مصطفى عبدالرازق
 محمد سلام جميعان
 

 

الفن الإسلامي والمسيحية العربية

 مصطفى عبدالرازق

البيان الإماراتية   الاثنين 6 شعبان 1422 هـ الموافق 22 اكتوبر 2001

 

 

بيان الكتب: رغم ما قد يبدو من أن الموضوع الذي يتناوله هذا الكتاب متخصصا ويصعب استيعابه من قبل القارئ العادي ـ مثلي وقد يكون مثلك ـ إلا أنه يتناول موضوعا مهما يتطلب على الأقل الإلمام به ومعرفة جوانبه المختلفة. وكما يشير عنوان الكتاب فإن الفكرة الأساسية،

له تتمثل في تناول دور المسيحيين العرب في تكوين الفن الاسلامي وهو دور يري أنه تحقق من خلال كون المسيحيين العرب كانوا حلقة وصل بين الفنين البيزنطي والاسلامي سواء أخذنا في الاعتبار انتماءهم العربي كلغة وغيرها من جوانب أو أخذنا في الاعتبار أنهم كانوا يدرجون ضمن الدولة البيزنطية التي كانوا منضويين تحت لوائها ويخلص المؤلف من ذلك الى نتيجة هامة مؤداها أن الفن الاسلامي ليس نتاجا حسبما هو معروف للفن البيزنطي أو تقليدا له، بمعنى أخر أن العلاقة بين الفنين الاسلامي والبيزنطي لم تكن علاقة أحادية الجانب بين دولتين وحضارتين وانما هي علاقة تفاعل متبادل معتبرا أن سكان سوريا والعراق والآراميين أو العرب المسيحيين من الحرفيين: الصاغة الخطاطين النحاسين الصفارين الخزافين النجارين هم الذين ساهموا في تطوير كل من الفني البيزنطي والاسلامي عبر كشف أسرار مخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنية في مدريد باسبانيا تنطوي على منمنمات هي من صنع فنانين مسيحيين عرب .... بمعني أخر يريد المؤلف شاكر لعيبي الاشارة الى أن المسيحيين العرب لعبوا دور حلقة الوصل بين الفنين الاسلامي والبيزنطي وأن الالتباس بشأن انتمائهم الى العرب أم الرومان كان في جانب منه وراء مقولة التأثير الأحادي الجانب. ومن خلال تناول المخطوطة المشار اليها يتناول المؤلف موضوعه محاولا التدليل عي صحة رؤيته معتبرا أن ذلك بمثابة سباحة ضد التيار ونسفا لما يسميه الوعي التقليدي حول أن الفن الإسلامي تقليد للفن البيزنطي.

بداية يشير المؤلف الى الفن في سوريا كان يعتبر جزءا لا يتجزأ من الفن البيزنطي باعتبارها جزءا خاضعا للهيمنة البيزنطية خصوصا ذلك المنتج علي يد مسيحيين محليين آراميين وعرب بشكل خاص. وهنا يشير الى مايعتبره خطأ مقولة ان مشروع الفن المسيحي ولد في القسطنطينية مؤكدا أن منشأه في سوريا وهو ما يمثل تجاهلا للدورالسوري في تكوين الفن البيزنطي.

ويوضح في اطار حديثه أن المخطوطة المشار اليها تحوي منمنمات كثيرة كلها يمكن نسبتها الى فنانين عرب ومسيحيين عرب وليس الى بيزنطيين وهو مايؤكد المساهمة المحلية في تكوين الفن البيزنطي، فضلا عن كون ذلك مناسبة يعتبرها هامة من أجل اعادة تأهيل واعتبار لرسامين عرب مسيحيين محسوبين لصالح بيزنطة رغم أنهم قد أنتجوا كما يشير تاريخ انتاج المخطوطة في الفترة الخصبة من عمر الحضارة العربية الاسلامية .

وفي عبارة موجزة يقدم شاكر لعيبي فلسفته في تقديم مثل هذا الكتاب بقوله أن هذا البحث هو استمرار لتفكير المؤلف حول الفاعلين المستترين والعناصر المهمشة في تاريخ الثقافة والفن في الشرق الأوسط سواء في تكوين الفن الاسلامي أو في تطوير الفن البيزنطي مضيفا أنه يحاول أن يقدم قراءة لفن المنطقة من وجهة نظر المنسي والمتروك في التاريخ الفني المكتوب لذا لايستهدي البحث بأية خلفية ايديولوجية مضمرة او أية نزعة قومية ضيقة طالما شوهت البحث العلمي وقبله النضال الاجتماعي والسياسي في العالم العربي .

