شخصيتنا في العمارة.. عولمة نواجه أم أمركة؟

 

رهيف فياض

 

 

نشير، قبل الكلام عن العمران وعن العمارة في لبنان، إلى أن العمارة،هي متانة، وانتفاع، وجمالٌ، وهذا القولُ (لفيتروف)، يعود إلى العقد الثاني قبل الميلاد. أو أنها وليدة الحاجات والتقنيات، كما يقول (رفعة الجادرجي). أو أنها ناتجُ السيطرة المطلقة للتكنولوجيا المتقدمة، على طرق البناء، كما يقول (برنارتشومي)، وعلى المعماريين، كي يحافظوا على موقعهم المهني، أن يسيطروا على طرق بناء التكنولوجيات، يتابع (تشومي).

معظم المفاهيم إذاً، ترى في عمارة اليوم، ناتجا اجتماعيا، تصنعه الحاجات، والتقنيات، والمواد. فالعمران والعمارة، ليسا فنا. والعمارة تحديدا، ليست فنا فقط، وإن لامست الفن لاختزانها قيمة جمالية، أو أثارت فينا المشاعر كما يقول (لوكويوزبيه)، أو كانت <<فنَّ المكان>> كما يراها (كريستيان نوربرغ شولوتز)، أو لامست الموسيقى بتجانسها، وبالإيقاع العذب فيها.

العمارة ليست فنا فقط. وهي، في مواجهة العولمة، جزءٌ من مواجهةِ الاجتماع اللبناني بكامله، لها. والمواجهة هذه، هي في مضمونها، مواجهة قديمة، استمرت طيلة عالميَّات القرن العشرين، وإن اتسمت عولمة اليوم، بالكثير من الخصوصيات.

لمحة تاريخية

لقد فرض الانتداب الكولونيالي الفرنسي علينا، والانتداب للتذكير هو عالمي، فرض الانتدابُ علينا، في بداية القرن العشرين بالعنف العسكري، تنظيما مدينيا منقولا، يفترضُ باسم الحداثة، هدْمَ النسيج المديني التقليدي القائم، والبناء فوق الركام. كان العثمانيون قد سبقوه في الهدم، ليعاقبوننا. فأكمل بدوره، واعتمد سياسة الطاولة الفارغة، أو أفضل من ذلك، سياسة الأرض المحروقة. والامثلة ظاهرة في بيروت وفي أماكن أخرى. لم يكن لنا رأي في ذلك، إذ أتوا بمهندسيهم، وبمنظمي المدن عندهم. جاء الأخوَان (دانجيه) في الثلاثينيات، وتبعهم (إيكوشار) بمهمة عسكرية، بداية.

كان للانتداب، الاحتلالُ، والسلطة، والمالُ، فغيَّب الاعتراضات على تنظيمه لمدننا.

* أما في العمارة فاستطعنا أن نواجه. لأن عمارة الطرز الدولي لم تكن قد سيطرت على العالم، بعد. فحافظ بعض معماريينا، على ملامح من شخصيتنا في عمارتهم.

أنتج بعضهم عمارة فيها خصائص محلية، فعرفت باسم <<العمارة الكولونيالية المستعربة>>، إذ ظهرت فيها سمات، لهوية عربية في العمارة.

وأنتج بعضهم الآخر عمارة مهجَّنة، عُرفت <<بالعمارة المشرقية>>. والتهجين فيها، هو تلقيحُ هيكل البناء السكني، المصنوع من الخرسانة المسلحة، بروح البيت البورجوازي، ذي اللغة المعمارية المركبة، (العثمانية، العربية، الإيطالية) والذي انتشر عندنا، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، وعُرف تجاوزا <<بالبيت اللبناني>>. تراكمت المساكن طبقات تستلهم نموذج مسَّطح <<البيت اللبناني>> كما عرَّفناه، وتستلهم نموذج واجهته. وتكررَّت إيحاءات الأقواس الثلاثة في وسط الواجهة، بصياغة جديدة. فبدا التهجين ناجحا. وبقيت شخصيتنا واضحة، رغم الأعمدة والتيجان، والزخارف الكثيرة، التي نُقِلت عن العمارة الكلاسيكية في الغرب.

