امارة باري العربية

 ..تاريخ مشوه وكتابات متحيزة

 

روما ـ موسى الخميسي


ذكر المؤرخ الايطالي (جوزيه موسكا) في مقدمة كتابه عن (امارة باري) بان اغلب المؤرخين الايطاليين تجاهلوا الى حد كبير فترة الحكم العربي التي عاشتها باري والتي استمرت من عام 847 وحتى 871 ميلادية, كما ان الكتابات المتوفرة حاليا تعتمد في اغلبها على ما كتبه الرهبان بعد انتهاء فترة الحكم العربي في هذه الامارة, واتصفت اغلب تلك الكتابات بالتحيز والحقد ضد من وصفتهم بأهل (الكفر) من المسلمين. كما اصيب معظم المؤرخين الاوائل بداء التعصب الفكري الذي نشأ عن شدة حقدهم على الديانة الاسلامية. وهذا يعني ان الذين عالجوا تاريخ امارة باري العربية وطبيعة الحكم العربي فيها, لم يشعروا بحقيقة واهمية المادة التي عالجوها.

من ناحية اخرى فان اغلب الدراسات المعاصرة وبالذات تلك التي كتبها المؤرخ (ميكيله عماري) في مؤلفه الفذ (تاريخ العرب في صقلية) استند من خلالها على المعلومات التي وردت في كتب عدد من المؤرخين العرب امثال (البلاذري) و(ابن الاثير) و(ابن خلكان) والتي تتشابه مع بعضها البعض وتتسم بالايجاز الشديد. اذا اردنا ان نوضح عبارة (امارة باري العربية) فاننا نستطيع القول بأن هذه الامارة الصغيرة التي مازالت تشعر زائرها بلبوسها العديد من المظاهر العربية في الحياة الاجتماعية وتقاليدها وعاداتها واعرافها, وفن العمارة, ونظم الزراعة, وطرق حفر الترع والقنوات, وانتشار النواعير المائية حتى يومنا الحاضر. كما ان معالمها الاثرية الباقية الى الان, تشير الى مجد عظيم خلفته تلك العمارة مقارنة بعمرها الزمني القصير.

عاشت باري خلال سنواتها العربية في عزة ورغد ولم يكن يزعجها سوى عدوها الذي كان يحاصرها في كل مكان, والذي كان يعمل للقضاء عليها وعلى طمس معالم الاسلام فيها, علما بأن ناسها كانوا ينتظرون هذه النهاية بتوجس وقلق كبيرين, ولم يساورهم الشك في سقوطها عاجلا او آجلا.

ولفهم بعض الجوانب التاريخية لنشأة ونهاية هذه الامارة, يستحسن تقسيم الفترة التاريخية التي عاشتها الى ثلاث مراحل على ضوء فترات الحكم التي توالت عليها وهي:

الفترة الأولى من 847 ـ 852 وحكم فيها الامير خلفون

الفترة الثانية من 853 ـ 856 وحكم فيها الامير مفرق بن سلام

 الفترة الثالثة من 857 ـ 871 وحكم فيها سودان الماوري

وخلال هذه الفترة القصيرة من الحكم العربي في باري, اندثرت العديد من المعالم والحوادث, وكل ما بقي منها قليل وغير واضح, وهذا القليل يتصف بالغموض ومشوب بأشكال من الحسرة والالم. وقليلة تلك الاقلام التي تصدت عن جد وعلمية لتقديم صورة حقيقية لتلك السنوات القليلة والمؤثرة من الحكم العربي, لأنها لاتزال تمتلك موقف الرفض والنظرة العدوانية للطرف الاخر.

بعد تولي ابو الاغلب ابراهيم بن عبد الله بن الاغلب امارة صقلية بعد موت زهير بن عوف, تعززت همة العرب في صقلية بالقضاء على المقاومة الرومانية.

وتصفية امر الجزيرة للمسلمين لاينازعهم فيها احد. فبعد تصفية العديد من القواعد العسكرية المسيحية في عدة مدن وجزر حول صقلية, اتجهت انظار المسلمين صوب البلاد الايطالية في محاول لفتحها لتكون بؤرة الانطلاق نحو وسط القارة الاوروبية.