وتنبع حماسة الكاتب لموضوعه انطلاقا من رؤيته ان تاريخ الفن يبقى ـ حتى أجل غير مسمي ـ وجهة نظر اوروبية عميقة وتستحق التأمل والدرس الجاد رغم أنها تنفي من حقل عملها المعنيين من الشعوب الأخرى التي تدرس هي فنها ويعزز وجهة نظره تلك بالاشارة الى أن المعارف هي جزء من السلطة فمن يمتلك السلطة يمكنه تثبيت المعارف التي يريد ومن لا يملكها لن يثبت حتى الحقائق الصارخة المدعومة بالشواهد الدامغة .

وفي تدليله علي فكرته الأساسية يشير الى أن الشواهد الأثرية المكتوبة من طرف فناني الفسيفساء في الكنائس المبنية أثناء الدولة البيزنطية في سوريا ولبنان والأردن تدعم حضورا عربيا مسيحيا صارخا ومن ذلك تسجيل أعمال وقعت من أسماء عربية مثل عبدالله والعربي وهو هنا يشير الى أنه يمكننا على سبيل المثال رؤية مسيحي عربي في شخص مهندس كنيسة القيامة في القدس سنة 326 لأن اسمه هو زنوبيوس المشتق من زنوبيا أو زينب الملكة العربية حاكمة تدمر بل أنه يشير الى أن كنيسة آيا صوفيا رائعة الفن البيزنطي كان قد ابتكرها معماران من شمال سوريا هما انتيموس وترالس.

ومن الواضح أن شاكر لعيبي يبدو غير راض عن الاطار الذي يحكم النظر لتاريخ الفن وهو مايظهر من مجمل كتابه ومن اشارته الى أن النزعة الايديولوجية تحكم النظر لهذا التاريخ حتى أن مؤرخين درسوا وأظهروا خصائص محلية في الفن السوري والفن التدمري في نحت البتراء وفي الفن القبطي تبقى كلمتهم غير مسموعة في اطار تلك الايديولوجية السائدة والتي تمنح التأثيرات الرومانية اليونانية محل الصدارة المطلقة.

ومن هنا يحاول التأكيد على أن بحثه ليس دفاعا عن المسيحيين العرب فهم، حسبما يشير، من النضوج لكي يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم ... وعلى هذا يشير الى أن الحضارة الاسلامية هي حضارة ساهمت بها جميع الديانات والشعوب العناصر وبدلا من أن يقمع الاسلام هذه العناصر فقد استفاد منها وجعلها جزءا لايتجزأ من بنيته لكن الاستفادة ستعني بالنسبة الى البعض خلو الاسلام من أية اصالة الى درجة استعانته الكلية بحضارة الأخرين في حين أنه يعني بالنسبة لنا أن العرب ... اليهود والمسيحيين والمسلمين منهم هم جزء من التاريخ العالمي . وهنا يرى أن من المفارقات في تاريخ المنطقة والتداخلات عناصر ثراء المنطقة التي شهدت ولادة الاسلام وقبله المسيحية وقبلهما اليهودية .

وفي حديثه المفصل حول المخطوطة يشير الى أنها هي (دستور أدوية اليونان المدريدي) المزين بالصور 233 ورقة من الرق تحتوي على نص يوناني يعالج تاريخ أباطرة القسطنطينية للفترة الممتدة من 811 حتى سنة 1057 ميلادية تحتوي على 574 منمنمة موزعة على الأوراق وتزين النص اليوناني.

وهو ينسب المنمنمات الى عربي سوري وهو مايشير اليه معرفته حسبما يذكر لعيبي باللباس العربي التقليدي ومعرفته حق المعرفة بالسحنة العربية البدوية أما اسلوب الرسم فهو يحدده بأنه أسلوب المدرسة البغدادية العباسية . ثم يناقش بعد ذلك مدى مساهمة السوريين في تكوين الفن البيزنطي مشيرا الى ان هذا الأخير تأثر بأعمال المسيحيين الساميين آراميين ونساطرة ويعاقبة وسريانيين وعربا ويصل لعيبي في طرحه حد القول أن الفن البيزنطي قد يكون اختراعا سوريا منتقدا محاولة حصر الارث اليوناني الذي يعتبر المرجع الرئيسي لاوروبا المعاصرة في الحدود الجغرافية الاوروبية مشيرا الى أن السوريين اعتبروا بيزنطيين بسبب انتمائهم الى الكنيسة الشرقية وهو مايعني تجريدهم من إرثهم التاريخي الفني .

