (لو) بانها تستدعي الاقامة في فال-مون التي فيها هي بالضبط، كما يضيف ريلكه نفسه: "ولد بالحاح مجلد من الابيات الفرنسية من بين اشياء اخرى...". هذا المجلد المكتوب بالفرنسية لم يولد بمحض الصدفة لان علاقة ريلكه بالفرنسية من العمق بحيث انها كانت تؤتي أكلها في نهاية المطاف. عند العودة الى سنة 1910 نرى ان ريلكه كان يرتاد المكتبة الوطنية في باريس ويعاود قراءة الشعراء الفرنسيين, واولهم بودلير. في رسالته الى (لو) المؤرخة في 18 تموز 1903 يذكر: "كان بودلير بعيداً عني من الوجوه كلها, كان واحداً من اكثر الغرباء بالنسبة لي! بمشقة كنت افهمه غالباً, اقلها في قلب المساء عندما كنت اعاود كلماته مثل طفل. كان يصير قريبي, جاري في الادوار العليا، واقفاً، ممتقعاً، خلف الحاجز النحيف يصغي لصوتي المتساقط".

في المكتبة الوطنية كان ريلكه يقرأ بنهم شديد بحيث انه من المستحيل معرفة الكتب التي قرأها باللغة الفرنسية هناك، سوى انه يعلمنا بعض الاشياء عن قراءاته في رسالته المؤرخة في 17 اكتوبر 1902 : "اقرأ كثيرا في المكتبة الوطنية.. جفروا، بودلير، فلوبير، الاخوة غونغور، اقرأ رغم ان اللغة (الفرنسية) تحزنني بسبب إحاطتها بكل شيء.." هناك كان يترجم من الفرنسية سونيتات لويز لابيه, رسائل المتدينة البرتغالبة، الفنطورس Le Centaure لموريس دو غيران، الابن الضال لاندريه جيد، قصائد لمالارميه وبودلير". كان بول فاليري الشاعر الفرنسي الوحيد في عصره الذي يُعتد به الى اعلى الدرجات بالنسبة اليه كما كتب الى (لو) في 13 جانفييه 1923،.

كانت لديه بالإضافة الى ذلك صداقات مع الوسط الثقافي الفرنسي عبر البعض من المع رموزه: اندريه جيد، ورومان رولان وجوف وسوبيرفيل Superville الذي كتب له ريلكه رسالتين بالفرنسية بتاريخ 12 و18 نوفمبر 1925.

 

عن علاقته الحميمة بالفرنسية كان ريلكه يروي الى دو بوس، اثناء احدى لقاءاتهما، فصلاً صغيراً من صميم مشروع شعري يتعلق بالانشعاب bifurcation المتبادل بين الالمانية والفرنسية. كان الامر يتعلق كما يروي دو بوس على لسان ريلكه "بكتابة نص بمناسبة الذكرى الخمسينية لهومانستال: نظرت الى المفكرة التي احملها دوما لكي اسجل فورا عناوين القصائد التي اود كتابتها يوما ما، والتقيت بالكلمة Corne d’abondance . وفكرت ان هذا سيلائم هومانستال، ثم انني اثناء تفكيري بالكلمة الالمانية التي تقابلها Büllorn بدأت بتأليف قصيدة المانية كتبتها بسرعة. سوى انني شعرت بان تصميمي لم يكتمل بعد تماماً، فان الكلمة الفرنسية هي التي قفزت الى ذهني أولاً. وإذن فقد ألَّفتُ فوراً قصيدة اخرى بالفرنسية منطلقة، هذه المرة من التعبير Corne d’abondance، متسائلاً طيلة وقت كتابتي لها فيما إذا كنت سألتقي بمجرد ترجمة للقصيدة الاولى. وبالأحرى فان ما كان يحصل هو العكس تماما، فمن دون تدخل مني كانت القصيدة الفرنسية تتجه لوحدها الى مكان مختلف كلية..".

ويقول دو بوس "لدى عودة فاليري من سويسرا حيث كان يقيم عند ريلكه- روى لنا في شهر ايار الماضي ان ريلكه قد كتب قصائد بالفرنسية وانه هو، فاليري، يحبها جداً وان القطع الثلاث الصغيرة المدرجة في مجلة كوميرس Commerce التي انهيت توا قراءتها- هي في الحقيقة مطلقة الرقة، رغم اننا نجد فيها اثرا خفيفا وليس تأثيرا لقراءة متمعنة لفاليري..". سيحدثنا فاليري بعدئذ بانهما هو وريلكه قد "أمضينا سوية يوما كاملا تقريبا على اطراف بحيرة جنيف قبيل وفاة ريلكه بـ 13 إسبوعاً. في بارك أحد الأصدقاء حيث رأيته، كنا نتحدث ونحن نتمشى ساعات وساعات..".

