عرض: يحى سويلم


صدر هذا الكتاب التذكاري بمناسبة إقامة معرض استعادي لأعمال الفنان ضياء العزاوي (30 أكتوبر 2001 - 13 يناير 2002) كثمرة للتعاون بين معهد العالم العربي والمتحف العربي للفن المعاصر بالدوحة - قطر إضافة إلى مختارات من مجموعة كندة للفن العربي المعاصر (الرياض) ومن أفراد ومؤسسات ومن مجموعة الفنان نفسه وابنته. وقد مثلت أعمال الفنان العزاوي مراحل فنية امتدت على مدى أربعة عقود ومنفذة بتقنيات مختلفة, ألوان زيتية وإكريلك وأحبار وجواش وألوان مائية على ورق, بخلاف وسائل طباعية فنية يدوية مختلفة - ليثوغراف والطباعة بواسطة الشاشة الحريرية (سلك سكرين) والحفر على المعدن وأحيانا نلاحظ إضافة باليد للون مائي في العمل الطباعي لإضفاء قدر أعلى من التناسق والانسجام. والكتاب الذي نحن بصدده صادر باللغة الفرنسية, يستهل بتقديم لمدير قسم المتحف والمعارض بالمعهد إبراهيم العلوي, ثم مقالة للناقد الفرنسي (آلان جوفروا) تتلوها دراسة معمقة عن الفنان ومسيرته والأعمال المعروضة (مونوغرافيا) للفنان التشكيلي والشاعر شاكر لعيبي وهو ما يعنينا في هذا العرض.
يعد الفنان العراقي ضياء العزاوي (بغداد 1939) من أبرز فناني العرب المعاصرين وهو يعيش في منفاه الاختياري منذ أكثر من ثلاثين عاما مستقراً في ضاحية قريبة من لندن, حيث أقام هناك محترفه الذي يعمل فيه.
جمهور كبير من محبي الفنون الجميلة في الكويت بشكل خاص يعرفون ذلك الفنان الذي دخلت لوحاته بيوتهم. فمنذ انطلاقته الفنية احتضنت الكويت عدة معارض فردية له في جاليري سلطان (1969 - 71 - 74 - 77) وفي عام 1983 استضافت الكويت معرضا كبيرا له بدعوة من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, حيث عرضت لوحة صبرا وشاتيلا لأول مرة وظلت عدة سنوات بمتحف الكويت الوطني على أمل أن يتمكن من إهدائها لمتحف فلسطين يوما ما.
انطلاقة الستينيات وتجريبية السبعينيات
تميزت أعمال العزاوي في عقد الستينيات بخصائص ما عرف بمدرسة بغداد, التي أسس لها رائد الفن الحديث في العراق جواد سليم الذي كان دائم البحث عن علاقة تربط بين روحية استلهام الإرث الحضاري وطبيعة وأشكال العصر الحديث, من خلال رسوم ومفردات المواضيع الشعبية وحياة الريف والصحراء والوحدات الزخرفية الإسلامية, إضافة لاستلهام تعدد أشكال الحرف العربي بممارسة أساسها التجريد.
في أعمال العزاوي خلال الستينيات نكتشف بقايا المدرسة البغدادية, ولكنها مصبوغة بأسلوبه التشخيصي في المقام الأول المرتبط بدراسته الأولى في كلية الآداب, وعمله في المتحف الوطني العراقي إلى جانب موتيفات لها علاقة بفن السجاد المحلي, ويمثل جزءا كبيرا من أعمال تلك المرحلة جرافيك (أساسها التخطيط بالأحبار) وبعضها لوّن بالألوان الجواش (ألوان مائية غير معتمة شفافة), وقد اتجه إلى الألوان الزيتية وخاصة في فترة السبعينيات حيث بدأ اهتمامه بالفراغ في لوحته ليؤكد على الكتلة ويحقق التوازن التشكيلي.