ثم يشير الى الأهمية الفنية لدورا (مدينة على ضفاف الفرات ) المسيحية السورية مؤكدا أن التقليل من شأنها لدى المتخصصين يؤكد الاصرار على غياب أية نزعة محلية في رسوم دورا .

ثم يعرض للأقباط مؤكدا أنه ينطبق عليهم نفس ماينطبق على المسيحيين السوريين ففي الأعمال الفنية القبطية لاشيء البتة يفرق من الزاوية الجمالية هذه الأعمال عن أعمال التصوير الاسلامي.

ويتساءل في اطار موضوعه لماذا يدرج المسيحيون العرب عادة في الحضارة العربية الاسلامية مجيبا لأنهم أبناء حضارة واحدة مثلما المسلم والبوذي هم أبناء الحضارة الهندية ... فتاريخ الحضارة الاسلامية حسب قوله يشهد اندغاما مسيحيا في جميع الفعاليات الثقافية والاقتصادية مضيفا أن ماشهدته المسيحية الاوروبية مثلا من عنف دموي بين كاثوليك وبروتستانت لم يغير شيئا من انضواء الجميع في اطار الحضارة الأوروبية . ويوضح في هذا المجال ان اتقان المسيحيين العرب لليونانية والترجمة منها استخدم على الدوام حجة لفصلهم عن محيطهم الثقافي واعتبار انجازهم يونانيا صرفا! ويفصل في هذه الجزئية التي تعتبر الأساس الذي يبني عليه رؤيته مشيرا الى أن هناك التباس في مصطلح بيزنطي يقود الى اعتبار كل المنتوج الفني في سوريا وشمال العراق في الفترة ماقبل الاسلامية ثم منتوج الفنانين والمسلمين وأقرانهم العرب المسيحيين من النتاج التشكيلي البيزنطي وهو مايراه تصورا تبسيطيا وغير تاريخي غير أنه للاسف هو السائد في تاريخ الفن حتى من مؤرخا كبيرا للفن الاسلامي مثل اتنجهاوزن يشدد على أن الفن البيزنطي قد أثر بقوة في تصوير المخطوطات الاسلامية في القرن 13 وأن مخطوطة مقامات الحريري المنجزة سنة 1222 تصدمنا بشدة بسبب الظهور الساطع لما يسميه المؤرخ بوشتال بالملامح الهيلينية فيها! ويواصل لعيبي دفاعه عن تصوره فيشير الى أن المنجز السوري في مجال العمارة والفن يرقي الى ماقبل الحقبة البيزنطية كما أن تفاعل سوريا مع اليونان وروما هو أمر لا يمكن هو الأخر انكاره سوى أن فن سوريا يبقى يحتفظ بخصائص ترقى الى العصور السامية القديمة وعلى ذلك يقول أن الفن الديني المسيحي كان نوعا من قرابة بين الثقافات الاغريقية والرومانية والشرقية وهو ما يخلص منه الى أن الحضور الشرقي السوري هو من البديهيات التي لايشك باثرها في انبثاق فن بيزنطة . أما بالنسبة لشمال العراق فيشير الى أنه اذا ماعزا المؤرخون مجموعة كبيرة من المنمنمات الاسلامية الى شمال العراق أى الى مدينة الموصل فلأن الأمر يمثل دلالة عميقة وبعدا تاريخيا غير دلالة التأثر ببيزنطة ألا وهو وجود تقاليد تاريخية محلية للعمل الفني والحرفي واستمرارها عبر التاريخ خصوصا عبر الكنيسة النسطورية فهذه الأخيرة ساهمت بفعالية في ازدهار فن ديني معاصر مؤازر ومواز للبيزنطية.

