Shakler Laibi

الثقافات المهاجرة والثقافات المقيمة

 

شـاكر لـعـيـبـي

 

أظن أن عشرين عاماً من الإغتراب الثقافي، بالنسبة للثقافة العربية المهاجرة أو بالنسبة لمثقفين عرب مقتلعين، كفيلة بزعزعة بعض البداهات المقيمة. الإقتلاع الجسدي يصير بالضرورة رديفاً لإعادة اعتبار للفكر المقيم في البلد الأوليّ. نحسب أن الإضافة الجوهرية لكاتب مغترب هي انه يعيد، بشكل لا فكاك منه، صياغته ثقافته الأصلية عبر ذاته هو نفسه أي عبر الأقانيم التي تغلغلت في وعيه الجديد المهاجر. ثمة وعي مختلف تماماً مُكتسَبٌ رويداً رويداً ينتمي إلى لغةٍ وطريقةِ تفكيرٍ لا تـمُتُّ بالكثير من الصلات إلى تقاليده الثقافية الأصلية

إن اتساع حقل الرؤية، يوسِّع درجات النقد ويوسِّع من رحابة صدر الكاتب في تقبل النقد. يصير الرجل في المنفى حليماً رغماً عنه، لكنه يظل يحتفظ بحاسة تحليلية نقدية تتساءل أكثر مما تُـجيب

ثمة صياغة ذهبية تذهب من القيم الروحية والمعايير الثقافية المسيطرة كقوانين نهائية للأدب، إلى الممارسات الأكثر خفة وبساطة، من الأبـهة إلى الزهد، ومن الطيش إلى التأمل

أول المغازي المستلهمة من الإقامة في خارج المكان الأصلي هي، في تقديرنا، الإدراك المأساوي لـمدى توطّن (الطغم) و(الشيع) والتكتلات ذات الطبيعة اللأدبية في الأدب العربي. ثم إدراك مقدار هيمنتها عبر أسماء محددة، تتراوح بين المحررين الثقافيين والشعراء الكبار المتكرسين، تقوم بدور رقيبٍ لا ضرورة له. رقيبٌ يرّوجُ، في نهاية المطاف، لرؤيته وكتابته.الرقيب المستقر في وظيفته والنافي عن حقل عمله أي ذات يمكن أن تزعزع مصداقيته أو تطمس أعلامه البراقة هو من يختفي ويذوب في بلدان المهجر

علينا التنبّه إلى الحقيقة التالية: إن الثقافة العربية العاملة خارج نطاقها الجغرافي، إنما هي ثقافة مقتلعة، لأنها كانت، غالباً، مجبرة على الهجرة. هذا الأمر يعقّد المسألة قليلاً طالما أنه لا يتعلق (بـخيار) مثقفين معينيين في التفتيش عن أفق آخر لتجربتهم الوجودية. هذه الحقيقة تضيف جديداً إلى السياق الذي يهمنا، ذلك أنها بعد بعض الوقت في منفاها تصير مجبرة على بلورة صيغ نقدية ومقاربات بين وضعها هنا ووضعها السابق هناك

أظن أن الكتابة نفسها، أن طريقة بناء الجملة (التي يُتابع بنيانها تسلسل تفكير معين) تتغير بهذا المقدار وذاك لدى الكتاب المغتربين. ومثلما أضاف أوائل روّاد النهضة في مصر ولبنان الكثير جداً من التعبيرات الجديدة على لغتنا المستلهمة من لغات الآخر، فأن المغتربين الجدد يضيفون، ربما بوعي وغالباً لا أرادياً، إلى الجملة العربية نبرة وقلقاً وتسلسلاً في البنية اللغوية غير معهودات البتة، وكان يمكن اتهام البعض ممن أقام طويلاً بعدم السيطرة على منطق العربية نفسها