وفي عقد السبعينيات نجد أعمال العزاوي مهمومة بعمق, الأمر الذي يدل على حيوية الفنان وانتباهاته للأفكار والتقنيات الأوربية ثم إلى الأساليب المدروسة في الخارج والمنقولة إلى داخل الوطن العربي.
ويستحضر شاكر لعيبي عناصر تجريبية العزاوي السبعينية في ما يلي:
- استخدام اللون الواحد (مونوكروم) ودرجاته.
- إبراز التشخيصية الأثيرة على قلبه وتأكيدها بإلحاح في أعماله.
- الإفراط بتقسيم فضاء اللوحة.
- عدم الاستقرار على (باليته) ثابتة واستخدام الألوان كلها تقريبا.
- التركيز على الوجه المشوه والعيون الواسعة والأفواه التي تطلق صرخة.
- التقسيم المحدد وشبه النهائي لمساحة اللوحة وغالبا إلى قسمين بلونين مختلفين.
- الوفرة في استخدام الخط العربي.
- بروز (المربع) الهندسي وهو إحدى قواعد لوحة العزاوي.
- استخدام خلفيات سوداء في كثير من الأعمال لتظهر بهجة الموتيفات الملونة.
فالعزاوي يتأرجح بين العناصر الهندسية الحادة مثل المربع والخطوط المستقيمة والعناصر الهندسية الدائرية المتحركة وأيضا يتأرجح, على مستوى آخر, بين التجريد والتشخيص.
وهذا التأرجح هو فعل خلاق آخر في مسيرة العزاوي الذي عوّد مشاهده على خلاصة مقنعة في نهاية المطاف, ومن الإنصاف القول إن العزاوي لم ينجر, في عمله المرسوم, وراء أي هوى أيديولوجي, فإنجازه ذو طابع تشكيلي وليس استعارة (أدبية) عاملة ومطبقة في الحقل البصري.

الثمانينيات واحتفالية الألوان الصريحة
منذ نهاية السبعينيات يصل العزاوي إلى بهجة لونية منطلقة على سجيتها في صراحة واحتفالية تظهر على لوحاته, كما تظهر عليها أيضاً لعبة مزدوجة بين (الخط) و(الكتابة).. فهي تستهدي بفن الخط العربي المتأسس في آن واحد, على الرصانة والصلابة والانسيابية, وتستهدي بالكتابة اليدوية التي تفضح طبيعتها الداخلية شخصية الفنان وتوتره في لحظة إنجاز العمل.
كما أن العزاوي يبدأ بهجر ميله التشخيصي ومدرسة بغداد بمفرداتها وعناصرها الشعبية.
في متابعة لتطور الأشكال والعناصر الهندسية في لوحات العزاوي يظهر المثلث مبثوثا هنا وهناك كعنصر زخرفي مبتهج أو إشارة سهم ولكن دون أن يكون خياره المفضل كما هو الحال مع المربع وحضوره كمبدأ إيقوني يقوم بأداء بضع وظائف تشكيلية, فهو الرابط للعناصر التي يرغب الفنان توجيه وتركيز بصر المشاهد إليها, وهذا ما نلاحظه في لوحات كثيرة, كما أنه يقوم بأداء دور (النافذة) وهو الدور الأساسي الذي يلعبه مربع العزاوي متمثلا في (التنافذ) بين داخل وخارج وجهات مُختارة من مشاهد العالم الخارجي (أو مَشَاهد العالم الداخلي للفنان).
وقد شهدت فترة الثمانينيات بل والتسعينيات أيضاً عودة للموتيفات التشخيصية (التي سبق استخدامها في وقت متقدم) محاورة ذاك الفضاء التجريدي ومعانقته والبقاء كشواهد تاريخية ثابتة في عمل الفنان, خاصة أنه كلما تعلق الأمر بتقديم أعمال أدبية وتاريخية فإنه لا يقاوم رغبته في تقديم أعمال تشخيصية, من دون أن يكون مجرد منفذ رسومات توضيحية لتلك الأعمال الأدبية.
