الأحد 26 صفر 1422هـ 20 مايو 2001 -العدد71                 

وكالة بازرعة تحفة للعمارة التجارية فى العصر العثمانى

 

القاهرة- محمد عبد الحميد

 


افتتاح (وكالة بازرعة ) كان الخبر الأكثر بروزا فى وسائط الاعلام المصرية الرسمية فى الآونة الأخيرة فيما يخص مجال الآثار والعمارة والتنمية الحضارية والسياحية للأبنية القديمة والآثار .

فقد تم افتتاح وكالة بازرعة فى منتصف شهر مارس المنصرم بعد أعمال دراسات أثرية وتاريخية وهندسية معمقة وعمليات بناء وترميم كبرى استغرقت مايزيد على الأربع سنوات حيث بدأ العمل فيها منذ عام (96) .

ويقول مدحت المنياوى رئيس تفتيش آثار منطقة شمال القاهرة حسب الحالة التى كانت عليها الوكالة من تهدم وتهالك تمثلت فى التصرعات الكبيرة لوحداتها المعمارية والشروخات العميقة التى كانت تضرب معظم حوائطها وسقوط أجزاء كبيرة من أسقف طوابقها العليا، وما استلزمه هذا عند العمل فى الوكالة من أعمال بناء وتركيب وترميم وإصلاح وطلاء كانت تتم بناء على أساليب علمية وأداء غاية فى الإتقان بحيث أعادت هذه الأعمال فى النهاية الوكالة فى صورة غاية فى البهاء والجمال، يمكننا أن نقول أن ما تم فى الوكالة كان أقرب إلى اعادة البناء منه إلى الترميم.

وتقع وكالة بازرعة فى منتصف حارة (التمبكشية ) وهى حارة من حارات حى الجمالية الشهير بالقاهرة القديمة، ويبدو أن هذه الحارة كانت من الحارات التجارية الكبرى بالقاهرة فى العصر العثمانى حيث كانت تقع بها مجموعة من الوكالات التجارية منها وكالة أوده باشا (تحت الترميم) ووكالة بازرعة ووكالة عباس أغا التى لم يبق منها سوى بوابتها الحجرية. وتعد وكالة بازرعة من الوكالات التجارية الكبرى فى العصر العثماني.

هذا العصر الذى شهد إزدهارا ونموا ملحوظا فى الوكالات التجارية خصوصا فى مدينة القاهرة .ويقول عبد السلام محمد مدير تفتيش أثار منطقة شرق الجمالية أن تاريخ وكالة بازرعه يتجاوز اسم آخر من آمتلكها من العائلات التجارية وهى عائلة بازرعة، حيث قام بإنشائها حسن كتخدا نائب الوالى المعروف بأسم (الكخيا ) عام 1669وقد عرفت باسمه مدة طويلة، وكان قد خصصها لتجارة الأخشاب، سوى أنها بدءا من عام 1796 عرفت بوكالة بازرعة حين اشتراها تاجران شقيقان هما سالم بازرعة وسعيد بازرعة اللذان ينتميان إلى أقليم حضر موت باليمن وبعد تجديدها قاما بتخصيصها لتجارة البن وإن كانت الوكالة قد تحولت في وقت ما من تاريخها إلى تجارة الصابون خصوصا النوع النابلسى منه نسبة إلى مدينة نابلس فى فلسطين الذى كان على ما يبدو يستورد منها إلى مصر.

ويذكر المؤرخون أن مصر قد عرفت الوكالات التجارية منذ العصر الفاطمي، إلا أنها قد ترسخت بشكل معبر عن المؤسسة التجارية الكبرى مع إزدهار التجارة وتوسعها على المستوى الداخلى والدولى إبان عصر المماليك. وبالرغم من الإنتكاسة التى أصابت الاقتصاد المصري من جراء الغزو والاحتلال العثمانى لمصر وتحويلها إلى ولاية عثمانية وما استتبعه من نهب ثرواتها لصالح سلطان الباب العالى فى الاستانة، وخراب إدارة شئونها من قبل ولاة عثمانيين فسدة، ونخب عسكرية نهمة لجمع الأموال حتى ولو كان ذلك يؤدى إلى خراب مصر واقتصادياتها. وبالرغم من ضعف التجارة من جراء ذلك مقارنة على الأقل بما كانت عليه أيام المماليك، إلا أن الوكالة التجارية حافظت على مكانتها بل وإزدهرت وكثرت فى عمارتها والسلع المبيعة فيها، خصوصا فى القرن السابع والثامن عشر بشكل لم يسبق له مثيل حيث أحصى المؤرخون ما بين عشرة إلى ستة عشر وكالة توزعت فى أنحاء القاهرة طوال القرنين الثامن عشر. فكان عددا كبيرا منها فى منطقة بولاق حيث الميناء التجارى لمدينة القاهرة طوال العصر العثمانى ومنها ما هو فى حى الجمالية أو خان الخليلى أو الغورية.