وبالفعل فقد ارسل ابو الاغلب ابراهيم اسطوله القوي نحو بلاد (قلورية) كالابريا فاكتسح هذا اسطول الروم, ونزل العرب في الجنوب الايطالي, واستمرت هذه التطورات التي عززت الوجود العربي في العمق الايطالي, وخاصة بعد ان استعانت مملكة (نابولي) بفرقة من الجند الاسلامي لمحاربة امارة دوقية (بينيفينتو) واخضاعها لهيمنة المملكة النابوليتانية, الأمر, الذي اصبح المسلمون يومئذ حلفاء لمملكة (نابولي) القوية. كما ان المسلمين في الوقت ذاته استولوا على مدينة (تارنتو) وارسلوا جنودهم حتى مصب نهر (البو) في شمال ايطاليا, كما انهم جهزوا سرايا برا وبحرا لفتح مدينة روما, وبالفعل فقد اقلع اسطول بحريا عام 846 يتكون من 73 سفينة واستولى على مدينة اوستيا التي تبعد قرابة 26 كيلومترا عن روما, وتوغلوا حتى وصلوا الى مركز مدينة روما ودخلوا كنيسة القديس بطرس وكنائس اخرى, الا انهم تراجعوا في الوقت المناسب بعد ان هاجموا الفاتيكان وحصلوا على بعض الغنائم وبعد ان ادركوا صعوبة احتلال المدينة نتيجة تحصيناتها القوية وتحالف الاعداء فيما بينهم بوجه قوة الفتح الاسلامي الجديدة. في عام 847 تحول الجنوب الايطالي الى مسرح لحروب آلية مستمرة ما بين الامارات والمدن الجنوبية المستقلة من جانب وبين طموحات العرب في الهيمنة على باقي المدن الجنوبية وعلى رأسها مدينة (باري) ذات الموقع الاستراتيجي المهم.

واستطاع (خلفون) وهو قائد عسكري من عشائر ربيعة كان يقود احدى التجمعات العربية والبربرية في مقاطعة (بوليا) ان يحاصر مدينة (باري), الا ان فرص الهجوم ومحاولة الاستيلاء على المدينة المحصنة لم تفلح في بداية لامر, ثم اشتدت وطأة الحصار فأخذت موارد المدينة المحاصرة في النفاد, واشتدت وطأة الجوع والحرمان على الناس, وبطريق الصدفة يكتشف احد جنود (خلفون) ثغرة في سور المدينة المحصن, فينزل بها خلفون ومجموعة من جنوده ليباغتوا الجنود اللومبارديين وهم نيام, وتسفر المعارك عن تغلب (خلفون) وبث سيطرته على المدينة, فأعلن نفسه واليا عليها, ووقع التفاوض بينه وبين ممثلي الطائفة المسيحية يؤمن لهم في انفسهم واموالهم, وان يحتفظوا بشرعيتهم وقضاتهم, وان يتمتعوا احرارا بشعائرهم الدينية, وان يؤدوا بكل حرية طقوسهم, وان تبقى كنائسهم حرما مصونة. وسارع (خلفون) الى تقوية اسطول المسلمين والمباشرة بفتح المدن والامارات التي كانت بجوار مدينة (باري).

بداية جديدة

وقد نقل عرب (باري) كثيرا من الغراس والمحاصيل كالقطن والارز وقصب السكر والنخيل من صقلية. كما بدأ الحكم الجديد في تنظيم الري والصرف, واستجلاب الماء, ونشر النواعير المائية. الا ان الخلافات بين العناصر الأربعة التي يتكون منها السكان, وهم العرب والبربر, والنصارى واليهود, والتي كانت الامارة تحرص منذ البداية على ضمان ولائها, لم تلبث ان تحطمت, وخاصة بين العرب والبربر, الامر الذي ادى الى مقتل (خلفون) وتولي (مفرق بن سلام) حكم الامارة, ولم يعرف احد كيفية وصوله الى قيادة الحكم, الا انه اشتهر بالتقوى, فبنى اول جامع كبير في وسط باري.

