Shaker Laibi

انطولوجيا البيت الشعري الواحد
أو
البيت الشاهد والقصيد الغائب

 

شاكر لعـيـبـي

2000

مـقـــدمـة 

ما هي أهمية البيت الشعري الكلاسيكي الواحد ؟

1-1

كلمة عن وحدة البيت الفرد

يمتلك البيت العربي الكلاسيكي بناءً داخلياً يؤهله لأن يكون كياناً مستقلاً ومنفرداً بنفسه. إذا كانت القصيدة هي المنـزل الذي يحتوي على عدة بيوت (والبيت في العربية هو الحجرة وليس الدار كلها) فإن كثيراً من الأبيات الشعرية العربية هي منازل مكتملة البنيان والهندسة

إن وحدة البيت الشعري الكلاسيكي واكتماله هو ما جعل من بعض الأبيات الشعرية مراجع أساسية للحكمة المقالة في بنيان لغوي محكم وشبه كامل. البيت هو وحدة جزئية تعمِّر وحدة القصيدة الكلية

البيت العربي هذا يماثل، عبر اتساقه الوزني وموسيقاه الصارمة ذات البداية والنهاية الواضحتين الموقعتين، خلية من خلايا النحل دقيقة البنية المشغولة، مع ذلك، عبر آلاف اللمسات والحركات والتوقعات والغرائز التي تضيفها إليها عمل النحلات العاملات الأخريات

تمر وحدة القصيدة كذلك، على ما يبدو، عبر وحدة البيت. ثمة وحدات مكتفية بنفسها، بل متعالية على نصها وشديدة الخصوبة. إنها متفردة ومنفردة ويمكن استلالها من النص وتقديمها على حدة. فردانيتها تشابه، الان، الذات القبلية التي رغم انتمائها العضوي واندغامها، روحياً ومنفعياً وإنسانياً، بالقبيلة، فأنها تتبقى، في ذات اللحظة، تعلن فرديتها وذاتيتها المتضخمة مرات ومرات. قال الممزق العبدي

 1 الأصمعيات، إخيار الأصمعي أبي سعيد عبد الملك بن قُريب بن عبد الملك 122-216، تحقيق وشرح أحمد محم شاكر وعبد السلام محمد هارون، الطبعة الخامسة، بيروت-لبنان                من دون ذكر لا للسنة ولا لدار النشر، ص 166. ويتهم وينجد ويعمن ويعرق أي يأتي تهامة ونجد وعمان والعراق. مستحقبي الحرب أي حاملي عبئها كأنهم يحملونها في حقيبة.

 2 الأصمعيات ص241

1فإن يُتْهموا أُنجِدْ خلافاً عليهمُ وإن يُعْمنِوا مستحقبي الحرب أعرِقُ

وقال سوَّار بن المضرَّب 

2أعاذلتيَّ في سلمى دَعَاني فإني لا أطاوع من نـهاني

وعلى الرغم من الوحدة الظاهرية للعائلة والعشيرة الذي يمنحنا، من الناحية الرمزية، نصاً اجتماعياً متسقاً بل منمطاً، فان تضخم الذات المارقة يمنحنا البيت الشعري الواحد الوحيد في سياق ذاك النص المتسق متعدد الأبيات والأصوات. وإذن، فالتناقض بين العشيرة الموحـِّدة للذوات والذات المنشقة عنها هو التناقض ذاته بين كلية القصيدة ووحدة البيت، بين شمولية القبيلة وانفتاحها على الفضاء وتقوقع الذات على نفسها، بين كلية النص وانسراباته وخصوصيات البيت وإشاراته المخصوصة

 3 ج6 ص4469

 4 الأصمعيات، 64           

2-1

كلمة عن السياق

وبعبارة أخرى فما بين وحدة القصيدة وانشقاق البيت ثمة علاقة داخلية عميقة يتوجب التعرّف عليها. علينا قبل ذلك أن نعيد منح البيت الشعري العربي مقاماً آخر وشأناً جديداً، مُنحا له، في ظني، طيلة التاريخ الأدبي ولكن مداورة عبر التشديد على وحدة النظم. فالنظم يتكون من وحدات منفردة وقطع وفسيفساءات ولبنات بناء متلاحمة ومتداخلة الواحدة في داخل الأخرى ومنها يتشكل النظام العام للنص. النظم، حسب3 (لسان العرب) هو : "التأليف... ونظمت اللؤلؤ أي جمعته في السلك، والتنظيم مثله، ومنه نظمتُ الشعر، ونَظمَ الأمر على المَثل، وكل شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته" لكأن الحديث يجري، فحسب أو بالدرجة الأولى، عن مثال ووحدة يسمان كلاماً شعرياً متفرق الأجزاء لكن ذو قوانين تمنعه من الانتثار والانفراط، واضعين لهذا المنظوم قانونين (نظامين): الوزن والقافية،كالسلك بالنسبة لقلادة تتكون من خرز منفصلة متعددة