لكن جديد البعض الآخر يقع في أن عملية الكتابة لم تعد تستهدي بأنماط معرفية وشكلانية مسبقة الصنع، كما هو حال الكثير من الأدباء العرب القانعين بما هو مقبولٌ وما هو سائدٌ وما يـُمكن أن يُنشر. وإنما تتسق بسياق التجربة المخصوصة وتجرؤ على الانهماك بتجريبية للأشكال وغوص في المعاني والموضوعات الـمهمَّشة في الثقافة الـمقيمة

بالنسبة لنا فأن الهامشي والمُستبعد يصير حقلاً خصباً لإقامة المعرفة والإبداع. خلافاً لنـزعات (الموضة) في ثقافتنا كأن يهجم الجميع في آن واحد على الموضوعات نفسها وفي كل المنابر: (قصيدة النثر) (الأجيال الشعرية) (الذكوري) (الشعريات) (القصة النسائية) (السرديات) (البصري) ومن قبل (شعراء المقاومة) و(شعراء الجنوب)..إلخ، فإن الإنتباه إلى موضوعات أقل خفوتاً لكن أكثر لصوقاً بالهم الآدمي العميق وبالمشكل الثقافي العويص، تغدو ممكنة في بلدان المنفى

كذلك فإننا نلتقي بالأمر التالي: ثمة شعرية أخرى تنبثق هاهنا. إن اختلاط حال الشعر العربي الحديث بين أركانٍ حداثيةٍ، نكاد نقول أركان حرب حداثية، مكرسة إلى أواخر أيامها المديدة، وبين جمهرة من ممارسي الشعر المنثور السهل جداً، لا توجد إلا مساحة ضيقة لإبداع شعري (آخر). وفي يقيننا فإن هذا الآخر موجود في العالم العربي لكنه غير مرئي وسط زحمة القطبين الموصوفين اعلاه. يمنح المنفى شعرية تتخذ، بطبعها، مسافة واسعة لكي ترى إلى حقيقة روّاد شعرنا بمنظار حبي وودي للغاية لكن نقدي بصرامة، وهي ترى إلى سقوط المحرمات كلها في الساحات الثقافية الأوربية والأمريكية، وترى من جهة أخرى إلى هشاشة النثر الشعري الذي لا يرقى البتة إلى مستوى قصيدة نثر رصينة

يسمح المنفى الثقافي إذن (للشعريات) المغايرة بالتكوُّن الحر مستلهمة خيرة المعايير في كتابة الشعر لدى كبار شعراء الأمريكيتين وأوربا، إلى جنب معايير رحمها العربي

تقدم الثقافات المهاجرة رغماً عنها إضافة أخيرة أساسية تقع في الأمر التالي: بإمكان ثلة من شعراء المنفى تقديم أنفسهم بوصفهم وجوهاً جديدة تمثل الثقافة العربية في المنتديات والمنابر والأنترنيت في مقابل الوجوه الراسخة المقدَّمة، لوحدها، على أنها الرموز الأكثر تأصُّلاً في ثقافات العرب المعاصرين. لقد اكتشفتْ الثقافات المهاجرة أن رموزنا الشعرية العربية لا تعترف إطلاقاً، أثناء مخاطبتها لمتلقيها الغربيين، بأحد سواها، وإنها تتقدم على أنها الأمثلة (النهائية) للشعر العربي. يكتشف القاريء الأوربي والأمريكي اليوم خطل هذه الفكرة وهو يقرأ نبرات شعرية تتأرجح بين الهواجس الطاغية في الشعر العربي والوساوس والاشكال الموجودة في شعره هو نفسه. طريقة التقديم représentation حاسمة في هذا السياق. ففي حين كان (الشاعر العربي المعروف) يتقدم على هيئة كائن محتفى به، شاعرٍ منتصرٍ انتزع الاعتراف بموهبته الكبيرة، فانه يبدو اليوم بعيون متلقيه الأجانب وكأن التواضع هو ما ينقصه. الشاعر المغترب يتقدم بخطى مترددة، حاملاً كلماته بارتعاش واحترام، وهو يقدِّر تقديراً عالياً تجربة أسلافه ولا ينفي أحداً

العودة الى صفحة المقالات