كانت اللغة المعمارية هجينة، إلا أنها رفضت، النقل والخضوع، معا.

وفي الزمن الأمبريالي في القرن العشرين، وهو زمن عالمي أيضا، أي في العقود التي تلت الاستقلال، عمَّت بيروت وسائر المدن، عمارة <<الطرز الدولي>>. وكانت ممارسة معظم المعماريين اللبنانيين نقلا بدائيا ملوِّثا. أما ممارسة البعض منهم، فكانت اقتباسات متفاوتة النجاح، في إنتاج عمارة ملائمة، لواقعنا الجغرافي، والاجتماعي، والثقافي. وإذا غابت شخصيتنا في العمارة، عن أعمال معظم المعماريين الذين نقلوا ببلادة عمارة <<الطرز الدولي>>، فإن حضورها في أعمال الآخرين، قد تفاوت بتفاوت نجاحهم في الاقتباس.

لن أتناول أعمال النقل. أما المعماريون الذين اقتبسوا، بنجاح متفاوت، فقد تعددت مصادر اقتباسهم.

* ويأتي المعماري أنطون تابت في مقدَّمة الذين اقتبسوا بنجاح، وأنتجوا عمارة أليفة أحببناها، وشعرنا بها وقد تكاملت مع المكان، فاحتضنت روحه. لقد تتلمذ أنطون تابت على المعماري الفرنسي الفذ (أوغست بيريه)، فأحسن استعمال الهيكل الإنشائي الخرساني الظاهر في الواجهات، ينظم بإيقاع المجال المبني. كما أحسن استعمال الحجر الخرساني، يوحي تكراره بين الأعمدة، بقياسات المبنى، وبحسِّ المقياس فيه. كما أحسن أيضا استعمال الأحجار الخرسانية المفرَّغة، (كلوسترا)، فأعطى بذلك إيحاءات محلية واضحة.

ومن الاقتباسات الناجحة، تلك التي استظلت (الباوهاوس) بتعاليمه عن الأحجام المتناغمة، وعن اللاتماثل الضروري والمتوازن، الذي عليه أن يحكم مجمل الكتابة المعماريَّة.

* ومن أبرز الذين ساروا في هذا الطريق، المعماري جورج ريس، والمعماريَّان شارل شاير وواثق أديب. استظلَّ هؤلاء المعماريون الحداثة، فأنتجوا عمارة، بدت فيها بخفر شديد، بعض ملامح الشخصية المحليَّة، عبر ملاءمتها للظروف المناخية العامة، (الشرفات الناتئة المظلَلة، وكاسراتُ الشمس)، وللتزاوج الناجح نسبيا، بين الحداثة المقتبسة، والأساليب التقليدية في التنفيذ.

* ومن أبرز الذين أحسنوا الاقتباس من عمارة الحداثة، مع مراعاة الظروف المناخية وطرق التنفيذ التقليدية، المهندس جوزيف فيليب كرم. ربما ساعده في ذلك اقتباسه من العمارة المتأقلمة مع محيطها، والآتية من بعيد، مع أعمال (أوسكار نيميير)، و(خوسي لويس سرت).

* وتبقى محاولات إبراز الشخصية المحليَّة في العمارة، في ظل الاقتباس من عمارة الحداثة، عبر محاولة جدية لاحتضان روح المكان، (بمناخه، وبنماذج بيوته، وبتقاليد ناسه، وبطرق حياتهم)، تبقى هذه المحاولات أكثر وضوحا، في بعض أعمال المعماريين عاصم سلام، وجاك ليجيه بلير، الأخيرة.

قنوات التأثير

كانت قنوات التأثير في أعمال معماريينا إذاً متعددة. فجاءَت الاتجاهات الاقتباسية بمعظمها،

* انتقائية، ساعد في ذلك، التكوين الأكاديمي المتعدِّد للمعماريين اللبنانيين، والذي يلامس الفوضى، (في بيروت المتعدِّدة، ودمشق، والقاهرة، وبغداد، والجزائر، ولندن، وباريس، وروما، وبروكسيل، ومدريد، وموسكو، ووارسو، وبراغ، وصوفيا، وبوخارست، وبودابست...، وفي جامعات أميركية متعددة).

