الاثنين29 تشرين الأول  2001

 


 

 

"الـفـــن الاســـلامـي والـمــســـيـحـيـة الـعـــربـيـة" لـشـــاكـر لـعـيـبـي

احـتـجــاج فـكـــري ضـــد الاخــــتـزال

 بـلال خـبـيـز

مخطوطة برلعام ويواصاف من القرن الثالث عشر

ينطلق شاكر لعيبي في كتابه "الفن الاسلامي والمسيحية العربية- دور المسيحيين العرب في تكوين الفن الاسلامي"من افتراض يفيد أن الدراسات الغربية للفن المشرقي عموماً والاسلامي منه في وجه مخصوص، صنفت الفنون في خانات مرتجلة وعلى قدر من الخفة جعلت التدقيق في هذه التصنيفات يودي بها برمتها. والحال فان الكاتب يفترض أن التسميات ولدت قبل مسمياتها، اذ جرى القطع، في مجال التأريخ الفني، برفض الحضارة الاسلامية لكل نوع من أنواع التشخيص والتمثيل، على النقيض من الحضارة المسيحية في الغرب والشرق التي سمحت بالتصوير وحثت عليه. إن حكماً كهذا يفترض مسبقاً قسمة لا تقبل الجدل في مجال التصانيف الفنية. فكل ما رُسم وشُخّص يعود في تصنيفه إلى المسيحيين ليتم اختصار التشكيل الفني الاسلامي في الزخارف والرسوم التجريدية التي تزين بعض أعمال الفن الاسلامي الموضوعة في المتاحف والمباني. وما يتناساه التأريخ الفني الغربي، وليس ثمة تأريخ فني شرقي حتى اليوم، وربما ما يعجز عن تصور حدوثه هو مجرد التعايش بين المسلمين وأهل الديانات الأخرى من مسيحيين ويهود وصابئة في سلام وطمأنينة لفترات طويلة من الزمن. وبشطب هذا الامكان ينتفي كل أثر فني يمكن أن يتركه مسيحيو المشرق والبلاد الاسلامية في الفن الاسلامي في شكل عام.

ليس ثمة قصور في التصور الغربي، في هذا المجال، يمكن أن نأخذه نقيصة ومثلبة. فالتأريخ، فناً وأخلاقاً وسياسة واقتصاداً وحرباً، لا ينوب فيه أحد عن أحد. وقد يكون التأريخ الفني الغربي قاصراً لكن ذلك لا يفقده ميزة أنه جد في البحث والتأويل. فالتأريخ أولاً وآخراً مهمة وطنية، وطبيعة المؤرخ أن يكون منحازاً فلا يؤرخ للشرق إلا اهل الشرق مثلما لا يؤرخ للغرب إلا أهل الغرب. يستطيع الغرب ان يتعرّف ويتلمس لكنه لن يستطيع التأريخ إذا ما اجتهد المشرقيون في قراءة تاريخهم. في هذا المعنى تقع محاولة لعيبي في إطار التأريخ المتأخر الذي لا بد من التنكب لمشاقه كي يستقيم التاريخ الفني المشرقي ويجزى بعض حقه.

يلاحظ لعيبي، وهو يقلّب المسلّمات الغربية التي حكمت تأريخ الغربيين ومحاولة تعرفهم على الفنون المشرقية، أن الإسلام لم يكن معادياً للتصوير والتمثيل على طول الخط مثلما لم تكن الكنيسة مناصرة له على طول الخط أيضاً. بل "يعتقد البعض أن المسيحية الأولى كانت دين توحيد مطلق وأنها كانت ترفض الصور، ويقول الدكتور مارتينيانو رونكاليا في موسوعته "تاريخ الكنيسة القبطية" إن الكنيسة الأولى كانت تطلب من المؤمنين الجدد النحاتين أو الرسامين أن يكفوا عن صنع الوثن، فإذا رفضوا طردوا من الجماعة المسيحية". (ص 154). والحال فإن الكنيسة شهدت في بداياتها تجاذبات وصراعات حادة حول جواز التصوير أو تحريمه حيث أن "المجمع الكنسي الذي دُعي إلى الانعقاد في القسطنطينية سنة 730 م أدان الصور في حين أن مجمعاً مضاداً انعقد في روما سنة 731 م قد اتهم بالهرطقة أولئك المعادين للصور. الامبراطور قسطنطين الخامس (740 -775) سارع هو بدوره للدعوة إلى مجمع آخر سنة 753 م في العاصمة اتبعه بإجراءات متشددة مثل تحطيم أو تغطية الصور بالكلس الأبيض، تبديد الرفات ووضع اليد على ممتلكات الأديرة ورد الاديرة إلى صفاتها كمؤسسات دنيوية. جرى إحياء تكريم الصور في مقررات مجمع نيقية سنة 787 م" (ص 153- 154).