ثم يوضح أن مدرسة الموصل الفنية كانت حلقة وصل بين الحقبة الأشورية واليونان ثم بينها وبين الاسلام وهنا يؤكد على ماسبق الاشارة اليه من استنتاج أن مسيحيي الموصل والشرق السامي كله لم يكونوا مجرد مقلدين للفن البيزنطي اذا لم يكونوا هم أنفسهم من ساهموا في تكوينه مدمجين العناصر القادمة من إرثهم المحلي مع العناصر القادمة مع القوي السياسية المسيطرة الرومانية واليونانية وضمن استعراضه يشير الى أن إحدى المنمنمات والتي يظهر فيها الخليفة المأمون وهو يهم باطلاق سراح الأسرى المسيحيين تعبر عن معرفة عميقة بالعرب وطبائعهم وازيائهم . كما يشير الى أن حرفيي الفن السوريين هم أول من أدخل صناعة الموزاييك لتزيين العاصمة الثقافية في شمال ايطاليا رافينا التي يصف الباحث دالتون مدرستها المعمارية بوصفها نصف سورية ويضيف أن أصداء تأثير الحرفيين والمعماريين السوريين كانت ترن في فينيسيا وكانت هذه المدينة تعيش بسبب علاقاتها مع سوريا الإرث الفني السوري حتى العصور الاسلامية المتأخرة. ثم يعرض لتأثير الكنيسة النسطورية في القن الاسلامي مشيرا الى أن رجالها أثروا فيه بعمق منتهيا الى أن المشكلة الأساسية، والتي حاول حلها من خلال الكتاب، هي أن المسيحيين المشرقيين عموما في سوريا والعراق جري النظر اليهم كما لو أنهم لاينتمون الى الشرق ولا الى الغرب في حين ان الواقع يقرر أنهم جزء من الاطار الحضاري الاسلامي أثروا فيه وتأثروا به في ذات الوقت فإنهم كانوا ينتمون لنفس الديانة التي تدين بها الحضارة البيزنطية وهو ماساهم في نفس عملية التأثير المتبادل .. بمعنى أخر وهو ماأراده المؤلف أن المسيحيين العرب كانوا بمثابة حلقة وصل بين الفن الاسلامي والفن البيزنطي.. وأن النظر الى دورهم من أية زاوية يشير الى محورية تأثيرهم وتأثرهم المتبادل .

 

الايقونة والرسم الديني المسيحي العربي في الفنون الاسلامية

 محمد سلام جميعان

الأحد 25 أبريل 2004م , 5 ربيع الأول 1425هـ          Sunday - April 25, 2004 الرأي الأردنية

 