وبيئتنا الثقافية المتنوعة، والتي يراد لها أحيانا، أن تكون تعدداً، ينفي الانصهار الطبيعي، في ثقافة وطنيَّة جامعة.

* وتجريبية، دون رابط نظري، ودون ممارسة منهجية.

* وفردية، انحصرت في عمل معماري فرد، ولم تخلق جماعة فكرية، متماسكة، فاعلة، في العمارة، وفي الثقافة.

لقد ساهم هاجس المكان، عند بعض المعماريين، في صنع عمارة فيها نوع من التكامل الخجول، مع محيطها. إلا أن المكان، عند هؤلاء، بقي محصوراً في البيئة الجغرافية، وكأنها غير آهلة. فأهملوا البيئة الإنسانية، في طريقة عيشها. أهملوها في مكوناتها الروحية والانتمائية. فجاءت معظم أعمالهم:

* هامشية، بقيت خارج ثقافة الجماعة، لم تدخل ضمير الناس، ولم تصل إلى أعماق وجدانهم، فتساهم بالتالي في صنع تحولات هادئة في النسيج المديني، تكمل المشهد العمراني في الزمن، دون انقطاع فجٍّ عنيف. بل ساهمت رغم نجاحها النسبي، باقتلاع المحيط العمراني القائم بسرعة مذهلة، لتحلَّ مكانه، عمارة الطرز الدولي الملوِّثة.

* جاءت معظم أعمال معماريينا، في معظم اتجاهاتها، نقلا أو أقتباسا، دون أية قيمة رمزية، غريبة، مغرِّبة.

العولمة...؟ في عالم متعدِّد الأقطاب

نعود إلى <<العولمة المعاصرة>>، بعد هذا التوقف الضروري عند مواجهتنا للزمنين الاستعماريين العالميين، الكولونيالي، والأمبريالي. نعود إلى <<الكوكبة>>، لنرى فيها دلالة على بداية النهاية في الحرب الباردة، بانتصار <<الرأسمالية الما بعد الصناعية>>.

وفي هذا يكمن الفرق الأساس، بين <<العولمة الكوكبة>>، وكل المنظومات العالمية، أو الكونية التي سبقتها.

* ففي بداية الثمانينات من القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة الأميركية مكتفية، بتقدِّمها على شركائها في نادي الدول السبع. فظهر العالم رأسماليا، متعدِّد الأقطاب. وتمثلت أدوات العولمة الرئيسة، بالشركات المتعددة الجنسية، وبالاستثمارات المالية الكبرى، وبالثورة الالكترونية والاقتصاد الالكتروني، وبثورة الاتصالات والمعلوماتية وما أتاحته من سيطرة على الإنتاج، وخاصة الإنتاج عن بعد، وبالسيطرة على الإعلام المرئي والسيطرة على الإعلان، وبالسيطرة عن طريق كل ذلك، على أنماط الاستهلاك، وعلى الفكر، والأذواق، والسلوك، وعلى كل القيم.

وبإنشاء سوق عالمية واحدة، والسيطرة عليها بأداتها الرئيسة، منظمة التجارة العالمية.

* ففي السوق الواحدة، والإعلام الواحد، والإعلان الواحد، والاتصالات الفورية في كل المجالات، وفي الإنتاج الإلكتروني، يَسقط التاريخ (يقولون)، وتسقط معه الجغرافيا أيضا. فلا مكانٌ منعزلٌ في العالم، ولا وطنٌ مستقل بالفعل، ولا حدودٌ محميَّة، ولا ثقافة محصَّنة. <<تتعولم>> الأمكنة، <<تتكوكب>>، كما يراها (اسماعيل صبري عبد الله)، وتزول الفروقات بين الداخل والخارج، وتتشكل أنواعٌ من <<الطوائف الجديدة >>، إذا صحَّ التعبير، هويتها السوق، ووطنها حيث تصل منتجاتها الأثيريَّة. فتتراجع الجغرافيا السياسية، من علاقات بين الدول، لصالح علاقات جديدة تقومُ على استباحة الحدود الوطنية. فتتشكل بفعل كل ذلك، هويّاتٌ ثقافية مرنة، متعدِّدة الانتماءات، (يقولون أيضا ). شأنها، هو شأن الشركات المتعدِّدة الجنسية، وشأن رأس المال المالي، اللذين لا وطن لهما.

