الأحد 11 ربيع الأول 1422هـ 3 يونيو 2001 -العدد73                 

في دار الكتب المصرية.. مصاحف خطت في أزمنة مختلفة

 

القاهرة - محمد رفعت


فى دار الكتب المصرية بالقاهرة، واحدة من أهم قاعات التاريخ والفنون الإسلامية الموجودة فى العالمين العربى والاسلامى، وهى قاعة القرآن الكريم، التى تضم مجموعة من أندر وأجمل المصاحف الشريفة يرجع بعضها إلى القرن الأول الهجرى، حيث كانت زخرفة وتذهيب المصاحف ذروة الفن العربى، الذى عرف فى تجميل المخطوطات زخرفتها، وكان تلوين وتذهيب المصاحف يتم فى البداية فى حدود بسيطة، اقتصرت على أجزاء من الصفحات مثل الأشرطة وبعض العناصر الزخرفية التى تدل على أجزاء المصحف وأقسامه، كالنصف، والربع، وكان الشريط الذى يحيط الصفحة الواحدة هو أهم هذه الأجزاء، حيث زينت بعناصر زخرفية مختلفة، فيها الجدائل، والأشكال المتشابكة، أو رسوم هندسية من دوائر أو أجزاء من دوائر أو مربعات صغيرة وتتداخل وتتفرق، تتلاقى وتتباعد، تتماس أو تتقاطع، تماما كالمعانى والمصائر الإنسانية، أما فواصل الآيات القرآنية فكانت فى معظمها عبارة عن دوائر، أما علامات الأجزاء فهى دوائر فى داخلها مربعات، تتداخل مكونة أشكالا نجمية مع البؤرة منها ما كان يدل على الجزء، وقد استخدمت فى هذه الزخارف الألوان الذهبية والزرقاء والخضراء، وأحيانا الحمراء أما الرسوم فكانوا يقومون بتحديدها باستخدام اللون الأسود.

وفى بداية القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى) بدأت كتابة أسماء السور داخل الأشرطة بحروف مذهبة، وبدأت الزخارف تصبح أكثر تعقيدا، ثم اتجهت العناية الى الصفحات الأولى خاصة المساحة الخالية التى كانت تحيط سورة الفاتحة، وفى الصفحة المقابلة أول سورة البقرة، حيث استخدمت الزخارف النباتية، والأشكال الهندسية المعقدة، وقد وصل الفنان المسلم إلى ذروة إبداعه فى هذا الفن فى العصر المملوكى، ومنه وصلت إلينا مجموعة من المصاحف الشهيرة النادرة.