 يتجاوز التشويه والخداع المدونات التاريخية، ويتعداها ليصل الى الرسوم والزخارف والمنمنمات الفنية. وهذا ما يجعل المسألة الثقافية والمعرفية اكثر تعقيدا وأكثر تعمية أمام الباحثين في الوضعيات الديمغرافية واللغوية والبشرية للمجتمعات الانسانية. ربما من هنا تتوازى الانتصارات السياسية والعسكرية مع الفنون في ان كليهما يسعى الى الاهداف ذاتها في السيطرة والتأثير، ومسخ الذات حتى لا تغدو قادرة على المعالجة الفنية والفحص التاريخي لما يتوافر لديها من مهارات ومعارف وعقائد ومذهبيات، أتاح لها الزمان ان تتجاور في نسق تصالحي، يسهم فيه كل كائن بما يدفع الحراك الاجتماعي والثقافي نحو تأسيس ابعاد حضارية لظاهرة ما.ان كثيرا من المدونات والقراءات قد وضعت الفن الاسلامي في حالة خصومة مع المسيحية العربية، او على الاقل، جردت المسيحيين من دورهم في تكوين الفن الاسلامي، او ما تم التواطؤ عليه بهذه التسمية. ويأتي هذا التجريد لصالح تجيير التجربة لصالح بيزنطة، تحت حجج وذرائع وتعلّات تبدو في ظاهرها قابلة للقناعة والتسليم بالنتائج التي خلصت اليها، وهكذا تجلى أمام القارىء غير المتخصص، وربما انسحب هذا الحكم على بعض المتخصصين الذين يستنيمون للاستنتاجات الغربية، اما الباحث الفاحص، فان ادواته النقدية توفر له امكانية وضع فرضيات وفحصها في ضوء الوثائق والحقائق التاريخية، وبالتالي الخروج باستنتاجات مفارقة لما هو شائع في الادبيات المتداولة.وأيا كانت وجهة هذا المتخصص سواء الاعلاء من شأن الحقيقة التاريخية انتصارا للصواب او اعادة الاعتبار للذوات والشخصيات التي شكلت البنية المعرفية والذائقة الفنية، فان كلا الأمرين مما يوفر يقينا لكل قارىء وباحث في الوقوف على صدقية الأشياء ونصيب كل فريق في تشكيل عناصر الثقافة المحلية التي تؤسس بعمقها الشمولي لحضارة كونية كبرى.وما بين العقلانية والتفوق العنصري يفصل خيط دقيق. هذا الخيط أمسك به الباحث والفنان شاكر لعيبي في كتابه «الفن الاسلامي والمسيحية العربية» وقد وطأ في مقدمته للحديث عن هذه العلاقة - التي ينبه الى درجة معقوليتها - بتوجيه النظر الى القضايا ذات الشأن التي ينبغي لمن يقترب من تفسير هذه العلاقة، ان يلتفت اليها، ومنها، الوقوف على تاريخ الفترة الواقعة قبل الاسلام، هذه الفترة المجهولة فنيا لغالبية القراء العرب، يضاف الى هذا الغموض الشديد لدى القراء اليوم عن الدولة البيزنطية، ودور السكان الاصليين الذين خضعوا لنظام الحكم الساساني والبيزنطي، مسلطا الضوء على النتاج الاقتصادي والثقافي الذي انتجه هؤلاء السكان. ويشفع ذلك بوضع خطواته المنهجية التي انطلقت من تحليل فرضيات المتخصص الاسباني الذي علق على مخطوطة مدريد، مشيرا ان اعترافه الخجول - المتخصص الاسباني - بوجود عناصر عربية، الامر الذي مكن لعيبي من تعمق العناصر التاريخية المتعلقة في نهاية المطاف بالمسيحيين العرب المحسوبين ثقافيا عى بيزنطة. ولعيبي ينطلق في تأكيد فرضياته هذه من تحليل العناصر البنائية والزخرفية والاسلابية في المنمنمات التي بدت له انها من انجاز فنانين مسيحيين عرب. ويأتي بحثه كما يقول (استمرارا لتفكير المؤلف حول الفاعلين المستترين والعناصر المهمشة في تاريخ الثقافة والفن في الشرق الاوسط، سواء في تكوين الفن الاسلامي او في تطوير الفن البيزنطي) ص 14 وهو اذ يسعى الى ذلك يرد اسماء الفنانين الى اصولها، الامر الذي يذكرنا بموسوعة جواد عي في عروبة العلماء المنسوبين. يقول لعيبي (وعلى سبيل المثال يمكننا رؤية مسيحي عربي في شخص مهندس كنيسة القيامة في القدس سنة 326م، لان اسمة (زنوبيوس) المشتق من زنوبيا او زينب الملكة العربية حاكمة تدمر. اننا امام مهندس اسمه «الزينبي» او (الزبائي) لو شئنا).