كان ريلكه يكتب منذ زمن طويل بعض رسائله أو مقاطع منها بالفرنسية. فرنسيته التي كان يستخدمها اثناء عمله سكرتيرا لرودان كان (فيها مطهر في مكان ما) على ما يقول في رسالته الى (لو) في 14 نوفمبر 1905 . في مراسلاته الطويلة مع ماري دو لاتور وتاكسيس كانت الفرنسية تختلط بوعي بالالمانية. لا يتعلق الامر بكلمة او باثنتني مستخدمتين، ففي بعض الحالات كانت هناك مقاطع كاملة او رسائل كاملة. فرنسيته على ما يقول مؤلفا مقدمة (رسائل الى شاعر شاب) هي فرنسية "مكتوبة بطلاقة ويسر لكن تعلن بعض التردد، بعض الاخطاء الخفيفة في استخدام الزمن الماضي وفي حروف الجر وفي بناء الافعال.

كانت الفرنسية لغة ثانية في الحياة اليومية للشاعر. فقد كتب بها الكثير من رسائله الشخصية من قبل. في 5 كانون الثاني 1910 كتب رسالته الى (صديقة من البندقية) بالفرنسية، وبين السنوات 1924 1926 كان ريلكه يرتبط، عبر الفرنسية، بعلاقة صداقة مع مدام دو بونستيتين. كتب ريلكه اليها يقول: "جزء كبير من مراسلاتي يمر عبر الفرنسية، لهذا فقد فكرتُ بان أخلـِّص اللغة الاخرى من كل استخدام يوشك ان لا يكون من الفن وان استخلص منها مادة صافية لعملي اللغوي. نجحت لبعض من الوقت ومن ثم، فجأة في هذا الشتاء بدأت الفرنسية تعتدي على الارض التي كان يتوجب عليها حمايتها. انتهيت مرغما بعض الشيء من كتابة كراس من الشعر الفرنسي وهو، كما يمكن ان تخمني شعر لن يجري الاعتراف به". النصوص الفرنسية لن يطبعها ريلكه الا في وقت لاحق.

في نهاية عام 1922 عندما انجز ريلكه بأقل من شهرين عمليه الشعريين المهمين المذكورين اعلاه، فانه كان قد كتب 28 قصيدة فرنسية فقط. غير انه قد أنجز في الحقيقة حتى تاريخ وفاته في شهر ديسمير من سنة 1926، اضافة للعديد من القصائد الالمانية المكتوبة بعد العملين المذكورين اعلاه، حوالي 400 قصيدة بالفرنسية، بما يعادل مئة قصيدة بالسنة الواحدة. وبعبارة اخرى، كما يلاحظ بولين، فان ريلكه قد كتب في غضون سنة واحدة قصائد بلغة اجنبية أكثر مما كتب بلغته الأم. أليس ذلك مثيراً للعجب والإعجاب؟

يرد المترجم الإنكليزي على الزعم القائل بان هذه الأعمال ليست من أعمال ريلكه الناضجة بالقول ان في ذلك سخرية من البدهي لأن العديد من قصائده الالمانية المتضمنة في (كتاب الصور) Das Buch der Bilder وفي (قصائد جديدة) Neue Gedichte ليست من الأعمال الناضجة كذلك، وان من الجلي ان البعض منها كان أكثر نجاحاً من الاخريات وهو ما يستجيب للطبيعة المتقلبة للفن حتى لو انجز على يد عبقرية كبيرة.

 

إزاحة مزدوجة :

يمكن اعتبار قصائد الشاعر الألماني ريلكه المكتوبة مباشرة باللغة الفرنسية معجزة تليق بالشعراء لوحدهم. هذه القصائد ليست تجاريب شكلانية على لغة أخرى، وليست لعباً على مفردات وقاموس موليير، كما انها ليست تدريبات على إيقاعات لغة جديدة، لأنها لا تقل أهمية البتة عن شعره الأكثر تألقا المكتوب، بالطبع، بلغته الالمانية. ان ثراء وعمق هذه القصائد مؤثر ومحسوس في كل قصيدة. رؤيا ريلكه ترتدي، فحسب، في هذه القصائد إيقاعاً فرنسياً. من سيطلع علينا باصرار بعد قراءة متمعنة للنصوص الفرنسية، هو ريلكه الذي نعرفه نفسه.

لنعيد التساؤل : كيف يمكن لشاعر ألماني متوغل في احراش ألمانيته، أن يقتنص روح لغة أخرى لا تشترك كثيراً في بنيتها وتراكيب جملها وايقاعاتها مع لغته، كما تشترك مثلاً اللغات اللاتينية بقاسم يعرفه من اطلع على الايطالية والفرنسية والاسبانية مثلاً؟ الاجابة على هذا السؤال تحيل الى مفارقة كبيرة، وحده الشعر من يستطيع تجاوزها. فإذا ما كان صحيحاً ان الادب، والشعر من بين انواعه كلها، لصيقٌ بالرحم اللغوي الاول، وإذا ما كانت المخيلة تـَسْطـُعُ وتتجود ضمن لغة الطفولة الاولى، فيبدو صحيحاً كذلك ان مخيلةً مبنية على الصور والاستعارات، قبل ان تنبني على المجازات والالاعيب الصوتية والجناسية ، يمكن ان تُنْجَزَ وبنجاح في سياق لغة أخرى. لا نتكلم عن الترجمة ونتكلم عن محاولة مثل محاولات ريلكه وبيكت ويونسكو وارابال على سبيل المثال. في الشعر فان المحاولات الناجحة تتأسس، على ما يبدو، على الصورة الدالة قبل أي أمر آخر.