أما أقدم المصاحف التى تضمها القاعة، فهو ذلك المنسوب إلى سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه، وقد انتقل إليها من مسجد عمرو بن العاص، وهو أحد المصحفين اللذين أحضرا إلى مصر، وكان بين يدى سيدنا عثمان يوم استشهاده، كما توجد صورة طبق الأصل من مصحف آخر منسوب أيضا إلى سيدنا عثمان، وكان أصله فى سمرقند ثم نقل إلى بطرسبرج عاصمة روسيا القيصرية، وبعد الثورة البلشفية سنة 1917 ثم نقل إلى تركستان، وهو يوجد الآن فى طشقند، وقد نشرته جمعية الآثار القديمة على يد الخطاط المصور الروسى (بلوساركس) وتم طبع خمسين نسخة منه، والنسخة الموجودة حاليا فى القاهرة تم اهداؤها الى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى منتصف الستينات، ويوجد مصحف آخر بالقاعة مكتوب بخط كوفى على الرق، دون فى آخره أنه مكتوب بخط أبى سعيد الحسن البصرى سنة 77هـ، وثمة مصحف بخط الامام جعفر الصادق، مكتوب فى القرن الثانى الهجرى على ورق، ومصحف ثالث مكتوب فى أوائل القرن الثالث الهجرى على رق الغزال، بالقلم الكوفى على طريقة أبى الأسود الدؤلى (أى بتنقيط الحروف). وهناك مجموعة أخرى من المصاحف المكتوبة بخط كوفى مجهولة التواريخ على وجه الدقة، وإن كانت تمت إلى القرنين الأول والثانى للهجرة. أما أجمل المصاحف وأروعها فى فن التذهيب والزخرفة فهى تلك التى تنتمى إلى العصر المملوكى، ومنها مصفح السلطان محمد بن قلاوون، وهو مصحف متوسط الحجم، تخلو صفحاته من المستطيلات الزخرفية، ماعدا فراغ السور فى الصفحة الاستهلالية التى تسبق سورة الفاتحة، والمصحف كله مكتوب بماء الذهب، بالخط الثلث ومضبوط الشكل بالكامل، وكتب فى سنة 764هـ، وبالرغم من ذلك تبدو صفحاته بسيطة ورقيقة، تجبر الناظر على طول التأمل والتمعن، وقد كتب هذا المصحف خصيصا لكى يوضع فى مسجد القلعة الذى بناه السلطان محمد بن قلاوون، وأوقفه عليه، وظل به حتى نقل إلى دار الكتب المصرية، وهناك أيضا مصحف السلطان (برقوق) الذى انتهى الخطاط الشهير عبدالرحمن الصائغ من كتابته فى يوم السادس من ذى الحجة سنة 801هـ، بعد عمل متصل استغرق سبعين يوما فقط، وبقلم واحد لم يغيره، والمصحف المكتوب بالخط الثلث الواضح، ومنقوش بالذهب والألوان الزاهية وهى اللون الذهبى الخالص، والأزرق اللازوردى والأحمر الياقوتى، وتتخلل الألوان مساحات من البياض لتضفى عليها عمقا وجمالا، أما الزخارف ذاتها فتتكون من وحدات هندسية، وأوراق نباتية، تغطى الصفحتين الاستهلاليتين، والصفحة التى كتب بها سورة الفاتحة، والصفحة التى بها بداية سورة البقرة، أما فواتح السور فقد كتبت فى إطارات مزخرفة، مستطيلة محفوفة بالألوان المتداخلة والمتناغمة، وقد وقف السلطان هذا المصحف هو الآخر الى المسجد الذى بناه باسمه في النحاسين والذى يعد تحفة معمارية فريدة فى تراث العمارة الاسلامية.

وعلى بعد خطوات قليلة من مصحف السلطان برقوق، يوجد مصحف آخر لابنه، وهو مصحف بديع تتسم زخارفه الدائرية المتعانقة المتشابكة بالوقار، والرقة، ويحيط بصفحتيه الأولى والثانية إطار مذهب، ثم تتابع الصفحات بدون إطارات مذهبة أو مزخرفة، حيث يمضى الخط سلسا عبر صفحات وردية اللون كأنها رحيق الزمن النائى، وفى كل صفحة وحدتان زخرفيتان فقط، العلوية دائرية مستوحاة من شكل قرص الشمس بأشعته، وداخلها دائرة أصغر حجما ملونة، والو حدة الزخرفية الموجودة إلى أسفل تتخذ شكل ورقة شجر منسقة الحواف، يوجد داخلها إطار به دوائر متداخلة، أما فواتح السور وعناونيها فهى موجودة داخل مستطيل تتخلله اشكال دائرية، ويتسم الطابع العام لزخارف هذا المصحف بالهدوء والرقة حتى تتناسب مع الأثر المعمارى الذى وضع فيه المصحف، وهو خانقاه فرج بن برقوق على أطراف صحراء القاهرة، والتى بدأ الناصر فرج بناءها سنة 801 هـ 1398 ميلادية واستغرق بناؤها أربعة عشر عاما، ويعتبر من أضخم مبانى العصر المملوكى وأجملها، و قد أعادت هيئة الآثار المصرية ترميمه.