واذا كان فوكو قد اكد ان المعارف جزء من السلطة، فان الباحث لعيبي يملك سلطة معرفية فنية اتاحت له تثبيت المعارف التي يدعمها هنا بالحقائق والشواهد التي تضع الحضارات في اطارها الذي انوجدت فيه وهو هنا اطار التاريخ السامي. وقد يكون في جمعه العناصر الفنية واسنادها الى فنانين يردهم الى اصولهم المسيحية من الوجهة الدينية المحضة، ما يؤكد سلطته المعرفية، التي ربما تكون موضع مؤاخدة عند الآخرين. ولكن هذه النظرة سرعان ما تنمحي اذا ما وقف القارىء على المنهج المتكام الذي اخضع الباحث له نفسه، وتوامه المزاوجة بين ثلاث حقائق هي: الحقيقة التاريخية، والفنية، واللغوية، وهذا ما يسعفه في الوصول الى خلخلة السائد الذي انبنى على تفسير الظاهرة الفنية وفق رؤية دينية، ليس أقلها وسم الفن الاسلامي بانه فن ديني، وهو ما ينفيه لعيبي، لان مصطلح «فن ديني» مضلل، كون الاسلام على الصعيد الفني لم يكن مهموما الا بايضاح ولا بشرح ولا بالتبشير بفكرة دينية، حتى وان حضر تمثيله للعالم في مجالات متنوعة، لكنها قطعا ليست دينية، وهو الامر الذي تشهد له الرسوم التوضيحية في علوم النبات والميكانيك والرسوم الجنسية الفاضحة التي أخبر عنها (الكوكباني) و(جلال الدين السيوطي). وبحسب النتيجة التي خلص اليها لعيبي فان هذه الأنماط الفنية التجريدية لا تعبر عن تجلّ للمقدس وتسام بالدنيوي الى مصاف الروحاني (وانما يضع الفن الاسلامي في مصاف فنون الشرق القديم المهمومة بالتعبير عن المقدس وليس عن الطبيعي او الواقعي).وهو بهذا يشير الى الاشكالات المتعددة في الرسم العربي الاسلامي، ومنها التعارض النظري بين تحريم تمثيل وتصوير الكائنات الحيّة وبين الانجاز المتحقق والمعروف الذي أوقع الناظرين في وهم اعتقاد التحريم الفقهي، الذي بدوره (ألغى نهائيا أية امكانية جادة لتطوير فن الرسم التشخيصي في العالم الاسلامي حتى القرن الرابع عشر الميلادي).وفي هذا يسوق اقتباسات لابن سينا واخوان الصفا والفارابي والجرجاني وغيرهم الذين اولوا المقارنة بين الاعمال التشكيلية والاعمال الشعرية، الاهتمام الذي ابرز امكانية رسم الكائنات الحية بوصفها حقيقة اجتماعية وفنية واقعة بالرغم من جميع الاعتراضات المتشددة التي يمكن اللقاء بها في الادبيات الاسلامية. ويتمثل المسكوت عنه هنا في ان ثمة اعمالاً منتجة في المنطقة الاسلامية تمت على يد فنانين عرب من الاديان الاخرى، لم يجر منحها العناية التي تستحق، ولا ادراجها ضمن ارث الفن الاسلامي، بل التمويه على اصولها الحقيقية.ويلتمس لعيبي ببرهنة على هذه الحقيقة التحليل الاسلوبي والوظيفي لمخطوطة كبيرة هي (دستور ادوية اليونان المدريدي المزين بالصور) ويرى ان بعضها انجر على ايدي فنانين عرب مسيحيين في الغالب، وابرز حججه في ذا الجانب (ان ظهور الاسلام كحقيقة نهائية في المنطقة يفسر لنا من جهة اخرى ان بعض منمنمات هذه المخطوطة ترسم الجانبين البيزنطي والاسلامي على قدم المساواة التامة) وهو ما يفهمه من كلام الواقدي في كتابه فتوح الشام، ما جعله يلفت الانتباه - في سبيل التسليم بهذه الحقيقة - الى ان اسلوب اللوحات المسمى بمدرسة بغداد او المدرسة الرافيدينية المزدهرة في العصر العباسي كان قد امتد الى شمال العراق وسوريا من بين بلدان اخرى، تمثلت فيها آثار العلاقات البيزنطية الاسلامية، وما تركنا من تعالقات على الاشكال الفنية يتم نفيها في خطاب السلطة السياسية المعاصرة ونفي التأثير العربي المسيحي في منمنمات تلك الحقبة. والتي اغفل المعلق الاسباني الاشارة اليها رغم وضوحها في اللوحات المشار اليها في مخطوطة المدريدي.