لكن المرء سيتساءل باصرار بان انهماكاً شعرياً اصيلاً يظل في جوهره مهموماً وحساساً لأصوات ولإيتمولوجية اللغة حتى لو ادعى استخداماً مباشراً لها، أي حتى لو اعتبر اللغة مجرد اداة لتوصيل صوره الشعرية او التفاهم فحسب. كيف يمكن والحالة هذه اذن كتابة الشعر بلغة اجنبية كما حاول ريلكه؟ ليست الإجابة على هذا السؤال بالهينة خاصة إذا ما عرفنا ان لا أعمال بيكيت ولا قصائد ريلكه يمكن ان تصنف ككتابات ضعيفة ولا كمحاولات مدرسية أوتمرينات على لغة أجنبية. فاننا عندما سنقرأ لريلكه الأبيات التالية :

أراك أيتها الوردة كتاباً منفرجاً

"بصفحات كثيرة

سعادة تفصيلية

لن تُقرأ أبداً كتابٌ- مجوسيٌ

منفتح في الريح ربما قُرأ

بعيون مغمضة،

حيث تطير الفراشات منه ملتبسة

بسبب الأفكار نفيها"

سنتأكد ونجد كما وجد اندريه جيد في ابياته الفرنسية فرحاً من نمط جديد معلناً قوة خصائصها الشعرية.

وعلى ما يبدو، فإن شاعراً أصيلاً يمكنه الكتابة بلغة جديدة يتقنها طالما انه منفلت في مسار البحث عن الشعري. هذا الاخير يتجاوز الأنواع ويحل فيها كلها ويتجاوز بشكل خاص اللغات ويصير مثالا لها. بل ان اللاعب الكبير على لغته الأم يمكن ان يكون بنفس المستوى لاعباً على لغة أخري حتى لو نطقها بلكنة قوية. تعرِّفنا قراءة شعر ريلكه المكتوب بالفرنسية مباشرة على مقدار حساسيته ازاء اللغة الفرنسية ووضوح طريقته في اللعب بها. فاذا ما تفتحت ابواب لغة جديدة على مصراعيها امام متعلم حاذق، مهموم اصلاً باللعب على المفردات فلأنه مهموم بقول ما لا يُقال عادة في اللغة العادية، النثرية. ان المشكلة برمتها ستتعلق، كذلك، بمستخدم غريب تصير طريقة اشتغال لغة جديدة بالنسبة اليه بمثابة انتقال للمدلولات signifiés في فضاء تجهله لغته، بهذا القدر وذاك. من هذه الزاوية فان انتقال المدلولات بالنسبة لشعره الجديد هذا يدور في فضاءات محض تجريبية. بصفته شاعراً يكتب بالفرنسيه يبدو ريلكه شاعراً تجريبياً بمعنى عميق للتجريبية. ان شعره يصير بالضرورة تجريباً صافيا. ألا يقع بعض من الهم الشعري لجميع الشعراء في هذه (الازاحة écartement) الموصوفة كثيراً في النقد الحديث (لدى كوهن مثلاً). لكننا هنا امام ازاحة مزدوجة إذا صح التعبير، تستحضر مداورة وتنقل الفضاء الأصلي، الأم، المتعلق بمادة الصورة الشعرية، للمتخيـَّل، الى فضاء لغوي جديد كل الجدة، ففي الرسالة التي استشهدنا بها اعلاه يقول ريلكه بعد ان ذكر ان مجلدا من الابيات الفرنسية قد ولد: "من المثير للفضول انني قد عالجت احيانا الموضوع نفسه بالفرنسية والالمانية، وقد تطور، مثيرا استغرابي، بشكل مختلف في اللغتين، الامر الذي يجعلنا نشك، جدياً، بشرعية الترجمة..". لتحضر بذلك الغرابة، التي هي كذلك نطفة الشعري، بأعلى تجلياتها اللغوية الممكنة. يتوجب فهم أشعار ريلكه فرنسياً ضمن هذا المنظور.

كتابة ريلكه ليست إذن اغتراباً في اللغة الفرنسية، انما حضورٌ لأقوى ما في الشاعر من طاقات تتجاوز، ربما، اللغات. حضور الموضوعات الأصلية اللصيقة بالكائن، حضور الاولي لدى كائن مهموم بالولادة والموت، بالغيابات والحضورات التي هي مفهومات شمولية تتجاوز اللغة المقالة بها.

عندما نتحدث عن (الصورة) ولا نتحدث عن استعارة صوتية، جناسية في هذه الاشعار، فاننا نتوقف مثلاً امام هاته الابيات :

"انظر الى سبابة الطفل وابهامه

هذه الكماشة الطرية

التي يندهش حتى الخبز منها

هذه اليد بالغة الطيبة

ربما قتلت الطائر

وارتجفتْ

من رجفته الاخيرة

نفيه المفاجيء للخطاف

الذي كان يمنعه وما زال يمنعه"

نرى باننا ازاء شعر يتخطى الجناس، ولو انه يتضمنه، ليذهب الى المخيال الاعلى الذي يقول. اننا نجد انفسنا الان في داخل النشوة نفسها التي تثيرها هذه الابيات في لغةٍ امٍ. ولذلك سبب عميق في سيرورة عمل الشاعر الالماني. فإذا ما كان ريلكه قد حاول، حسب كاتب سيرة حياته باللغة الانكليزية الامريكي دونالد براتي،الكتابة بالفرنسية في مدينة موزو السويسرية، فلأنه كان يحس للمرة الاولى بدافع الإذعان "لهذه اللغة الرائعة" ولانه كان يشعر بان الالمانية قد أوصلته الى القليل فقط من التجريد بحيث انه " لم يكن قادراً على العودة الى تفاصيل البدايات التي لن ينبثق من دونها عمل الفنان، في حين ان بمستطاعه، في الفرنسية، الركون الى مثل هذه البدايات...".

