هل هناك علاقة بين فني (الشعر) و(الرسم)؟
شــاكر لعــيـبـي
نـحسب أن الثقافة العربية مازالت مصرة وعنيدة في التفريق النهائي بين الأنواع الأدبية والتشكيلية، وهذا واحد من أوهامها الجوهرية القادمة من ارث أدبي، لغوي ولفظي طويل لم يسمح للبصري (الموجود على الدوام فوق السجادة والقبَّة والجرَّة والزخارف الأكثر بساطة) بالحضور الثقافي المحترم المرهوب والمرغوب فيه. يقود هذا الوهم إلى انصراف الكثرة الكثيرة إلى الشعر لوحده رغم امتلاك بعضها مواهب مُعْتـَبَـرَة في الموسيقى والرسم والغناء. وهمٌ يقود كذلك إلى النظر إلى من يمارس نوعين من العمل الإبداعي بنوع من الريبة، ثم الشك بقدراته التي تقع خارج الشعر لو كان شاعراً وخارج الرسم لو كان رساماً
بين الرسم والشعر ثمة منطقة مشتركة، مظللة، عارفة، حسية وروحانية في آن واحد. لنقل في البدء بأنـهما لغتان مختلفتا القواعد والأدوات لكنهما يشتركان بالكيفية التي يجري فيها اقتناص الجوهري. بين اللغوي والبصري، ثمة (الإشاري) الدال وثمة قضية ما هو (تـمثيلي) الذي يسعى إلى التوصل لاكتشاف العلاقات الداخلية بين الأشياء المتفارقة والمتناقضة ظاهرياً. أن التفاحة (المرسومة) ليست هي التفاحة (الحقيقية) ولكنها (تمثيل) لها، في حين أن التفاحة في الشعر إشارة (صوتية) لكينونة التفاحة لا تجسدها البتة واقعياً، وبعبارة أخرى فهي أشارة تـُمثـِّلها كذلك
علينا العودة إلى فكرة التمثيل التي يناقشها الجرجاني طويلاً representation
وفكرة التمثيل هي فكرة جوهرية في فهم العلاقة بين الرسم والشعر طالما تكلم عنها الفلاسفة المسلمون، وفي قراءة نصوصهم جلاء لهذا الأمر. نهم ينطلقون من الفكرة الأرسطوطاليسية الجوهرية في (محاكاة الطبيعة) كنقطة لقاء مشترك بين هذين الفنين. يرى الفارابي بين صناعة الشعر: "وبين أهل صناعة التزويق مناسبة، وكأنهما مختلفان في مادة الصناعة ومتفقان في صورتها وفي أفعالها وأغراضها، أو نقول أن بين الفاعلين والصورتين والغرضين تشابهاً، وذلك أن موضع هذه الصناعة التأويل، وموضع تلك الصناعة الأصباغ – وأن بين كليهما فرقاً- إلا أن فعليهما جميعاً التشبيه وغرضهما إيقاع المحاكيات في أوهام الناس وحواسهم". أما ابن سينا فيعتقد بأن في عملية المحاكاة ثمة أخطاء ممكنة من طرف الشاعر: "الشاعر يخلط من وجهين : فتارة بالذات والحقيقة إذا حاكى بما ليس له وجود ولا إمكانه، وتارة بالعرض إذا كان الذي يحاكي به موجوداً لكنه قد حرف عن هيئة وجوده، كالمصور إذا صور فرساً فجعل الرجلين وحقهما أن يكونا مؤخرين، أما يمينيين أو مقدمتين" وهو يدفع بـمقاربة الشعر بالتصوير إلى درجة اعتقاده أن تصوير الشاعر يجب أن يكون (واقعياً) كما نقول اليوم، فيقول: "غلط الشاعر محاكاته بما ليس بممكن، ومحاكاته على التعريف- وكذبه في المحاكاة- كمن يحاكي لأيـّل أنثى ويجعل لها قرناً عظيماً". ومقاربة ابن سينا عن المحاكاة ستُستعاد لدى ابن رشد، شارح أرسطو، ولكنه يضيف، من أجل تفسير العلاقة تلك، البعد السايكولوجي، أي اللذة الداخلية والبهجة المتحصلة من عملية التصوير: "الدليل على أن الإنسان يعمر بالتشبيه بالطبع ويفرح هو أنا نلتذ ونسر بمحاكاة الأشياء التي لا نلتذ بإحساسها وبخاصة إذا كانت شديدة الاستقصاء مثل ما يعرض في تصاوير كثيرة من الحيوانات التي يعملها المهرة من المصورين". ويخلص إلى هذه النتيجة: "..