الوكالة التجارية هى نمط لبنايات عظيمة مخصصة لممارسة الأعمال التجارية وقد انتشرت فى حواضر المسلمين خصوصا فى المراكز التجارية منها مثل مدينة القاهرة وتعددت أغراضها فهى محط لرحال القوافل التجارية الكبيرة التى كانت تجلب بضاعتها من كافة أنحاء العالم سواء من الهند وبلاد فارس فى أقصى الشرق أو من مراكش وبلاد الأسبان فى أقصى الغرب أو من الحبشة ونيجيريا فى أقصى الجنوب أو من هولندا والنمسا فى أقصى الشمال. حيث يعرضون تجار هذه القوافل بضاعتهم فى أفنية الوكالات لممارسة البيع والشراء أو لتخزينها فى حواصل الوكالة تمهيدا لبيعها لتجار التجزئة فى الأسواق المتاخمة للوكالات، أو اعادة تصديرها إلى بلدان أخرى حيث كانت القاهرة ووكالاتها التجارية تلعب دورا مهما فى تجارة (الترانزيت ) تجارة العبور. وهى أيضا كانت بها وحدات لسكن واعاشة التجار الغرباء يبقون فيها لحين إنتهاء اعمالهم التجارية.

ويقول عنها د. رفعت موسى محمد فى كتابه (الوكالات والبيوت الإسلامية في مصر) أنها عبارة عن بناء كبير مهيب لما كان يحيطه من أسوار عالية منيعة وهى غالبا ما كان يمتلكها تاجر واحد أو أسرة واحدة وتعرف باسم صاحبها أو السلعة المبيعة فيها.

ويتميز معمارها بوجود فناء سماوى واسع يتوسطها غالبا ما يكون مستطيل الشكل ويستخدم لعرض البضائع وممارسة عمليات البيع والشراء وبها حواصل كثيرة تتوزع على مدار أضلاعها الأربعة تستخدم كحوانيت للبيع، أو لتخزين البضائع. أما الأدوار العليا فيها فكانت تستخدم كحجرات فندقية لإقامة تجار القوافل الغرباء وأسرهم .وقد تكون حجرات الاعاشة والسكن كثيرة فى عمارة بعض الوكالات .. حيث كانت تؤجر للعامة كرباع يسكنها الأهالي.

يحد وكالة بازرعة من الناحية الجنوبية جامع جمال الدين الاستدار وتلاصقها من الناحية الشمالية وكالة عباس أغا التى لم يتبق منها سوى بوابتها الحجرية . وتشرف وكالة بازرعة على حارة التمبكشية بواجهة مهيبة وجميلة بأسوار عالية زينت بحجر المشهر الذى يتميز بتزيين واجهات العمارة الإسلامية ببناء متوالى من المداميك الحمراء تتخللها المداميك البيضاء وتزين جزءها العلوى مجموعة من الدواشن (المشربيات ) الجميلة يبرز تحتها مجموعة من الكواميل الحجرية القوية كحوامل للوحدات السكنية فى الطوابق العليا للوكالة. ويتوسط واجهة الوكالة مدخلها الرئيسى حيث يتشكل على هيئة عقد نصف دائرى يزينه شريط من النحت البارز على شكل وتزيين متوازيين ينعقدان على مسافات متساوية، وتسمى هذه الحلية الزخرفية فى العمارة الإسلامية (بالجفت اللاعب ذو المميات) ويؤدى هذا المدخل إلى دركاه (رحبة ) مربعة ذات سقف من قبو متقاطع حيث تفضى إلى فناء أو صحن الوكالة، ويقع على جانبى بوابة الوكالة مكسلتين من الحجر كانتا تستعملان لجلوس بوابى الوكالة وحراسها. أما البوابة نفسها فهى عبارة عن مصراع خشبى ضخم من شرائح الخشب الصلب المتين مصفح بشرائح من المعدن اللامع والمسامير المكوبجة مركب عليه مزلاج خشبى مطعم بالعاج والصدف .والبوابة الكبيرة المحصنة كانت من تقاليد بناء عمارة الوكالة لتأمين البضائع والمنقولات الثمينة بداخلها .ويقول عبد السلام محمد كبير مفتشى أثار شرق الجمالية أن لجنة ترميم وتجديد الوكالة حرصت أن تعيد بوابة الوكالة كما كانت وتحفظ لها ما كانت تتمتع به من جلال وبهاء . مثلما حرصت على ذلك فى جميع العناصر المعمارية الآخرى للوكالة.