وتشير بعض المصادر الايطالية الى ان موقعه هو الكاتدرائية الحالية للمدينة والتي تقع وسط مركز المدينة التاريخي. واشتهر (مفرق بن سلام) ايضا بأنه كان قائدا عسكريا من قبيلة الاغالبة, ولم يشذ هذا القائد عن السنة التي وضعها من قبله الامير (خلفون) وهي القيام بغزو المناطق المحيطة بامارته, وخاصة (بنيفينتو) ومملكة باري و(تليزي) وامارة (سبوليتو) و(ساليرنو) في محاولة للقضاء على هذه الدويلات والتوغل في اراضي ايطاليا اذا اتاحت لهم الفرصة. وقد دشن حكمه بعدد من الغزوات, فغزا المعاقل التي مر بها وخربها, والتقى بمجموعة من المقاتلين اللومبارديين والصقالبة فهزمهم شر هزيمة. ووقعت ايدي جنوده على كثير من الغنائم كما انه صالح في الوقت نفسه بعضا من امراء اعدائه على الجزية واطلق اسرى المسلمين. كما اصبحت امارة باري في عهده مأوى للعديد من المسلمين الذين تكاثر عددهم في المناطق الجنوبية الايطالية.

الا ان فتنة العصبية الجاهلية ونار النعرة العنصرية اشتعلت من جديد, فنسوا عدوا يترقب بهم, وقد تولى اشعال هذه الفتنة مجموعة من العرب وجماعة من البربر, ادت في نهاية الامر الى قتل الامير (مفرق) من قبل البربر ونصبوا محله (سودان الماوري) الذي حاول منذ البداية ان يظهر عدالته بعدم التفريق بين العرب والبربر, ووزع المغانم والاراضي بالتساوي بينهم, كما وزع المناصب الحساسة بالامارة بالتساوي ايضا, كما انه اظهر عدم تزمته الديني, وشهد عهده الاول هدنة عسكرية بينه وبين جيرانه من المسيحيين, فقام بخطوة اخلاء سبيل عدد من اسرى الحرب من امارة (بنيفينتو) وعلى رأسهم احد القادة الكبار, ثم بدأ بعد ان استتب له الامر بجولة فتوحات حيث استولى على مدينة (كابوا) و(كونزا) و(ليبوريا) متوجها الى مملكة نابولي, الا ان انتشار مرض الكوليرا حال دون تواصل زحفه, واثناء عودته الى باري التحم بجيش من رجال الروم في معركة كبيرة دارت رحاها بشدة لا عهد للفريقين بها من قبل, فتغلب (سودان) ورجاله في هذه المعركة التي اطلق الطليان عليها فيما بعد اسم (الشرسة).

 وكان لهذه المعركة اسوأ وقع في العالم المسيحي اذ اهتزت لها البلاد الرومية بأسرها, وكان (سودان) قد ابتدأ حكمه بحسن السيرة وعدالته, ثم انقلب الى ضد ما كان عليه, وانسلخ عن العديد من اخلاقه الاولى, فساءت ظنونه, وتغير سلوكه, واسرف على حد زعم المصادر الايطالية بالقتل نتيجة تفرق العصبة وسخط الرأي العام, ويعلق المستشرق الايطالي فرانشيسكو جابريللي على هذا الامر فيؤكد بأن الدعاية التي اشاعها الرهبان بعد سقوط الامارة العربية قد بالغت في وصف فضائح الامير (سودان), واعتمدت على الروايات الحاقدة فأضافت لها اساطير لتسود نهائيا صفحته, ولتتمكن من القضاء نهائيا على امارته, والا فالعقل لا يكاد يصدق ان اميرا كان يستطيع ان يصل الى هذه الدرجة من الموبقات والآثام.

وقد كتب الامير سودان عام 816 رسالة الى الخليفة المتوكل في بغداد يطلب فيها تعيينه واليا على امارة (باري), الا ان المتوكل كما هو معروف قد قتل وحل محله بالخلافة المستنصر, فاستغل الامير (سودان) هذه الاضطرابات ليعلن لنفسه لقب (السلطان). فأصبحت امارة باري المركز الذي تتوجه منه الحملات لفتح العديد من المدن. وقرر التحالف المسيحي الجديد الذي وقع بين الامبراطور (لودفيك الثاني) وامير (بينيفينتو) و(سبوليتو) و(نابولي) بأن لا يركن احدهما لجانب المسلمين ضد خصمه مرة اخرى. وبين عامي 866 ـ 867 اعتزم الامبراطور نجدة المسيحيين, فنازل المسلمين, ولكنه لم يستطع محاصرة (باري) لعدم امتلاكه اسطولا بحريا قويا, الامر الذي اضطره للرجوع من حيث اتى, لكنه لم يغير عزمه رغم مرضه, فاستعان بجماعات من المسلمين الصقالبة وصربيا والقسطنطينية, فحاصرت هذه القوات (امارة باري) لمدة اربع سنوات.