من ناحية ثانية لم يكن الاسلام ضد التصوير دائماً، ويورد لعيبي شواهد كثيرة لذلك حيث أن التصوير الديني كان موجوداً على الكعبة نفسها حسب الكثير من المؤرخين المسلمين الجادين. يذكر الازرقي: "زوقوا سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء، وصور الشجر وصور الملائكة، فكانت فيها صورة ابراهيم خليل الرحمن: شيخ يستقسم بالأزلام وصورة عيسى بن مريم وأمه، وصورة الملائكة عليهم السلام أجمعين، فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله (ص) فأرسل الفضل بن العباس فجاء بماء زمزم ثم أمر بثوب وأمر بطمس تلك الصور،

فطمست قال: ووضع كفه على صورة عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام، وقال امحوا جميع الصور إلا ما تحت يدي فرفع يديه عن عيسى بن مريم وأمه ونظر إلى صورة ابراهيم فقال: قاتلهم الله جعلوه يستقسم بالأزلام ما لابراهيم وللأزلام؟" (ص 56- 57). المضي في ايراد الشواهد متيسر على الدوام. لكن الغاية من ذلك اثبات احدى البداهات الثابتة في كل زمان ومكان، والتي تتلخص في القول أن ليس ثمة في التاريخ ما يمكن وصفه بالنقاء والاستواء والصحة التي لا يخالطها شوائب. دائماً يجد الباحث نفسه أمام ما يجعل تنميطاته وتصنيفاته قابلة للأخذ والرد، لذلك لا يبدو الحكم المسبق على معاداة الاسلام للتصوير حكماً صائباً. مثلما لا يبدو افتراض الفن الإسلامي فناً نفذه المسلمون وحدهم صائباً كذلك، حيث شارك المسيحيون العرب في نهضة هذا الفن والسير به قدماً نحو اكتمال صورته.

ما يريد لعيبي أن يثبته في هذا المجال ليس بالمتيسر والسهل. نستطيع إثبات البداهة، لكن دعم البداهة بالقرائن والحجج ليست مهمة سهلة. على كل حال لا يمل لعيبي من الاحالة على مراجع فنية ومخطوطات تاريخية محفوظة في المتاحف الغربية. وعلى النحو نفسه فإنه يناقش، في من يناقشهم، باحثين غربيين على الأغلب الأعم، وحين يورد إشارة إلى باحث عربي ومرجع باللغة العربية فغالباً ما تدل الاشارة على ضحالة ما يستند إليه كحاله مع ثروت عكاشة الذي يرد ذكره في أكثر من موضع. غاية هذه الاشارات السريعة إثبات الملاحظة الآتية: لن ينجو بحث لعيبي من ثغر مهما بلغ جهده ذلك أن لعيبي لا يستطيع أن ينوب عن مؤسسات مفقودة في العالم العربي والإسلامي، وجل ما يطمح إليه البحث أن يثبت بعض ثغر القراءة الغربية للفن الاسلامي، ويقطع مع فكرة أن الفن الاسلامي هو فن المسلمين وأن لا عبرة لدور المسيحيين ثقافة وفناً وطرق عيش في التأثير والمساهمة في هذا الفن. وسواء كان هذا الاعتبار، الذي يخرج كل مسيحيي المشرق من دائرة التأثير في الفن الاسلامي، أيديولوجياً ومقصوداً، أم كان مجرد قصر نظر وضآلة أمكانات، فإن شطب تاريخ جماعات ثقافية ودينية هائلة الحجم والدور أمر يدعو في حد ذاته إلى الاستنكار والريبة.

الاحتمالان يملكان كل الحظوظ في الوجود، فسواء تم خلط الفن البيزنطي بالفن المسيحي السوري عن سوء نية أو عن طيب فحوى، فإن النتيجة تظل هي نفسها حيث يتعلق الامر بطمس حضارة كاملة ليتسنى للباحث أن يحسن تبويب بحثه ورد متناقضاته إلى الابواب التي اخترعها وشكلها بحسب درجة علمه. وحيث أن كل بحث وكل كتابة تتعلق أولاً بما يعرفه الباحث والكاتب وبما لا يعرفه في درجة أساسية، فإن البحث مجدداً عن غير المعروف يكتسب أهمية قصوى في جعل الرؤى الحادة أقل حدة والانحياز أحوج إلى جهد ومعرفة عميقين، فلا ينحاز المرء، مؤرخاً كان أم مؤمناً أم مناضلاً، جاهلاً ومسلماً بالقدر الذي يجعل الأمم عمياء والآخر وحشاً كاسراً. حيث أن نسبة الأعمال التصويرية في الفن الاسلامي إلى الفن البيزنطي، والخلط بين الفن الساساني والفن العربي بسبب الاعتقاد أن العرب لا يأتون بمثل ما يأتي به الساسانيون، يكاد يشبه في نتائجه وما يؤول إليه التحزب الاصولي الذي يلغي من تفكيره كل ما لا يقع تحت دائرة مداركه الضحلة على الدوام.

يحاجج لعيبي ضد هذه النظرة الاختزالية، وحين يناقش بعض أصول الايقونات والمنمنمات المحفوظة في المتاحف لا يجد بداً من التحجج بالحجة الأتية: إن معرفة الرسام أو الناقش والناحت لأحوال العرب ومعاشهم، أزياء ووجوهاً وموقعاً في الصورة، تثبت يقيناً أن الفنان عربي الأصول والثقافة. ولا تصح نسبة عمله إلى فن يجهل فنانوه مثل هذه التفاصيل المهمة. على هذا يبدو لعيبي كأنه يعيب على التصنيفات الفنية الغربية جهلها المطبق بالآخر الذي تؤرخ فنه، فتنسب إليه كل ما لم يدخل في إطار تصانيفها الفنية فقط، حيث يحدد الجهل، والحال هذه، حدود التأريخ. والأرجح ان تأريخاً يُبنى على الجهل، لا على الانحياز، لا يحسن بنا الاعتماد عليه لقراءة الحاضر واستشراف المستقبل في أي زمان أو مكان.