ويضيف بل حرصت اللجنة على ترميم وتزيين واجهات بعض البيوت والمنشآت المعمارية التى تواجه مدخل الوكالة فى حارة التمبكشية وهذا كنوع من التنسيق الحضارى لما يحيط بالآثار من عناصر معمارية تساعد على الاحساس بالآثار وجمالها المعماري. والفناء السماوى الذى يتوسط الوكالة أكثر ما يميز عمارة الوكالات التجارية وهو هنا فى وكالة بازرعة أقرب فى شكله إلى شبه المنحرف منه إلى المستطيل حيث يتسع فى العرض كلما توغلنا فى عمق الوكالة ومقياس ضلعية 27*11.5م2 بمساحة كلية 310م2 الفناء السماوى هو ما كان يستخدم لعرض البضاعة وممارسة أعمال البيع والشراء حيث يحاط بمجاز دائر على أضلاعه تنفتح عليه الحواصل وحوانيت البيع التى فى الطابق الأرضى وتشرف عليه الحواصل والحوانيت التى فى الطابق الأول علوي وترسم لنا صورة د. نللى حنا فى كتابها (تجار القاهرة فى العصر العثمانى) عما كان يدور فى الوكالات التجارية من مهام فتقول ( فى اثناء النهار يمتلئ فناء الوكالة بأناس يقدمون للتجار مختلف الخدمات فالسماسرة والدلالون يجمعون بين الراغبين فى البيع والشراء، ويتولى الصيارفة مهمة صرف العملات، والقبانيون وزن البضائع، والحمالون ينقلون البضائع على أكتافهم أو بمساعدة الأبل والبغال وفناء وكالة بازرعة فى صورته الراهنة مرصوف بالبلاط الحجارى الأبيض المائل للصفرة.

ويتوسط أرضية الفناء مربع من الأحجار الملونة نحتت على هيئة كندات ولوزات متداخلة ومتقاربة وهى مفردات لزخرفة معروفة فى العمارة الإسلامية تسمى بالطبق النجمى. ويحيط بالفناء مجاز دائر بيائكة من العقود المحمولة على دعامات وأعمدة، و هذا المجاز تنفتح عليه حواصل الطابق الأرضى. ويتماثل ويتكرر فى الطابق الأول العلوى والحواصل المتجاورة المتعددة فى الطابق الأرضى والطابق الأول كانت تستخدم أما كحوانيت لعرض البضاعة لممارسة البيع والشراء ومنها ما كان يستخدم كمخازن للبضاعة أو كدورات لمبيت ركائب ودواب القوافل التجارية من ابل وأحصنة وبغال ومن المعتاد أن تنفتح الحوانيت فى الوكالة التجاربة على الحارات السالكة للبيع سوى أن وكالة بازرعة لم نجد فيها حوانيت تنفتح على الخارج سوى حانوتين أحدهما لقهوة بلدية والآخر به عدد من شاشات التليفزيون حيث يستعمل للألعاب (الفيديو جيم).