ويذكر ميكيله عماري بأن الامارة هرعت الى طلب النجدة من شقيقاتها من صقلية, الا ان النجدات لم تصلها, ولم يبق في وسعها ان تعتمد على هذا الجانب الذي كان بوسعه ان ينجدها, فأيقنت انها لابد ان تعتمد على نفسها في الدفاع عن مصيرها ان كان ثمة دفاع يجدي. وفي اليوم الثاني من شهر فبراير عام 871 استطاع التحالف الكبير ان يقتحم اسوار (باري) بعد ان انتشرت المجامعة والامراض ونقص العتاد.

 ويذكر المؤرخ (موسكا) بأن الامبراطور لودفيك الثاني الذي كان قد اقسم على قتل كل مسلم (كافر) في المدينة, قد طبق وعده, فبعد المقاومة اليائسة والمعارك الضارية, والاقتحام الكبير للقوات المسيحية, وما ابدته القوات المسلمة في المدينة من بسالة نادرة, باشر الامبراطور بذبح الاسرى رجالا ونساء واطفالا, وتذكر بعض المصادر الايطالية بأنه لم ينج من المسلمين الا السلطان. الا (عماري) و(موسكا) يؤكدان بأنه قتل في المعركة الطاحنة التي حولت المدينة الى خراب كبير.

سقوط الامارة

وسقوط (امارة باري) العربية دثرت المعالم الحضارية الاسلامية بحقد كبير, ولم يبق منها سوى آثار ضئيلة, الا ان بعض الآثار عميقة وتشكل قوة وضاءة في حياة اهل مدينة باري التي تعتبر اليوم العاصمة الاقليمية لمقاطعة بوليا, وهذه القوة الوضاءة تشاهد في تكوينها العنصري والثقافي في تقاليدها ولغتها. يقول المؤرخ (عماري) بأن السكان النصارى في المدينة الذين عاشوا في ظل حكم المسلمين, كانوا احسن حالا من اولئك الذين كانوا تحت حكم من سبق المسلمين الذين لم يكن عددهم يشكل الاكثرية, والمسيحيون كانوا يعتبرون من اهل الذمة.

وكان لهم ما لأهل الذمة في بلاد المسلمين من التزامات وامتيازات, وكان يتم البت في نزاعاتهم الشخصية فيما بينهم وحسب قوانينهم وتشريعاتهم الدينية, واما المنازعات التي يكون فيها احد المسلمين طرفا فانها كانت تخضع لحكم الشرع الاسلامي, وكانوا مؤمنين على ممتلكاتهم وحرية عباداتهم. اما حادثة رهبان (دير كاسان) الشهيرة والتي تذكر المصادر الدينية المسيحية بان السلطان (سودان) اقتحمه وكان يتلذذ كل يوم بذبح خمسمئة شخص ويلهو بالشراب في اباريق الرهبان ويتطيب ببخورهم, فهي تحمل مبالغة كبيرة لأن رهبان (دير كاسان) تولوا الدعوة لمحاربة الوجود الاسلامي في المدينة, واقنعوا الامبراطور لودفيك الثاني بوجوب مهاجمة الوجود الاسلامي وتصفيته مما حمل (سودان) على القيام بحملة تأديبية فاقتحم ديرهم الذي لم يكن احد يجرؤ على دخوله.

عوامل السقوط السريع لهذه (الامارة العربية) متماثلة مع عوامل سقوط كل من صقلية والاندلس, حيث تحتل التمزقات الداخلية بين العرب والبربر التي كانت مسرح الفتنة الدائمة التي قوضت قوة الامارة وعرضتها لخطر اعدائها الذين تجمعوا من كل حدب وصوب على انهاء الحكم العربي, يضاف الى ذلك ان السلطان (سودان) أنغمس في مظاهر الترف والانحلال, كما ان امراء صقلية كانوا يريدون التحكم في الولاة, ويريدون ان يسير اولئك الولاء حسب أهوائهم واغراضهم, وكان الولاة لا يستطيعون في الغالب التوفيق بين رغبات اهل صقلية ورغبات ومطالب القيروان وتنفيذ آرائهم الخاصة, وهذه الصورة تقدم بوضوح صفة التفرق والضعف والانهيار السريع.

 

الأحد19 شوال 1421هـ 14 يناير2001 -العدد53                 البيان الثقفافي