ان هذا القلق الريلكوي ازاء خيار اللغة يصعِّب ويعقِّد عمل مترجم أعماله المكتوبة بالفرنسية، ذلك ان النص الشعري سيجد نفسه في خيار لغوي ثالث، هو خيار اللغة المنقول النص اليها.

سنسمى لغة ريلكه الأم باللغة الأولى، وسنسمى اللغة الفرنسية التي يكتب بها شعره كذلك اللغة الثانية كما سنسمي اللغة التي يُتَرْجَم بها شعره المكتوب بالفرنسية باللغة الثالثة. ما سيعقد مشروع ترجمة وقراءة الشاعر الالماني قليلاً هو ان لغة ثالثة مثل العربية تعلن، بالمقارنة مع اللغات الأوربية، تفارقات جدية ذلك ان طريقة عملها تختلف عن قريناتها الأوربيات بدءاً من عدم وجود مصدر الفعل كما هو معروف بصيغته الأوربية. أي بوصفه االشكل الاسمي (الصيغة اللاشخصية) المعبر ببساطة عن فكرة النشاط أو الحالة، بطريقة تجريدية ونكرة. بدلا عن هذا المصدر، الذي يمكن ان يلعب دوراً شعرياً، ثمة شيء آخر في العربية لا مجال للبسط فيه هنا. يعقد المشروع ويصعبه ولكنه يدفع بالمشروع الي الممكن كذلك طالما ان ترجمة ريلكه، او اي شاعر حقيقي مثله، تمنح المترجم تلك المتعة التي تنسل ليس من باب القواعد النحوية والصياغات اللغوية الممكنة لجملته الشعرية ولكن من باب اللقاء الكبير بين الجوهري من تقاليد الشعر العربي والجوهري في شعره.

ما هي بشكل أساسي تقاليد الكتابة الشعرية العربية؟

نزعم ان الثقافة العربية قد توصلت عبر 14 قرنا من كتابة الشعر، الى قانونين أساسيين للشعر : الأول قيامه على (الأوصاف والاستعارات) علي ما يقول ابن خلدون في تعريف له للشعر، والثاني قيامه على نمط وزني معين.

القانون الاول يقذفنا في فضاء الشعري poétique، والثاني يساعد النص على المزيد من التماسك والانضباط وعدم الانسراب في كل اتجاه.

من جهة اخرى فان تلك التقاليد كانت تمنح الشاعر العربي دوراً ثقافياً عالياً هو انه المصرِّح عن المعاني. مقتنص المعاني والمشير اليها، سواء أكان ذلك عبر الحكمة الصافية أو عبر اللذة الصافية، عبر الإلهي أو عبر الدنيوي. لقد كان الشاعر العربي وحتى وقت حد قريب رديفاً للرجل الحكيم، العارف. وليس للرجل الحالم ولا للعقل السادر المائع. لذا فان أفضل نماذج الشعر العربي لم تكن تعاني، أكاد اقول أبداً، من ايما نزعة رومانسية، من ايما ميوعة رؤيوية، ما عدا في الفترات القصيرة جداً التي جرى فيها جهاراً تقليد النبرة الرومانسية في الشعر الاوربي.

ان قيام الشعر على (الاستعارات) وقيامه وفق (نمط موسيقي دقيق) واعلانه (للمعني) هي في تقديري القوانين الثلاثة الان التي حركت الشعر العربي الى يومنا هذا. من هذه الزوايا عينها يلتقي شعر ريلكه بعمق مع تقاليد الشعر العربي. هاته القوانين، مثل كل القوانين والظواهر، قابلة للتطور كما الاندثار.

مما له دلالة واضحة هو ان شعر ريلكه يقول المعنى مداوروة، يقول الاشياء عبر الصور المتواصلة، الصادمة، المذهلة. مثل كل الشعراء الكبار فان الصور هي بؤرة قصيدته. وعلى سبيل المثال فقصيدته (النوافذ) ما هي الا استعارة مطولة، ممطوطة ومدهشة، لا تغترف سوى من طاقتها الداخلية لكي تلقي امامنا بالمعاني الغامضة. عندما نقرأ:

"المرأة التي نحبها ليست أكثر جمالا

الا حين نراها تطلع مؤطرة بكِ

أنتِ، أيتها النافذة من يوشك على تأبيدها

……………….