وأعداد الحواصل متماثلة فى الطابق الأرضى مع الطابق الأول حيث يبلغ عددها فى كل طابق (25) حاصلا. وأن اختلفت فى مساحتها وهى متماثلة فى سقوفها حيث كل منها سقف بقبو نصف اسطوانى وكل حاصل مركب عليه باب تعلوه طاقة مغشاة بمصبعات من خشب الخرط . وقد لاحظنا أن بعض الحواصل بها دخلات فى الحائط تمثل دولاب حائطى لحفظ الأشياء. ويقول عبد السلام محمد أن استعمال القبو فى أسقف الحواصل فى الوكالة وأغلب الوكالات فى العصر العثمانى كبديل للأخشاب التى كانت نادرة وغالية الثمن. ويضيف أن من مميزات عمارة وكالة بازرعة أنها تتوافق مع أساليب البناء المصرية الأصيلة التى تتناسب مع البيئة المصرية واقتصادياتها سواء كان ذلك فى تسقيف الحواصل بالأقبية أو فى استخدامها الأحجار للبناء التى كانت تقتطع من المحاجر المصرية ويستخدم معها مادة لاحمة تسمى (بالقصرمل ) تتكون من الجير والحمرة والجبس.

ويتقدم عقود حواصل الطابق الأرضى رفرف خشبى للتظليل على مداخل الحوانيت وهو من خشب الموسكى ومزخرف بزخارف مفرغة على شكل أوراق نباتية محورة.

أروقة الاعاشة والسكن ويعلو الطابق الأول علوى طابق عال مقسم من داخله إلى ثلاث طبقات في كل طبقة عدد من الحجرات الصغيرة التى تستخدم كوحدات للسكن والاعاشة، وتتصل كل طبقة بالأخرى بسلم صغير من الحجر الجيرى وتختلف مواضع السلالم بين الوحدة والأخرى وهذه الطريقة فى بناء المساكن هى الحل المعمارى فى العمارة الإسلامية للتوسع فى عمارة المسكن توسعا رأسيا، وهو ما أطلق عليه (الربع ) وجمعها (رباع) ويرجع نموذجها الأصلى إلى بلاد ما بين النهرين. وقد بلطت أرضيات هذه الحجرات بالبلاط المعصرانى، وكسيت حوائطها بطبقة سميكة من الجص الأبيض، وسقفت بالبراطيم والألواح الخشبية وكل وحدة من هذه المساكن عبارة عن ردهة وايوان (حجرة ) أو إيوانين وقد يلحق بها حمام صغير وكانت لهذه الحجرات مشربيات وطبقات تطل بهما على الفناء السماوى للوكالة أو على الحارة. والمشربيات مصنعة من الخشب العزيزى الصلب الفاخر. وبوحدات مخروطة تترك فيما بينها فتحات صغيرة يسمى هذا النموذج بالخرط العقيلى ، أما الطيقان والشبابيك فكانت مغشاة بمصبعات من خشب الخرط متسع الفتحات بنموذج يسمى (بالصهريجى) وعدد المشربيات التى تطل على الصحن (29) مشربية، وهناك ثمانى مشربيات تطل على الحارة من جهة باب الوكالة ليصبح العدد الكلى لمشربيات الوكالة (37) مشربية.

ويقول مدحت المنياوى رئيس منطقة اثار شمال القاهرة: أننا بتجديد وكالة بازرعة بعثنا شكلا معماريا إسلاميا أصيلا لشكل المؤسسة التجارية الذى ساد لمدة طويلة فى عمران الحضارة الإسلامية خصوصا فى القاهرة والذى سبق بقرون عمارة (المولز ) التى باتت متنشرة فى جميع أنحاء القاهرة.

وصار التجوال فى أسواقها النشاط الترفيهى الأول لأفراد الأسرة المصرية. الغنية وعلى رسلة نقول ربما يكون تجديد وكالة بازرعة فيه العزاء لأهالى الجمالية بديلا عن (المولز) فى الأحياء الحديثة والذين لا تسمح ظروفهم الاقتصادية على التعاطى معه .وأن كان حالهم مع وكالة بازرعة سيكون قاصرا على الاستمتاع بجمال العمارة الإسلامية وهم يحدقون أبصارهم فى عناصرها المعمارية من دون الشراء ولكن ماذا فى هذا والمثل الشعبى يقول (اللى ما يشترى يتفرج).

شرح صور: ـ من الخارج ـ منظر عام للوكالة من الداخل ـ أحد السلالم المؤدية الى الخان ـ مشربية في وكالة بازرعة