إلا أن صيغة العولمة المتعدِّدة الأقطاب لم تُعَمر طويلا. فمع بداية التسعينيات من القرن العشرين، قرَّرت الولايات المتحدة أن تهيمن على العالم بمفردها فتحتله عسكريا، ثم تعيد تركيبه، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. هذا ما تحدَّثت عنه وثائق كثيرة، وهذا ما أعلنه قادتها، وهذا ما فعلوه.

سيحارب الأميركيون في كل بقاع العالم. سينتصرون، ثم يعيدون تركيب البلدان المهزومة، بما يخدم مصالحهم الاستراتيجية. في البلقان، وفي أوروبا الوسطى والشرقية. في أفغانستان، وفي آسيا الوسطى. وأخيرا، وليس آخرا، في العراق، وفي الخليج العربي.

أن تقبل الولايات المتحدة الأميركية بشركاء، فهذا تنازل منها غير مبرَّر، رأت، عند احتسابها لعناصر قوتها. فهي، بمعايير اليوم، القوة <<الأعظم>> الوحيدة. فعدد سكانها هو الأكثر، بين الأغنياء، واقتصادها هو الأقوى، وحصتها في المؤسسات المالية الدولية، هي الأكبر، وقوتها العسكرية، بتنوعها وبانتشارها، لم تعرف البشرية مثيلا لها، وإنفاقها السنوي في المجال العسكري، يوازي إنفاق دول العالم مجتمعة.

وما غياب الشخصية الوطنية، في الثقافة، في الفنون، في العمران وفي العمارة، في ظل الهيمنة الأميركية، سوى دلالة على التأثير المدمِّر لهذه الهيمنة، في كل مكونات حياتنا. إنها تعميم نمط الحياة الأميركية بكل الوسائل.

يبدأ هذا التعميم، بقلب كل القيم، وكل المفاهيم، وكل المقاييس. وباستبدالها بما هو آت من الولايات المتحدة، بكل الوسائل. ومن هذه القيم الوافدة، موقع الجسد، في اهتمامات الناس وفي اهتمامات الشباب خاصة، وموقع اللياقة البدنية، والرشاقة، و>>اللوك>>، ومعايير الفتنة، والموقف من السيارة كوسيلة للظهور الاجتماعي، والتركيز على الكماليات، كالعطور، ومستحضرات التجميل، وأدوات <<نحت>> الجسد، ومساحيق التنحيف... إلخ

ينجم عن كل ذلك، تعميم أنماط استهلاكية، وافتعال حاجات وهمية، ودفع الناس إلى استهلاك نهم، لما تتطلَّبه الحاجات الوهمية هذه (الهاتف الخلوي، مأكولات الريجيم، أكسسوارات الزينة، الألبسة العسكرية المرقطة،...). وإفراغ الإنتاج البشري ومعه الإنتاج الوطني، من أية قيمة، وتحويله إلى سلع، في المأكل، والملبس، والموسيقى، والسينما، والتلفزيون، في العمارة والمدينة... ! في كل شيء.

ويصبح الأغنياء، هدفَ كلِّ اهتمام. إذ تتوافر لديهم القدرة على الشراء، ويُهملُ الآخرون. فيسود بين الناس قانون الاصطفاء، <<المسمَّى طبيعيا>>، وكأن المجتمعات غابات، البقاء فيها للأقوى، والقوة هنا، هي حصرا، القدرة على الشراء. فتزداد الفروقات الاجتماعية، ويسود سوء توزيع الثروة الوطنية، وتبرز فروقات فاقعة في مستوى الحياة، بما يساعد على استفحال الرشوة، وعلى فساد الدولة وإضعافها، وتحوُّلها إلى مجرَّد دركي، لحماية المصالح الخاصة.