أيتها النافذة، يا مقياس الإنتظار

الممتليء مرات بتدفق الحياة الراغبة بشدة

بحياة أخرى

انتِ من يفـْصِل ويشدُّ

وانتِ تتحولين الى مرآة، مثل البحر

نرى فيها بغتة أشكالنا

وهي تخلط عبر >المرآة< ما تراه فيها

تصير النافذة هنا مناسبة لشد القاريء الى جملة اشياء: الى مفهومة الزمن، الى فعل الذاكرة، الى كل ما هو مخفيٌ في العتمة، الى كل ما لا نستيع مسّه بأيدينا مثل هذا المستحيل المتقـنع بقـناع الممكن..الخ. الاستعارة ها هنا قوية بمكان لكي تصير الشعر الريلكوي كله، وهو حالها تماماً في الشعر العربي القديم والحديث وفي أي شعر.

إن التأسس على الإستعارة يعني من بين ما يعني بأن الشاعر يعْرف تماما أدوات فنه والطريقة الملائمة لقول ما لا يستطيع النثر قوله. انه على بينة من أدواته التعبيرية وهو يسيطر عليها. الاستعارة وليست اللعبة الشكلية، أو أيما لعبة جناسية أو طباقية. هذه الاخيرة يمكنها ان تثري القصيدة لكنها لا يمكن ان تُشكـِّل، وحدها، القصيدة. حتى في هذا التفصيل يلتقي ريلكه مع تقاليد الشعر العربي، فعندما يعرِّج في نصه الشعري الفرنسي، على الجناسات والطباقات الداخلية والخارجية فانه لا يجعلها المحرك الاساسي لقصيدته. لو انه جعلها كذلك لغدا نصه عملاً شكلانياً ولعباً في اللغة، (لقول الطرفة) وليس لعباً على اللغة من اجل قول العميق. ان الاستغراق فحسب في لعبة الكلمات وتصويتاتها ليست لعبة ريلكه رغم انه يغترف، مثل الشعر العربي، منها. يبدو التوقف عند اللعب اللغوي فقط وكأنه نفي للمعنى.

 

بحثاً عن المعنى:

ما سيحاوله الشعر الاوربي الحديث بدءا من مالارميه ورامبو، هو، حسب ما يشرح هوغو فردريك، نوع من تنافر الاصوات dissonance ذلك انه يعلن نبرة من الهرمسي hermétisme ومن الغموض obscurité . هل هذا هو حال ريلكه؟ ان ريلكه يستبطن، عبر الكلام، ما هو عميق وكوني وانساني، ويبدو لهذا السبب وكأنه يقف على النقيض من سوداوية وعدمية الشعر الاوربي الحديث، الواقف، منذ الان فصاعدا، عند تخوم القاعدة الشعرية الحداثوية،قاعدة الغموض. لم يخضع ريلكه، بوصفه شاعرا كبيرا، لا للغموض ولا للسوداوية ولا للعدمية وتبقى الي جانب ذلك شاعراً (طليعياً) وذو وعي من طراز ثاقب. لنتوقف امام هذه النقطة التي تشهر مفارقة ظاهرية. ان القصيدة الريلكوية، المتأسسة على المخيال، تتأسس كذلك على قاعدة من البساطة المتناهية، المتناهية، المتناهية لكن الخداعة. في رسالته الى صديقته (لو) يقول: "انني بسيط الى ابعد الحدود" "لقد تعلمت البساطة، تعلمتُ ببطء، بصعوبة ان كل شيء بسيط وانني قد غدوت ناضجاً لكي أتكلم عن البسيط". وهو يشير الى القدر المخيف من العري الوجودي الذي تعلنه البساطة. البساطة بالنسبة اليه رديف للعميق. عندما يختار بعض الزهور من اجل (لو) فانه يسعى الى زهور بسيطة بشكل كاف لكي تكون أكثر حضوراً. بين مخياله والبساطة تقع ارض حرجة، مشمسة هي موطن للشعري. لم يحاول الشعر الحديث دوماً مثل هذه البساطة الظاهرية في الكلام.

ان طليعية ريلكه لم تمنعه من الالتزام بالايقاعات الموزونة والقوافي الصادحة، وهو ما نراه على اية حال في قصائده الفرنسية المستهدية احياناً بنظام الرباعيات الدقيق. في قصائده الفرنسية "كان ريلكه يبحث عن الإنتظام >الشكلي< عن الوزن الإسكندري حيناً، وغالباً عن القافية بنوع من إفراط يشابه ذاك الإصرار الساذج أو الهوس السمعي" على ما يقول أحد النقاد الفرنسيين. ان فنه الشعري يظل، من الناحية التقنية، مشدوداً الى البنية الكلاسيكية للبيت (وهو ما يجب ان يوكده لنا كذلك عارفو قصائده الالمانية) رغم انه قد حاول، مثل جميع الشعراء الكبار، كل الانماط الاخرى بما فيها قصيدة النثر. ان القانون الوزني يتبقى بالنسبة اليه ضرورة شعرية جنباً الى جنب طليعية فكره وحداثته العميقة. تدل على هذا الخطوة الطليعية انتباهته المبكرة لعمل مارسيل بروست الصعب "لقد كنتُ، كتب سنة 1922، من اوائل من قرأوا رواية (الى جانب سوان)، وإذن من أوائل من أعجبوا بمارسيل بروست"، كما تدل على طليعيته الثقافية، بشكل أخص، موقفه من المرأة الذي يقدم بعض الشذرات التعبيرية التي تصلح ان تُدرج في بيان للنسوية : "ان الفتاة أو المرأة اللتان يدركان ازدهارهما الداخلي الجديد لا تستعيدان الا عرضاً الأساليب الذكورية السيئة..". هذا الموقف من المرأة هو موقف جميع الشعراء العظام من العصور كلها، فالمتنبي العربي لم يكن يخاف من كتابة نص رثائي رائع عن جدته جرير قبله كتب نصه الجميل النبيل عن وفاة زوجته:

لولا الحياء لهاجني استعبارُ ولزرتُ قبرك والحبيب يُزارُ

ولهتِ قلبي إذ علتني كبرة وذوو التمائم من بنيك صغارُ

كتبه في وقت كانت وضعية المرأة الاجتماعية والقانونية مأساوية تماماً، وكان تناولها بالتالي في اطار انساني رفيع المستوى يشكل تجاوزاً لشرط المرحلة التاريخي. هذا الأخير كان يتعاطاها بأحسن الاحوال وارقاها كموضوع لعشق عذري محض، لا دور لها فيه وتظهر كموضوع سلبي جامد للعبادة، او كموضوع شبقي محض.

وإذن فان شعر ريلكه يتقاطع كذلك مع تقاليد الشعر العربي في هذه الانحناءة على المعنى، على الحكمة. من الناحية الإيتمولوجية تنحدر كلمة شعر اليونانية من (الخلق création)، وفي اللاتينية من (التخيل واالمخيال fiction) بينما تنحدر في العربية من (المعرفة) والعلم بالأشياء. فالفعل شــَعرَ بَمعنى (الشعور، الإحساس العميق بالعالم، ومن معنى الرؤيا). لهذا السبب فان الشاعر العربي يْعتبر، تاريخياً، قوال الحكمة لأبناء قبيلته ولعامة الناس. كانت القبائل العربية تتفاخر بوفرة الشعراء بين ظهرانيها وكانت الشعراء تتبارى بوفرة الحكمة والحكم في قصائدهم وعمقها. الشاعر كان ، في آن واحد، الرائي والحكيم، أو الحكيم الرائي. ان اقتران الشعر بالحكمة، أي بالمعنى الوجودي الاعمق، يجيء من ان العرب كانت تعتبر الشعر بمثابة الخزين الأهم لموروثهم الروحي والاخلاقي ولتجاربهم الوجودية. الشعر ديوان العرب كما تقول الجملة العربية المعروفة. اننا نلاحظ في هذا السياق ان غياب الفلسفة على النمط اليوناني لدى عرب ما قبل الاسلام كان يقابله، بسطوع شديد، حضور الشعر بمعناه العربي الموصوف هنا أي الحضور المكثف للحكمة في النص الشعري، بل تحول الشعر الى وسيلة لإفشاء المعنى بطريقة غنائية وتأبيده بالتالي في الضمير الثقافي العام. لكن ما هي الفلسفة ؟ انها حب الحكمة. Philo = حب وSOFIA = حكمة.

المقابلة بين شعر عربي وفلسفة يونانية تريد ان تُذكـِّرنا ان الوعي العاقل بالعالم لم يتمظهر لدى العرب ضمن مصطلحات فلسفية وانما كان يتمازج ويتداخل بالعاطفي ولانساني وبما هو غنائي. وبعبارة اخرى فان اللوغوس العربي كان يتمظهر في الغالب بلبوس الايروسي. يتبقى ان الهم الاساسي للشاعر الكلاسيكي العربي كان على الدوام اشهار الحكمة بمعناها العميق ولم يكن مطلق مواعظ. لذا فان بعض مطالع القصائد العربية الغراء لا تفعل سوى قول هذه الحكمة في اطار محض غنائي، موقـَّع بصوت عالٍ. هنا أمثلة على ذلك :

والظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عظة فلعله لا يظلمُ (المتنبي).

من يهن يسهل الهوان عليه- ما لجرح بميت إيلامُ (المتنبي).

السيف أصدق انباءً من الكتبِ في حده الحد بين الجد واللعبِ (ابو تمام).

كل ابن انثى وإن طالت سلامته على آلة الحدباء محمولُ (كعب بن زهير).

معللتي بالوصل والموت دونه إذا متُّ ضمآناً فلا نزل القطرُ (ابو فراس الحمداني).

بالنسبة للشعر الالماني فان (شعر وحقيقة هما صنوان) على ما كان يقول هايدغر الذي يصلح، ربما، لتبيان اهمية الفكر في الثقافة والشعر الالمانيين. بالنسبة اليه فان الشعر والفكر هما عالمان يجاوران الكلام. ان قراءة متمعنة لانطولوجيا شعرية المانية يمكنها ان تدلنا على ما يبدو الى ان السعي وراء حقيقة ما، وراء حكمة ما كان مسعى للشعراء الالمان منذ العصر الوسيط مروراً بصوفي كبير ولاعب كبير على اللغة مثل الإستاذ ايبرهارت. مسعي يختلط فيه الجمالي بالدال. لكن الدال يظل شاخصاً باصرار.