يقول لعيبي «نذكر القراء الكرام بما نشرته الصحف الاسبانية ثم العربية، قبل بعض الوقت، عن عدم ادراج عمل لروائي اسباني مهم ضمن اعماله الكاملة بسبب مديحها للحقبة الاسلامية في اسبانيا. منذ سقوط غرناطة وحتى سنوات السبعينات، كان ثمة تقليل من شأن الثقافة العربية الاسلامية في الوعي الاسباني، بسبب رغبة الاسبان الحضور القوي في المشروع الامبريالي الاوروبي المتعالي على الشعوب الاخرى بخاصة العرب منها. هذا بالضبط ما يفسر عدم توغل الشارح في دلالة (العناصر العربية) البينة والتي لم يكن بامكانه رغم ذلك القفز عليها) وما لمسه اباحث هنا يحيله الى الاشارة الى دور الثقافة العربية الاسلامية في جزيرة صيقلية، وتحليل التصاوير التي انجزتها مدينة بالميرو.ان احالات لعيبي على نصوص تاريخية تفصح عن استغراقه في تقري فرضياته بشأن منمنمات هذه المخطوطة الاسبانية التي اخضعها الى حقائق التاريخ الفني، هذا التاريخ الذي يكشف عن العلاقة الوثيقة بين ما هو قومي وما هو ديني وجدلية العلاقة بينهما فيما يخص الفن والمذهبيات الدينية، فيقف على (الايقونات) ويكشف عن الرسم الديني المسيحي العربي في المصادر العربية، فينقل نصا طويلا عن ابن ابي اصيبعة، يخلص بعده الى استنتاجات تربط بين ما انتجته فرقة المجسمة الاسلامية والمذهب الارثوذكسي المسيحي على صعيدي تجسيد الذات الالهية عند الاولى وتجسيد مريم العذراء عند الثانية، هذا التجسيد الذي استند الى شرعية دينية من الدولة العباسية التي احترمت هذه الايقونات، واتاحت حرية التعبير في تجسيدها، والتأليف في فنونها، على نحو ما اتاحت لأبي قرة اسقف حران تكريس كتاب كامل عن شرعية الايقونات وهو المعنون بـ (ميمر في اكرام الايقونات) حتى ان الامبراطور البيزنطي رومانوس وضع بين شروط الصلح مع العرب نقل ايقونة الرها الى القسطنطينية، وتم ذلك عام 944، واقيم عيد خاص لهذا الحدث في الكنيسة البيزنطية. وفي هذا يؤكد التواشج بين معطيات التجسيد الفني كما تجلى عند عرب الجاهلية في وثنيتهم التعبدية للات والعزى ومناد وودّ وشمس.. وفقا لاشارة الازرخي في تاريخ مكة وما ذكره المقدسي في احسن التقاسيم من أنه رأى على ثلاثة فراسخ من مدينة دبيل (ديراً ابيض من حجر منقور مثل قلنسوة فيه صورة مريم..).وما تدل عليه الاثار الفنية (قرية)/(القريات) يؤكد ايضا وجود علاقة ذات ملامح واضحة بين مسيحيي غرب الجزيرة العربية مع الحضارات اليونانية والرومانية المجاورة وبخاصة تقاليد (دورا) الفنية في منطقة سوريا وشمال العراق. فالوضعية التاريخية والجغرافية توحد بين التقاليد العربية في الفن، والفن البيزنطي، الذي انسحبت تأثيراته حتى طالت الكنيسة القبطية، كما توحي به رسومات الايقونات الواردة في (الابوكريفا) وهي الكتب الدينية غير المعترف بها، لكنها على الاقل، بالرغم الجدل الدائر حولها تعبر عن التمثيلات البصرية الدينية من نحو وضع الابهام على الاصبع الصغير وهي اشارة المباركة لدى القبط، ما يجعل للاقباط وضعية في داخل الثقافة العربية في اطار التبادل الدائم والاغناء الذي ساهم فيه جميع الحرفيين والفنانين المصريين الذين انتجوا اعمالا من غير ان يعيروا بالا الى ديانات المستفيدين من اعمالهم، لان التنافس السلمي كان حقيقة قارة في الوجدانات.وهنا يثبت لعيبي استخلاصا مهما يؤكد وحدة الرؤية الفنية والاسلوبية فيما انتجته الروح الدينية والقومية من فنون فيرى ان (صيرورة العربية كلغة للثقافة قد (عرّب) الاقباط في النهاية مثلما حصل بالنسبة للآراميين في سوريا والعراق، وكما حصل للبربر في الشمال الافريقي. الفارق الوحيد في الحقيقة بين (اقباط) و(عرب) هي الديانة لوحدها. لهذا الزمر اثر كبير في تفهم (الوحدة الاسلوبية) التي تجمع اعمال الاقباط الفنية ونظائرها المسلمة).