ولتثبيت هذا الانحدار الاجتماعي، تُمعن الثقافة الأميركية الرائجة، في التركيز على وهم <<فردية>> الفرد، لتلغي مفهوم الجماعة. كما تبالغ <<بالخيار الشخصي>>، باسم الديموقراطية والحرية، منعا لأي اختيار جماعي، يعزز مفهوم التعاضد الاجتماعي. وتركز على مفهوم <<الإنسان المستقل>>، المنتمي إلى <<الإنسانية>> فقط، بما يساعد على طمس الفروقات العرقية والاجتماعية الموجودة والظالمة، ويساهم في حجب الصراعات التي يعجُّ بها المجتمع. إن إغراق مجتمعنا بكل هذه الآفات، يعمِّق الشعور بالهزيمة لدى الشباب خاصة، ويقتل فيهم روح الصمود والمقاومة، ويدفعهم إلى الاستسلام أمام الغطرسة الإسرائيلية، والهيمنة الأميركية المطلقة.

في مواجهة الأمركة

ثمة استنتاجات عدَّة، نستخلصها من البحث في مسألة شخصيتنا الثقافية، مسألة شخصيتنا، في الفنون، في العمران وفي العمارة، بمواجهة الهجمة الأميركية الشاملة.

أولها، لقد أعادت الولايات المتحدة الأميركية، الكرة الأرضية إلى الزمن الكولونيالي،لتسيطر عليها بمفردها.

ثانيها، يبدو جليا من الاستنتاج الأول، أن <<العولمة التعدِّدية>>، مفهوما وأدوات، قد سقطت، لصالح <<الأمركة>> مفهوما وأدوات، أيضا.

<<فالعولمة>> في المفهوم، هي الهيمنة الخادعة، أدواتها لينة، تكاد تكون غير مرئية، وإن اعتمدت ثقافة الصورة.

أما <<الأمركة>> فهي الانصياعُ الواضح، والخضوعُ المطلقُ، للزمن الكولونيالي الجديد، وأدواتُها عسكرية دموية، دون لبس أو تعمية.

ثالثها، لا تكتفي <<الأمركة>>، بما كانت <<العولمة>> قد اقترحته، من هيمنة على الوطن، ومن اجتياز حدوده عنوة، ومن اختراق ثقافة الجماعة فيه، مع إيهامها بالمشاركة في ثقافة عالمية تختصرُ ما يسمَّى، القيمَ الجديدة. بل تصِرُّ، على إزاحة كل أشكال الوجود الوطني السابق لسيطرتها، وعلى استبداله بوجودها في كل الميادين، في الموقع العالمي، والاستقلال الوطني، والهوية الحضارية، والخصوصية التاريخية، وصيغ اجتماع الناس.

رابعها، <<الأمركة>> إذاً، هي <<الكولونيالية>> أكرِّر. إنها تجريدُنا من استقلالنا الوطني.

والمسألة الملحة اليوم عندنا، كما عند غيرنا، هي المسألة الوطنية. إذ كي يكون لإنساننا كل الحقوق التي تعطيها له إنسانيته، علينا أن نعيش في وطن حر، يكون لنا بدون شروط. فالوطن السيد، الحر، المستقل، هو المجال الوحيد، المتاح، للعمل على تغيير ظروف حياتنا، بتغيير النظام السياسي الذي يحكمنا.

والأمبراطور الأعظم، لن يزيل من فوق صدورنا، دكتاتورا، طاغيا مستبدا، ليحرِّرنا. بل ليعيد تكبيلنا بطغيان أشد استبدادا. فالحرية لا تهدى، الحرية تنتزع.

ننتزع مجددا استقلالنا الوطني، فنحمي شخصيتنا الوطنية ومعها شخصيتنا الثقافية. وشخصيتنا الفنيَّة، شخصيتنا في العمران وفي العمارة، هي جزء مكون من شخصيتنا الثقافية هذه.

خامسها، سترتفع الأصوات ربما، معترضة على مفهوم <<حماية الخصوصية الوطنية والقومية>>، في الثقافة، في الفنون، وفي العمارة. سترتفع الأصوات المعترضة، متلطية بالتعددية، وبالانفتاح، وبالتفاعل المعرفي الحر.