ولذلك لا يلتذ الإنسان بالنظر إلى صور الأشياء الموجودة أنفسها ويلتذ بمحاكاتها وتصويرها بالاصباغ والألوان. ولذلك استعمل الناس صناعة الزواقة والتصوير" ويضيف بعد قليل مستشهداً بأرسطو: "قال: والتشبيه والمحاكاة هي مدائح الأشياء التي في غاية الفضيلة. فكما أن المصور الحاذق يصوِّر الشيء بحسب ما هو عليه في الوجود حتى انهم قد يصورون الغضاب والكسالى مع أنها صفات إنسانية، كذلك يجب أن يكون الشاعر في محاكاته يصور كل شيء بحسب ما هو عليه حتى يحاكي الأخلاق وأحوال النفس". ويعيد تسمية أخطاء عملية (التمثيل) في كلا الفنين قائلاً: "والموضع الثاني من غلط الشاعر أن يحرِّف المحاكاة، وذلك مثل ما يعرض للمصور أن يزيد في الصورة عضواً ليس فيها أو يصوره في غير المكان الذي هو فيه- كمن يصوّر الرجْلين في مقدم الحيوان ذي الأربع واليدين في مؤخره.."
أما نص عبد القادر الجرجاني فانه يدفع بفكرة ما يسميه (التخييل)، وليس المحاكاة، إلى معنى جديد وهو يقرنـُها بالتصوير. هذا النص يمكن أن يعتبر تأويلاً سايكولوجياً لعملية التذوق الجمالي التشكيلي: "فالاحتفال والصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخيلات التي تهز الممدوحين وتحركهم وتفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط (أي بالخطوط lignes) والنقش، أو بالنحت والنقر، فكما تلك نعجب وتخلب، وتروق وتونق، وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لن تكن قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه، ولا يخفى شانه، فقد عَرِفـْتَ قضية الأصنام وما عليها من الافتتان بها والإعظام لها، كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور، ويشكله من البدع، ويوقعه في النفوس من المعاني التي يتوهم بها الجامد الصامت في صورة الحي الناطق، والموات الأخرس، في قضية الفصيح المعرب، والمبين المميز، والمعدوم المفقود في حكم الموجود المشاهد"
من البديهي أن لكلا الفنين قواعد داخلية وأدوات مخصوصة في النفاذ إلى (التمثيل) و(المحاكاة) و(التشبيه) و(التخييل) و(الإلتذاذ الجمالي) المطروحات كلها كنقاط لقاء أساسية بين الشعر والرسم، وهو ما يشير إليه نص الفارابي بوضوح، سوى أن العلاقة تظل على مستوى ما هو عميق من أجل اكتشاف العالم وتشييد معرفة أفضل به
لم يكن الحديث البتة يجري عن محاكاة ساذجة، كما لو نتكلم عن رسم واقعي، فوتغرافي أو نتكلم عن شعر وصفي بارد، وهو ما يشرحه مطولاً الجرجاني، بل عن محاكاة نفاذة تقع عملية (التخيل) في صلب عملها. كان الأمر يجري وكأن فلاسفة المسلمين يتحدثون عن (الواقعية) أو الكلاسيكية في الرسم ذات الإحالات والدلالات البليغة. لم يكن بالإمكان تاريخياً الحديث إلا عن مثل هذه الواقعية لوحدها. إننا نستخدم مصطلح (الواقعية) فحسب بمعنى استحالة حضور (لا واقعية) من أي نوع كانت، ونستخدمه لذلك خارج سياق استخدامه اللاحق كمدرسة فنية. كانت الواقعية العميقة هي الشرط الأساسي المعروف لأية محاكاة
لقد كانت العلاقة بين الشعر والرسم من الوضوح الشديد في أذهان أسلافنا
slaibi@perso.ch