إننا نظرياً من أنصار كلية النص لكننا نرى عملياً الى جزئية البيت الشعري الواحد الذي يشكل بدوره كلية مكتفية بنفسها شاملة، جامعة مانعة، إنه وحدة في الوحدة

تقع فكرتنا الجوهرية في التفاعل بين (وحدة القصيدة) و(وحدة البيت)، بمعنى أننا لا يمكن دوماً أن نستخرج أبياتاً مكتفية بذاتها تماماً، رغم اكتمالها الشكلاني، من دون السياق العام للنص. السياق هو، في نهاية المطاف، من يمنح أبياتاً منفردة، مهمة للغاية، قيمها الفنية كما في الكثير من شعر عمر بن أبي ربيعة القصصي وكما في المثال التالي من قصيدة لمالك بن حريم الهمداني 

فإن يك شاب الرأس مني فإنني إبيتُ على نفسي مناقبَ اربعا

فواحدةٌ : أن لا أبيتَ بغرَّةٍ إذا ما سوام الحيَّ حولي تضوَّعا

وثانيةٌ : أن لا أصمِّتَ كلبنا إذا نزل الأضياف حِرصاً لنُودَعا

وثالثةٌ : أن لا تقذّعَ جارتي إذا كان جار القوم فيهم مقذَّعا

 4 ورابعةٌ : أن لا أحجِّلَ قِدْرَنا على لحمها حين الشتاءِ لنشبعا

فأن نقرأ بيتاً واحداً لوحدة فإننا نلغيه وإن نقرأه في النص فإننا نحييه ونصعِّده ونرى الى معناه. هذا التفاعل بين السياق والوحدة الشكلانية للبيت هو جدل الفكرة أو الاستعارة في سياقها الجغرافي والإنساني والتاريخي. النص من دون سياق سيبدو وكأنه نص مقدس ليس من طاقة الكائن الفاني

لنقل أن أهم عنصر يشدُّ البيت إلى نفسه ويجعله، مرات كثيرة، يكتفي بنفسه هو الوزن العربي. هذا البناء من (شطر) و(عجز) لا يفعل سوى ترديد بنية إيقاعية واحدة وإعادتها بالتمام والكمال، بعدد المتحركات والسواكن، معطياً بالطبع بعض الهامش للزحافات التي لا تحيد بدورها عن التردد الإيقاعي للتفعيلة الأصلية. متفاعلن قد يتحول الى مستفعلن لكنه يظل في إطار النغمية عينها

وإذن فإن الإكتمال الداخلي للبيت يجيء كذلك من انضباطه بعدد التفعيلات. الجملة الموسيقية موحـِّدَةٌ لأنها موحـَّدَةٌ أصلاً. والبيت لذا مكتمل نسبياً

يمتلك البيت الواحد المزيد من القوة أثناء السياق، ذلك أن المعنى العام للقصيدة هو ما يفجِّر ثراء البيت الواحد المزيد من التفجر، لجهة معناه ولكن وبشكل خاص لجهة انسيابه الموسيقي. فقافيته تستمد رنينها وتوقيعاتها وضربتها النهائية من رنين الروي الذي تسبح في موسيقاه القصيدة كلها. خذ هذا البيت المؤثر الوارد في قصيدة لسوّار بن المضرَّب

رمى به بلدٌ إلى بلدٍ فأضحى بظمأى الريح خاشعة القيانِ

وقد قاله في حبيبته. منذ البدء تكون قصة الشاعر العاشق وما جرى له (أي السياق العام للنص كله هنا) مهمة بل حاسمة في عملية التذوق الجمالي للقصيدة برمتها: لقد هرب من الحجاج الثقفي، على ما يذكر المبرد، وسمي المضرَّب لأنه شبب بامرأة فحلف أخوها ليضربنه بالسيف مائة ضربة، فضربه فغشي عليه، ويبدو انه قال القصيدة التي تتضمن بيتنا بعد هروبه من الحجاج. القصيدة هي كذلك حنين إلى الوطن، وطن الحبيبة وهو عُمان

أحب عمان من حبي سليمى وما طِيِّي بحُي قرى عمانِ

  5 علاقة عاشق وهوى متاحاً فما أنا والهوى متدانيانِ

منذ اللحظة نتوقف أمام أهمية القافية النونية هنا التي هي غالباً موقَّعة وذات شحنات نفسية قوية. ورغم ذلك فالبيت : "رمى به بلد الى بلد" يمكن أن يُقرأ لوحده لأنه يمتلك اكتمال حكمته منفرداً، مثل بيته الآخر في قصيدة أخرى

الأصمعيات، ص240

ويستشهد ابن أبي الحديد ببيت لهذا الشاعر في (شرح النهج- تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- دار إحياء الكتب العربية،ج3-4 ط2 سنة 1965). وبيذكرنا المحقق بقصيدة أخرى يخاطب فيها الحجاج بن يوسف:

فإن كان لا يُرضيك حتى تردَّني الى قّطـَريٍ ما أخالك راضيا

إذا جاوزتْ درب المجيزين ناقتي فباستْ أبي الحجاج لما ثنانيا

وهي تتضمن مباشرة بعد ذلك البيت المسْتشهَد به في ثنايا نصنا أعلاه.