مهلا أقول للمعترضين، لا رغبة بتقنين التعددية، أو بتقييد التفاعل الثقافي الحر. فالخطر على التعددية، إنما يكمن في <<الأمركة>>، بما تفرضه من ثقافة سطحية تتسلطُ، تُبهر، فتُهيمن. والحفاظ على الشخصية الوطنية في الثقافة، في الفنون، في العمران وفي العمارة، هو جوهر التعددية الحقيقية، المتفاعلة، المبدعة، من موقع الندية والمساواة، لا من موقع، الخضوع، والذيلية، والتبعية.

وهل نكون تعدَّديين، أسأل المعترضين، إذ تكلمنا جميعا الاميركية!؟ ألا ترون زحف اللغة الأميركية؟ وهي تزيح كل اللغات، وفي مقدمتها الفرنسية، والألمانية، وبالتأكيد، العربية أيضا !؟ أين يصبح الشعر...؟ أين يصبح الأدب...؟ أين تصبح كل فنون الكتابة...؟ إذا سيطرت الأميركية وحدها، عند كل الذين يكتبون !؟

ثم أسأل المعترضين مرة أخرى؟ ما هي فائدة هذه الدزينة من الجامعات والمعاهد في لبنان، تُعنى كلها بتعليّم العمران والعمارة، إذا سيطر فيها التعليم الواحد؟ والمعرفة الواحدة؟ والنقل البدائي البليدُ الواحد؟ عن العمارة السائدة في عالم اليوم؟ تفرضها، الأمركة الكولونيالية!؟

وما هي مكونات التعدُّدية في العالم!؟ إذا لم تكن تعدُّد الثقافات الحرة فيه!؟ وتفاعلها!؟ فتتكوَّن الثقافة <<المسمَّاة عالمية>>، من هذا التفاعل، بعيدا عن الاحادية والسيطرة.

سادسها، ثم يقول المعترضون ربَّما، ان الحرص على <<الشخصية الوطنية>>، في الثقافة، في الفنون، في العمران وفي العمارة، سوف يؤدي إلى الانغلاق وإلى التقوقع.

مهلا، أقول للمعترضين مرة أخرى، قد تنشأ بفعل الظروف السائدة، وفيها القتل، والهيمنة، والغطرسة، والاستكبار، بؤرة للانغلاق عند هذه <<العصبة>>، أو بؤرة أخرى للتقوقع، عند تلك <<الجماعة>>، أو بؤرة ثالثة للتعصُّب والظلامية، عند هؤلاء، إلا أنني أصرُّ متسائلا؟ هل نخاف فعلا من انغلاق معَّمم!؟ ومن تقوقع شامل!؟ من ظلاميَّة مهيمنة!؟ أم أن بعضنا من المبهورين <<بالأمركة>>، يتلطى بهذا الخوف المزعوم!؟ كي يزيد من تغريبنا ومن انسلابنا، ويمعن في تجريد المجتمع، من الحد الأدنى من عناصر التماسك والمقاومة فيه!؟

من أي نافذة سيتسلل <<الانغلاق>> المعَّمم، أسأل بصدق!؟ ومن أي باب سيدخل <<التقوقع>> الشامل!؟

* من التعليم ما قبل الجامعي!؟ وفي لبنان ما يناهز المليون تلميذ وتلميذة. وكل طائفة لها مدارسها، وكل مذهب له مدارسه، وكل الجمعيات لها مدارسها، وكل الدول الغربية الصديقة، كما تسمَّى، وهي كثيرة، لها مدارسها، وللتعليم الرسمي، مدارسه أيضا.

من التعليم الجامعي!؟ وفي لبنان ما يزيد عن مئة وعشرين ألف طالب وطالبة، موزعين على ما يناهز الستين جامعة ومعهدا جامعيا (وحبل التراخيص على الجرَّار!)، تؤكد الصحف، تتوزع بدورها على الطوائف، والمذاهب، والجمعيات، وعلى الدول الغربية الصديقة، وما أكثرها!؟ دون أن ننسى بالتأكيد، جامعتنا الوطنية!؟

* من الاعلام المرئي!؟ وعندنا من المحطات الأرضية ومن المحطات الفضائية، ما يوازي عدد <<الأرضيات>> <<والفضائيات>> الموجودة في بريطانيا وفرنسا، وربما في ايطاليا أيضا، مجتمعة!؟

