سهرة خارج امبراطورية الاستبداد الشعري
العربي!
نزار شقرون
2004/11/29
القدس العربي
عندما
كنت أتواصل مع نص الشاعر شاكر لعيبي ومع
مقالاته النقدية بدت لي شخصية هذا الشاعر
مميزة في خارطة الشعر العربي وأدركت أن
ترحاله الدائم من منفي الي آخر هو ترحال أيضا
في اللغة وفي رهانات شعرية حمالة للأقاصي
وبقيت علي عهدي بنصه الي أن التقيته قبل سنتين
في ندوة دولية بمدينة قابس التونسية وكانت
الندوة حول الفضاءات التواصلية في الفنون
التشكيلية، والفن التشكيلي جزء من تركيبته
الحيوية واكتشفت أن مايجمعني بشاكر ليس مجرد
رغبة في تثوير الشعر العربي أو سعي كتابي
لانجاز مشروع شعري جديد للقصيدة العربية بل
ان الانشغال العلمي بالفن التشكيلي كان
بمثابة الرئة المشتركة التي تجمعنا رغم تباعد
المسافات الجغرافية.
منذ
ذلك الوقت نشأت بيننا صلة الجدل في شأن أوضاع
التجربة الشعرية العربية وبدا من الضروري أن
يتحول الحوار الي فضاءات أوسع وأشمل،
بانفتاحه علي متلقي الشعر في تونس اذ أن شاكر
لعيبي لم يسبق له التواصل مع جمهور الشعر في
تونس وبدت نصوصه الشعرية تطل علي المثقف
التونسي دون احداث اتصال حميم بصاحبها وبقيت
فكرة هذا التواصل قائمة الي أن تحققت في
الفترة الأخيرة من خلال سهرة شعرية خاصة
بالشاعر شاكر لعيبي في مدينة صفاقس التونسية
نظمها كل من جمعية الدراسات الأدبية بصفاقس
ومهرجان المدينة بحضور جمع من المثقفين
والشعراء والكتاب ومحبي الشعر.
توليت
تقديم شاكر لعيبي مثلما يتولي حداد صهر مادته
في النار، اذ حاولت صهر تجربة الكتابة في
تجربة الحياة كما تولي شاكر القاء نماذج من
قصائده الايروسية بجرأة كبيرة أمام حضور كان
يفترض الانصات الي قصائد حماسية ومباشرة
تواجه الأوضاع الدامية في العراق، لكن الشاعر
خيب انتظارهم وخرج عن صراط الانتظار بخلق
فسحة حقيقية للتفكير في الشعري داخل الحياة
العربية. وكلما تمادي شاكر لعيبي في الالقاء
تصاعد التجاوب وانتقلت الخيبة الي رجاء في
الاستزادة من الشعر الذي لايسلم بالعرضي في
دمار حياتنا العربية بقدر مايباشر جوهر هذا
الخراب المسترسل، وقد كان النقاش الدائر بين
الشاعر ومثقفي مدينة صفاقس مؤكدا لفاعلية
الشعر في تغيير الذائقة وبعثرة طنين الحماسة
العارضة كما أكد علي أن الشاعر شاكر لعيبي
جلاب للجدل في الشعرية العربية فمواقفه
متباينة مع المشهد الشعري العربي الآسن.
لقد
كانت سهرة الشعر في صفاقس بداية جديدة لحركية
تأسيسية خاج امبرطورية الاستبداد الشعري
العربي وقد أسهمت في لفت النظر الي تجربة
شعرية عربية متميزة تطرح علي نفسها رهانات
جمالية مغايرة تثير الصخب، اذ استشعر شاكر
لعيبي حاجته الداخلية لكي تكون قصيدته اكثر
شفافية وأقرب الي روح الغناء فهو يعتبر أن
قصيدة النثر المقفاة هي نوع من تأصيل الأصول
أي العودة الي المنابع المنسية التي يمكن أن
تغني مشروع الحداثة في الشعر العربي المعاصر.
كما اعتبرها أيضا دليلا علي البساطة و
الطراوة في القصيدة وليس يسيرا علي الشاعر أن
يحقق ذلك في قصيدته.