(حروفية العزاوي)
إذا كان الحروفيون يستندون, بشكل عام إلى جمالية مسبقة الصنع يقدمها لهم الحرف العربي, نجد العزاوي يهتم بالحرف كقيمة وشكل من الأشكال التشكيلية الممكنة على شكل الإنسان أو الطبيعة الصامتة.
أما الحرف في لوحات الكولاج فيتخلص من علاقاته باللغة وحقل الكتابة ويغدو صورة بمعنى من المعاني يمتلك فيها هيئة فيزيقية, بجسد قائم لوحده في الفضاء وتخرج من مجال الرسم ثنائي الأبعاد وتتلامس مع نحت بارز ثنائي الأبعاد كذلك, إنه يريد التخلص من رتابة السطح المرسوم بطبقة موحدة فيمنح الحرف ملمس مادة بارزة تعطيه خروجاً من فضاء العمل ليكون عملاً نحتياً.
إننا أمام كولاجات جريئة تغامرفي بروزها ونتوئها حتى الصعود والتعالي على سطح اللوحة, وتغدو كائنات حسية منفصلة تعيش تقريبا, حياتها الخاصة في فضاء ثنائي الأبعاد. مع العلم بأن (الحروف) ككتلة ذات أبعاد ثلاثة هي تجربة صعبة التحقيق, رغم أننا نجد أن الفـــنان قد أخــرج عمله (وردة الصحراء 2001) كنحت ثلاثي الأبعاد يمكن رؤيته من الأمام ومن الخلف, وهو ما يبشر بنقلة جديدة في تاريخ الفنان.
قيم أخرى نتذكرها, إن الأعمال الكبيرة الحجم للعزاوي تشكل جاذبية وبهجة كبيرة للمشاهد سواء أكانت لوحة على الجدار أو نحتاً بارزاً رغم بعدها عن تقاليد فن النحت.
فنون من مناهل الأدب
من المهام التي اختارها العزاوي المولع بالشعر العربي وهو جهد استثنائي في الحركة التشكيلية العربية بأن يكون مفسراً تشكيلياً للنص الأدبي من دون أن يتخلى للحظة عن لغته التشكيلية وخياراته الفنية ومن دون أن يكون مجرد رسام أشكال توضيحية.
ويؤكد آلان جوفروا الناقد الفرنسي في مقدمته على أنه (يجب النظر إلى كل الكتب التي صورها العزاوي وأنجزها مع الشعراء بالفهم نفسه الذي نرى به لوحاته), ومن الأعمال الدراماتيكية التي أعلن فيها صرخته وأثرت في الضمير الثقافي العربي, مخيم تل الزعتر (النشيد الجسدي) وكانت استلهاما لقصائد ثلة من الشعراء العرب بلغتهم الأم أو بالفرنسية مثل (الطاهر بن جلون), وهي أعمال تشخيصية صريحة وحرة لا تراعي الضوابط الواقعية, وتعيد تركيب العناصر الآدمية والحيوانية وتختفي فيها الإشارات الزخرفية تماما.
إنجازات كبيرة لضياء العزاوي في تجربته التشكيلية ـ الأدبية نذكر منها أعماله من استلهام شعر أبي الطيب المتنبي المنفذة سنة 1977.
وما أنجزه سنة 1982 (تحية إلى بغداد) و(ألف ليلة وليلة) عام 1986 أعمال طباعية منفذة بتقنيات طباعية مختلفة.
لا شك في أن الكتاب جاء في عرض وإخراج جميل ليغطي نقصا واضحا في مكتبتنا الأجنبية والتعريف بفناني عالمنا العربي الجادين, وحبذا لو أضيف له هامش باللغة العربية أو الإنجليزية لتكتمل الفائدة.
وحبذا أيضا لو قام معهد العالم العربي بباريس بتكرار التجربة مع فنانين عرب آخرين.


مجلة العربي - وزارة الإعلام - دولة الكويت