* أنظروا إلى <<الفاشن>>، والموضة، و<<الدارج>>، عندنا!؟ في المآكل، والملبس، والمظهر، وطرق العيش!؟ انظروا، وقارنوا مع أكثر البلدان رقيا في العالم، وفق معايير الرقي السائدة اليوم. انظروا وقارنوا ما ترونه عندنا، مع ما ترونه في فرنسا، وبريطانيا، وأيطاليا مثلا! هل نقل انفتاحا عنهم!؟ أجزم، بعد تجربة، أننا نفوقُهم انفتاحا ورقيا، بالمقاييس <<الدَّارجة>> اليوم. يكفي أن تنظروا إلى الشباب <<الراقي>> بالطبع، برأسه الحليق، أو بشعره الملوَّن بألوان قوس القزح، وبنظارتيه السوداوين، و<<بالتي شرت>> المزركش بالرسوم، أو بكتابات غريبة عن الحرب وعن الجنس، وبالسروال المختصر، المحشو بالجيوب، وكأن صاحبه ذاهب في رحلة صيد طويلة. يكفي أن تنظروا إلى الصبايا <<الراقيات>> أيضا، فترون بطونهنَّ عارية، ومؤخراتهن ناتئة من فلقتين مرسومتين بابتذال، وظهورهُنّ مزينة بالوشم في أسفلها... في الأماكن الدالة...!

الدالة على <<ثقافة عصرية>> (يقولون)، تعمُّ المدن، والقرى، والدساكر النائية.

انظروا إلى شفاههن المنفوخة، وألى صدورهن المندلقة، وإلى ملابسهن أثمالا، لا تستر إلا القليل من أجسادهن المنفلشة في كل الاتجاهات.

انظروا إلى الهاتف الخلوي في كل الأيدي، وإلى السيارات الكبيرة (فور دبليو ديّ) تمتطيها الصبايا حصرا، بالجزمات العالية الذهبيَّة اللون، تغلف الساقين، أما الأجساد، فلا ضير إن بقيت، بدون ستر.

انظروا! من أي نافذة سيأتي الانغلاق!؟ ومن أي باب سيدخل التقوقع!؟

نحن لسنا منفتحين فقط، بل نحن مفتوحون! والفتحة في ثقافتنا، واسعة كالجحيم.

ان التافه، والسطحي، والنمطي، والذوق المبتذل الرخيص، قد اخترقونا، قد ولجونا، بالمعنى الذكوري لكلمة <<ولوج>>.

ليست قناعاً لمسرحية

لا نخاف التقوقع إذاً، ولا نخاف الإنغلاق.

ان ما نخافُ منه، هو أن نصبح عراة، أمام اية غزوة! نخافُ من أن نفقد الحد الادنى من التماسك المجتمعي!

نخافُ، من أن نضيعَ الحدَّ الأدنى من الانصهار الوطني!

نخاف، من أن نُصبحَ أوراقا تائهة، تتلاعب بنا ريح التقليدِ والنقل. فتتلقفنا <<الأمركة الكولونيالية>>، وقد فقدنا كل عناصر المواجهة.

لا مستقبلٌ بدون ماض، وعلينا عبر الحاضر، أن نصل الماضي بالمستقبل.

لا قوالب جاهزة، يمكنها أن تساعد في هذا الوصل.

ولا صيغ جامدة، يمكنها أن تنتج فنَّا، أن تنتج عمارة، لا نقلٌ بدائي فيها، ولا حنينٌ بكائي.

علينا أن نتعلَّم باستمرار. علينا أن نغرُفَ من كل تقنية مفيدة، ومن كل تكنولوجيا ملائمة.

وإدراك الملائم، هو الجمال، يقول إبن خلدون.

علينا أن نغرُفَ من الثقافة الحقيقية، المتنوعة، المتعددة، لا من الموضة، ومن النمطي السائد.

علينا أن لا تكون <<شخصيتنا>>، في الفنون، في العمران، وفي العمارة... قناعا في مسرحية، كما تعرِّف اللغة اللاتينية القديمة، كلمة <<شخص>>.

 

2003/06/27

2003   جريدة السفير