بعد هذا كله، يبدو السؤال التالي مشروعا وملحا في آن، والسؤال هو: لماذا يدرج المسيحيون العرب عادة في الحضارة العربية الاسلامية؟ان سبع صفحات من الاشارة والتحليل، تعد كافية في التعامل مع هذه المسألة التي تبدو حضارية من منظور لعيبي. فالتماثلات التاريخية والجغرافية والانسانية تسمح بانضواء الجميع، مسيحيين ومسلمين عربا في اطار ثقافة واحدة ذات تشعبات وظلال. فمن الجهة اللغوية هم ينتمون الى المجموعة اللغوية نفسها (السامية) فضلا عن اندراجهم في منظومة اجتماعية واحدة على مستوى التراتب العائلي والقبلي والتنظيم الاجتماعي. وقد لعبت اوامر الفقهاء المتشددين دورها في تبذير النقاشات بين المنطقي ابي بشر متى المسيحي العرافي وبعض الفقهاء المسلمين في حضرة المتوكل. وعندما يتعلق الامر بالفن الاسلامي - والتسمية هنا مجازية، فاننا (نلاحظ قرابة بين رسوم الاناجيل القبطية العربية وبين تصاوير الايقونات الدينية الشامية التي يمكننا رؤية بعضها في المجموعة المعروفة بمجموعة (ابي عضل) التي عرضت في متحف الفن والتاريخ عام 1997، وان ثلاثين معا علاقة ما بفن الرسم المنتج في المنطقة العربية المسمى بالفن الاسلامي).وللتدليل على هذا يستقرىء لعيبي اللوحات والوسوم، التي قادته الى حقيقة ان (تحديد ابعاد السطح التشكيلي باشرطة هو واحد من المبادىء الداخلية للفن الاسلامي، وان استخدام شرائط حمر وخضر يذكرنا بتلك الأماكن المكرسة للكتابات على السجاد او بالديكور المضلع الشكل في تجليدات الكتب). كما نلاحظ (ان مقرنصات كنيسة القديس جرجس للروم الارثوذكس في حماة وان الزخارف الهندسية الموجودة على الفاصل الايقوني المعمول بالرخام في دير المخلص للروم الكاثوليك مستعارة من الفن الاسلامي).ان جلاء حقيقة عنوان الكتاب (الفن الاسلامي والمسيحية العربية) تطلب من لعيبي، ان يتماس مع ذكر المساهمة الفاعلة للسوريين في نمو الفن البيزنطي، ومساهمة الكنيسة النسطورية في تكوين الفن الساساني الذي بحث في اصله ومقوماته، وعلق على لوحات منه، ليفضي بالقول الى وجود مجتمع متعدد الديانات كان منشغلا بانتاج القطع الفنية بعيدا عن هاجس الاختلاف الديني ومقاربا للعمليات الثقافية التي تنتجها وحدة المعرفة ووحدة الرؤية الفنية، فقد ظلت ورشات العمل الفنية المسيحية تنتج الايقونات للغرض الديني المسيحي والاصطرلابات للغرض الديني الاسلامي، لان الغاية النهائية لانتاج هذه القطع الفنية بغرض الاستخدام الدنيوي الموجه لسوق متعدد الديانات.من هنا نسمح لانفسنا بالقول بان خلط المعرفة العلمية بالنقاشات اللاهونية كان يتم في اطار من التسامح الديني العالي (فقد امكننا ان نعدد في ورشة عباسية لصناعة الاصطرلابات حضور جميع الديانات).ويذكر ابن النديم المتوفى سنة 1000 ميلادية اسماء بعض الصناع وهم خليط من الصائبة الحرانيين والمسيحيين والمسلمين. وكعلاقة على هذا التسامح الديني، ينقل لعيبي ما قاله د. عفيف بهنسي عن وجود حوض كبير يحمل اسم ولقب الملك ايوب سلطان مصر والشام، حزين بمشاهد مأخوذة من الانجيل. فالتبادل التجاري واسع النطاق بين العالم الاسلامي، والغرب المسيحي دفع بعض الفنانين المسلمين الى تزيين اعمالهم بمشاهد من الانجيل معروفة من طرف المشترين المسيحيين.عمليا من الضرورة الاقرار بان المسيحيين العرب دفعوا باتجاه التمثيل بالصورة المرئية عبر جهد كان يسعى الى الاستفادة من التصوير في ترسيخ القناعات الدينية لدى اتباع الكنيسة، هذا الجهد الذي ساهم بشكل غير مباشر في توطين الصورة في الوعي الثقافي الذي يشكلون هم جزءا منه في بلاد ظلت مفتوحة على التسامح الديني ليس في مستوى حراك الفنون فحسب بل في اعتقادات الدين وشعائره.