ينفتح ريلكه على الاحتمالات. انه المحدق المهول في حقائق العالم من دون زخرفة لفظية ولا أوهام، من دون لغة مائعة ولا تشبيه سهل. ان االمفردة (معنى) تتكرر في رسالته المؤرخة في 7 تشرين الثاني 1903 "محملاً بالمعنى" "لقد فهمت المعنى" "يأخذ معنى"، وهو أمر يدل على انماك الشاعر بالعالم، بالتأويل، بالمغازي والظاهرات.

 

هل كان ريلكه شاعراً رومانسياً:

نقول ان الدروس الرومانسية لا من طبيعة الشعر العربي ولا من طبيعة شاعر مثل ريلكه اللذان يقولان العالم بوجوهه المتنوعة، من دون نظرة باكية ولو حزنت وبوعي صارم وإن حلَمَ وباعتقاد ان الحقيقة ليست بالضرورة صنواً لما هو حزين وضعيف، لانها معقدة مثل تعقيد العالم وبابعاد متعددة، لانها جدلية وذات غموض وانها تثير في الوعي اشياء أخرى الى جانب الكآبة الرومانتيكية. ولعلها تلامس الطرفة مرات.

نقول هنا ان ثمة في الشعر الرومانسي شيء من الغموض وثمة شيء من الغموض في الشعر الحديث. هل هذان الغموضان من طبيعة واحدة؟ كلا. فالرومانسي يفترض ان هناك سبباً مجهولاً يُحِلُّ الحزن في كل مكان، ان هناك نبع ميتافيزيكي للدمعة التي هي في انهمار دائم من عين الآدمي. هذه الفرضية تسعى لتبرير بكائية الشاعر الرومانسي وتبرير حزن قصيدته. اننا مقذوفون، بالنسبة للرومانسيين، في ظلمة بدئية حتى لو تسمت باسماء مثل الطبيعة، الوجود، الكونالخ. انه تلفنا وتطوينا. بينما الغموض في الشعر الحديث، وفي شعر ريلكه، فانه يجيء من الطرق الجديدة في التعبير التي اختطها لنفسه من اصل عتيق وصوفي أو طقس يتناقض مع التبسيطية المطلقة.

وعلى ما يبدو فان كبار الشعراء منذ اب الشعر اليوناني هومير مروراً بسيد الشعر العربي المتنبي وصولا الى شاعر مثل سان جون بيرس في الشعر الفرنسي أو هاينه وهولدرلين في الشعر الالماني يبرهنون ان رؤية العالم في حركته، في كليته، في عظمته ونذالته، في صغائره وكبائره، في واقعيته وحلمه، في ايروسه ولوغوسه هي الرؤية المهيمنة في شعرهم بدلاً من أحادية نظر الشعراء التبسيطيين ذوي النوايا العالية. في الشعر كما هو الحال في الفلسفة فان المسافة كبيرة ومعتبرة بين افلاطون وارسطو. اظن ان ريلكه ينظمُّ، رغم وفرة اماكن لقائه مع افلاطون الى قافلة ارسطو في نهاية المطاف. بين الواقع الشعري والواقع الموضوعي ثمة انتصار كاسح للشعري على المألوف الذي هو تعبير اخر عن الواقع المستتب المعروف.

 

ريلكه وحكمة الشرق :

يبدو لي ان ذاك الاختلاط وذاك السعي وراء حكمة عصية مبثوثة هنا وهناك في اشياء العالم الاكثر بداهة يشكل فضيلة لريلكه على وجه الخصوص. خاصة وان ريلكه، في مرحلة نضوجه، كان في منأي عن اية نزعة محض حالمة، سوداوية او رومانسية ستسم، كما أظن، كبار شعراء تلكم الانطولوجيا الشعرية الالمانية المفترضة. انه يتبقى كذلك بمنأى عن اية استطرادات اكزوتيكية، لصيقة بالشرق غالباً.

بمقاربة ريلكه مع مؤلف (الديوان الشرقي للكاتب الغربي) يبدو الاول بعيد عن ايما نزعة اكزوتية شرقية رغم انه يتبقى في قلب الافكار التي حملها وبشر بها علم الاستشراق يومذاك. علاقة ريلكه بالشرق عموماً والشرق العربي والاسلامي على وجه الخصوص تستحق وقفة متأملة. في مراسلاته الكثيرة يبدو ريلكه، بادىء ذي بدء، مطلعاً، على مصر الفرعونية، ففي رسالته الى بينفوتا المؤرخة بتاريخ الاول من فيفرييه سنة 1914 ينصح الشاعر صديقته "بالذهاب الى برلين لرؤية التمثال النصفي لآمنوفيس الرابع" مضيفاً بانه "يستطيع ان يحدثها عنه لوقت جد طويل". وفي ذات الرسالة يذكر انه " قد أمضى ليلة كاملة تقريباً تحت ابي الهول الكبير". وفي سياق هذه الرسالة عينها ترد كلمة (العرب) عندما يمضي الشاعر بسرد تفاصيل زيارته لابي الهول ويقول :"يتوجب ان تعلمي بانه من الصعب ان يكون المرء وحيداً في ذاك المكان العام ، فالاجانب الأكثر غثاثة يأتون زرافات زرافات- لكنني كنت قد قفزتُ الى العشاء، حتى العرب كانوا يجلسون على مبعدة متجمهرين حول نارهم. كنتُ قد تخلصتُ من واحد منهم كان قد لحظني مشترياً له برتقالتين..".