ويعتبر مصحف السلطان برسباى ثامن ملوك الجراكسة من أندر المصاحف التى تضمها قاعة القرآن الكريم بدار الكتب المصرية وأكثرها تميزا وتفردا، فهو الوحيد بين كل مصاحف القاعة الذى يتكون من مجلدين تبلغ طول الصفحة فيهما سبعين سنتيمترا، ولا يزال المصحف بمجلديه فى حالة جيدة رغم مرور تسعمائة وخمسين عاما على كتابته وإعداده، وفى الصفحة الاستهلالية منه زخارف غريبة جميلة باللازورد الأزرق، والذهب الخالص، لا تعطى إحساسا بالبذخ بقدر ماتبرز رقة وإحساسا مرهفا خاشعا، لتتقاطع وتتعانق مع وحدة وتنوع، وبدءا من سورة الفاتحة وحتى آخر صفحة من المصحف نجد كل صفحة تحتوى على ثلاثة إطارات متداخلة تشكل الإطار المحيط بالسور المكتوبة بخط نسخ جميل، تتخلله شعيرات ذهبية، أما الفواصل بين الآيات فهى عبارة عن وحدة زخرفية مستوحاة من أوراق الشجر والاطارات الثلاثة متجاوزة ومتباينة ومنسجمة، فالاطار الخارجي من اللازورد الأزرق المشعر بالذهب، ويحتوي على أشكال هندسية وزخرفية متعانقة، وحواف هذا الاطار عبارة عن خطوط رقيقة مستوحاة أيضا من أشعة الشمس، ثم يلي الاطار فاصل أبيض نحيل، والاطار الثاني من الذهب يتخلله شكل هندسي أزرق اللون عبارة عن مزيج من المستطيل والدائرة، ويتخلل اللون اللازوردي الأزرق اسم الصورة مكتوبا باللون الذهبي، وهناك مساحات بلون أحمر شفقي موزعة خلال الاطار الذي يليه فاصل أبيض نحيل، ثم اطار من اللازوردي الأزرق أقل مساحة من الاطار الثاني، وبه أشكال هندسية تقارب الأشكال التي يحتوي عليها الاطار الخارجي، ويبدأ المجلد الأول بفاتحة القرآن الكريم وينتهي بسورة الكهف، أما المجلد الثاني فيبدأ بسورة مريم.

وللسلطان قايتباي هو الآخر مصحفان رائعان، تحتفظ بهما دار الكتب المصرية، أحدهما محلى بالذهب واللازورد، ومكتوب بخط نسخ جميل، وفواتح السور محلاة بزخارف نباتية وأخرى مستوحاة من نجوم السماء، والمصحف الآخر يبلغ حجمه ضعف حجم المصحف الأول وكتبه أحد كبار رجال الدولة وهو الأمير جالشم السيفي بك الدوادار الكبير، ويعكس المصحفان رسوخ عصر السلطان قايتباي واستقراره الذي كان راعيا للفنانين والقراء والرياضيين. ومن أشهر المصاحف التى كتبت فى العصر المملوكى، مصحف السلطان شعبان، والصفحة الأولى منه محلاة بالذهب واللازورد والمنقوش بالنقوش العربية البديعة وقد كتب سنة 764هـ، ومصحف السلطان المؤيد، الذى كتب فى عام 815هـ، والمعروض منه مجلد واحد يمثل نصفه فقط، وآخره سورة الكهف، ومصحف السيدة خوندر بركة أم السلطان شعبان، ومصحف الأمير حدنممتش (776) هجرية، والذى التزم كاتبه العبقرى أن يبدأ كل صفحة بكلمة قرآنية تبدأ بحرف (أ)، ومصحف السلطان خشقدم (866هـ)، ويحتفظ بزهاء ألوانه حتى الآن وكأنه قد كتب بالأمس، وورقه من الكتان المعالج بمواد أخرى، وردى اللون، ويتجاوز طول صفحاته المتر وعشرين سنتيمترا، ومع ذلك فهو يتسم ببساطة نقوشه ورقتها، وجميع صوره مكتوبة بخط نسخ كبير، ويبلغ عدد كلمات كل سطر تسع أو عشر كلمات، ولا توجد أى إطارات زخرفية تحيط بالسور داخل الصفحات، إنما يحيطها الفراغ الوردى الجميل، كما تحتفظ قاعة القرآن الكريم بدار الكتب بعدد كبير من مصاحف أخرى تنتمى إلى أزمنة مختلفة، ومن مختلف انحاء العالم الإسلامى، تمثل فى مجموعها ذروة الفن الإسلامى وتفرده، ومدى ما بلغه الفنان المسلم من تمكن وإتقان.

مصحف مخطوط بقلم جلي محلى بالذهب أصغر مصحف بخط النسخ آيات قرآنية مكتوبة على ورق الكتان طوله 7 أمتار