ويبدو
مشروع لعيبي مخصوصا ومغامرا حين يستدرج
القافية الي فضاء القصيدة مع اعلانه بأن هذا
الاستدراج لايتعارض مع حداثية القصيدة
العربية التي يري بأنها قد بلغت حد الأزمة. اذ
وقع استسهال كتابة قصيدة النثر لدي أغلب مدعي
الشعر حتي أن ما يكتبه كأنه قصائد مترجمة.
ويميز لعيبي بين القافية و السجع في النثر
مؤمنا بأن اللجوء الي القافية ليس ارتدادا
الي الشعر القديم وان كانت الكتابة الشعرية
قد تعتمد الوزن اذا كان يعبر فعلا عن لحظة
صادقة وبحثا عن جوهر الشعر. فهو لايري مانعا
أن يلتزم الشاعر العربي بالوزن اذا كان هذا
الالتزام يبقيه داخل الشعر لذلك فقد جرب
لعيبي عروض الشعر، بل أصدر مجاميع شعرية
موزونة وفي ديوانه الحجر الصقيلي أدرج قصائد
نثر بقافية اضافة الي نصوص موزونة.
وقد
واجهت تصورات لعيبي بشأن قصيدة نثر مقفاة
اعتراضا كبيرا من قبل النقاد والشعراء الا
أنه يرد مثل هذا التلقي الي سنة الحياة
العربية التي لاتعترف بالجديد وترفض بشكل
راديكالي الأفكار المستحدثة. وتظهر القصيدة
العربية دائما في صيغة الكتابة المناوئة التي
لاتجد نقادا حقيقيين يدفعون بشروط حداثتها
الي أقاصي المغامرة. فالنقد الشعري العربي
بالنسبة لشاكر لعيبي، في أحسن نماذجه هو
استعادة لمنهجية أوروبية دون خلق لذلك تزدوج
صفة الشاعر بصفة الناقد حيث يلجأ الشاعر في
أحيان كثيرة الي الكتابة النقدية والنظرية
وقد يعود ذلك أيضا الي وضعية متداخلة من
الأمية، حيث يكتب دعاة الشعر اليوم بجهل كبير
للشعر، بل بالنحو العربي، اضافة الي انتفاء
القارئ العربي الذي تمركز بشكل انقراضي في
دائرة بعض الشعراء والكتاب والمقربين منهم من
الأصدقاء أما أشيع بأنهم نقاد فهم خارج حركية
السجال في الثقافة العربية التي تشكو بشكل
سرطاني من آلية اقصاء الآخر المختلف.
حين
نشر لعيبي قصائد نثر مقفاة، واجهه نقاد لم
يطلعوا علي هذه النصوص بل صدوا توجهه بمجرد
تلقيهم الخبر وهو ما يعمق حضور ثقافة
المشافهة، وتأكيد ارتهان الثقافة العربية
بالسماعي والاشاعي وهو مايجعل رد الفعل
النقدي رديفا لأي رد فعل قد يصدر عن عامة
الناس من غير المختصين أو المعنيين بالشأن
الشعري.
أصبح
الناقد يحايث آلية الاعلام العربي الذي يلمع
صورة بعض الكتاب الذين لهم قرابات وصلات مع
المؤثرين في الجهاز الاعلامي، فحظ هؤلاء من
الاهتمام مبالغ فيه ولايعود الي تميزالنص
الشعري ويشكل هذا الوضع وجها من وجوه اقصاء
الكتابة الابداعية المتحررة اضافة الي أن
المواضعات الجديدة فرضت زيفا جديدا فيكفي أن
يكون المبدع امرأة حتي يسارع الاعلام العربي
بالتهليل والتمجيد والتبجيل.
كتابة
الشاعر لعيبي اقتراب من الحسي، ففي نقده
وآرائه مواجهة جراحية للخلايا الفكرية
والشعرية العربية، فهو يشخص الوضع العربي
بجرأة ويفحص العطب المستمر عن قرب دون الهروب
من مسؤوليته التاريخية كمبدع وهو في الشعر
يكتب بالحسي وفي الحسي ولايعرف حدا للتابوات.
لقد
تمكن الشاعر شاكر لعيبي في صفاقس، من اثارة
قضايا الشعر العربي دون مواربة معلنا أن
الشاعر يقاوم في شعره ديكتاتورية النماذج
الشعرية ويستشرف آفاقا جديدة للشعر العربي
المعاصر.
شاعر
وجامعي من تونس