اننا نعرف انه قد قام (ص208) خلال شتاء 1910-1911 برحلة الى شمال افريقيا (الجزائر وتونس ومصر). ويلمِّح في احدى رسائله الى بينفوتا الى مدينة القيروان وهو ما يصرح به بوضوح في رسالته الى لو اندرياس - سالومه المؤرخة بـ 16 مارس 1912. حول تونس يذكر الى بينفوته في رسالته المؤرخة بـ 8 فيفرييه 1914 بانه "يتذكر ليلة من غرفة في فندق صغير في تونس.."

ويعرّفنا في رسالة اخرى الى ذات السيدة بانه قد زار طليطلة الاندلسية ، وانه قد "رأى العهد القديم وقد صُوِّرَ بكل غنى المخيلة" وهذه من دون شك اشارة ملتبسة الى ارتباط طليطلة الثقافي والمعماري في ذهن ريلكه بالحضارة العربية الاسلامية.

حول هذا الشرق يتكلم ريلكه كذلك عن الاتراك في رسالته الى بينفوته المؤرخة بـ 16 فيفرييه 1914 وهو يقول : "أول من امس وفي نهاية الامسية جرى شيء آخر لم أذكره لك: أول أعمال صباي، لقد وثبت في قلبي أغنية سلفي هذه، حامل الراية cornette كريستوف ريلكه الذي كان (ربما في سنة 1662) يعبأ >الشعب< ضد الاتراك..": ويذكر بعدها ان "العالم كله ينحني على ترجمة قصيدة ذاك السلف المتبقية منسية طيلة سنوات وسنوات، بالانكليزية والبولونية والهنغارية، الله وحده يعلم كم من مقترح لترجمة القصيدة قد وُجهَ الى دار النشر...".

تتجلى ما اسميها بالنزعة الاستشراقية في الحديث عن نبي الاسلام في احدى رسائله التي يتضمنها (رسائل الى شاعر شاب) المشهورة وهو يذكر (لو حدستَ ان المسيح كان قد خدعته رغبته وان محمد كان قد صار ساذجاً عبر كبريائه)الخ. على الرغم في الحقيقة من هذه النبرة فان نصه الشعري لا علاقة له البتة باي مظهر أو مثال شرقي.

ان قصيدته ( نداء محمد ) الموجودة ضمن قصائد مجموعته (قصائد جديدة) هي مثال جيد على حيادية ريلكه الأيديولوجية أزاء الإسلام:

"بينما كان السامي المُدرك على الفور

في مخبأه

تدخل الملاك، صافياً، سوياً ومتوهجاً

ثم تخلى عن كل ادعاءاته وصلى

>هل< يتبقى على ما كان عليه

تاجراً ضائعاً في السفر

لم يكن قد قرأ البتة والان

فان مثل هذا الكلام- هو كثير بالنسبة لحكيم

حاسماٌُ كان الملاك بالأحرى يريه ويريه

ما كان مكتوباً في ورقته

لم يخفت البتة وكان يلح: إقرأ

قرأ حينها ، بينما إنثنى الملاك بدوره

هاهوذا إذن قد صار شخصاً قد قرأ

وكان قادراً وكان يستسلم

وكان يكتمل ".

يدل النص هذا، أقلها، على معرفة ريلكه لحياة نبي الإسلام بشكل وآخر. انه يشير الى نزول جبريائيل على النبي محمد وطلبه منه ان يقرأ ..الى آخر الواقعة التي نعرفها جميعاً.

لكن ثقافة ريلكه،كما تبرهن على ذلك مراسلاته، هي ثقافة شمالية اذا صح التعبير. انه عارف حقيقي بخفايا الشعر السويدي (انظر تعليقاته المتنوعة عن الشاعر السويدي جاكوبسن في رسائله الى شاعر شاب). شاعر شمالي حقيقي يبدو لهذا السبب متعالياً قليلاً على جنوب العالم وهو ما تبرهنه ملاحظاته حتى عن مدينة روما العاصرة ومصر الاسلامية. هذا الموقف يميز الى يومنا هذا الشعراء والمثقفين الجرمانيين ذوي النزوع المثالي. بهذه المناسبة نقول ان الثقافة الالمانية تعلن، في عصر ريلكه على الاقل، عن تناقض فادح بين نزعة انسانوية عقلانية وبين موقف حقيقي. فبالقدر الذي تدفعها فيه عقلانيتها الشكلية الى معادلات من التوازن والتعادل والتسامح والإخوة وسيادة المعرفة بدلا من سيادة الاوهام والاعراق فان نزعتها غير المعلنة المتعالية قد سمحت لها بالتقليل من شأن الاخر. هيغل نفسه لا يبدو منصفاً وهو يتحدث عن الشرق وماركس نفسه يبدو، كما يبرهن ادوارد سعيد، كمستشرق مزود بمصطلحات سلبية معروفة وبمفهومات محددة سلفاً.

Retour à la page d'accueil