 7 الأصمعيات، ص152

8 بدلاً من الضبع يوجد في نص المنخل العّرْج أي الضبع والبيت في (الأصمعيات) كذلك.

 

6 أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميمٌ والفلاة ورائيا

3-1

الحكمة والمعنى يقعان في البيت الواحد

تتقدم هذه الأبيات المفردة وكأن الشاعر يرمي لنا عبرها، بين فترة وأخرى، (خلاصة) عميقة، حكمة ما ترد كخلاصة لسياق شعري، عاطفي أو وصفي أو حماسي أو هجائي أو غزلي. سيقول لنا ضابيء بن الحارث فجأة هذا البيت المنفرد 

وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ويخطيء في الحدس الفتى ويصيبُ

في مرات ليست بالنادرة يرد بيتان يتيمان، متعاقبان، يمكن أن يُقرءا كلاً على حدة. فمن قصيدة لعدي بن رعلاء الغساني ثمة مثال لذلك 

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياءِ

  7 إنما الميت من يعيش ذليلاً سيئاً باله قليل الرجاءِ

يبدو البيت الثاني وكأنه تعليق على الأول واستطراد ولكنه، رغم ذلك، بيت مكتف بنفسه. والأمثلة جد كثيرة وهي أشدّ وضوحاً لدى الشعراء الكبار الذين تمتلك نصوصهم، في آن واحد، وحدة خلاقة مبنية على الاستعارات وأبيات قوية تحمل هذه الاستعارات وقد تكتفي بنفسها وبطاقاتها على البوح. أما مثال بيتي أبو العلاء المعري المعروفين فدالان هاهنا

ليلتي هذه عروس من الزنـ ــج عليها قلائد من جمانِ

هرب النوم عن جفوني فيها هرب الأمن عن فؤاد الجبانِ

وبالطبع فإننا سنختار البيت الأول في أنطولوجيتنا رغم قوة البيت التالي، ذلك ان هذا التالي يشكل نوعاً من الإستطراد ومن الشرح على الأول

4-1

الإستعارةفي البحث عن الاستعارة

إن ما يشغلنا إذن هو قدرة البيت على التصوير، هي طاقته على نشر المتخيـَّل وعلى خلق الاستعارة. هنا تبدو إستعارة الليلة المشبهة بعروس من الزنج وهي تفوح برائحة مخيال جد خصب

ثمة بيتان أخريان يمثلان لما نقول. بيتان قوييان يشدان بعضهما ويطلعان من بعضهما رغم قوة إحداهما التي لا يرقى الشك إليها. فقد قال أبو تمام في مغنية تغني بالفارسية 

ولم أفهم معانيها ولكن ورتْ كبدي فلم أجهل شجاها

فبت كأني أعمى معنّى بـحُبِّ الغانيات ولا يراهـا

البيت الثاني هو االأهم في تقديرنا بسبب قدرته على أن يقول ويعمَّم مشكلة الحب، أيما حب. في حين أن البيت الأول، فانه يظل يشتغل، رغم أهميته في تطوير وتصعيد الثاني، في أرض مشاعة ومألوفة تصف حرقة الكبد والشجن..إلخ من دون مسحة خاصة به. ثمة أمثلة قليلة لبيتين متعاقبين يمكن اختيار أحدهما منفرداً أو اختيارهما كليهما متلاحمين مع بعضها، مثل بيتي أبي تمام نفسه في الحسود 

إصبرْ على مضض الحسو د فإن صبرك قاتلهْ

النارُ تـأكل بـعضـها إن لم تجد ما تأكلهْ

يمكننا استلال الأول لهذه الأنطولوجيا كما الثاني، سيان. فالبيتان جميلان في ظننا، الأول بوح حكمي والثاني استعارة صافية تصور روح الحسود المريرة

5-1

قراءة تجريبية بحثاً عن الاستعارة

إننا نبحث عن الاستعارة.

ومن أجل اقتناص هذا البيت الكامل المكتمل، فقد حاولنا، القراءة التجريبية التالية: لقد افترضنا أن استعارة باهرة ستجلب الانتباه فوراً أياً كان موقع البيت في القصيدة. ماذا علينا، لكي لا نشوه ذهننا بتراكمات من الأبيات غير الضرورية، لو أننا قرأنا القصيدة من نهايتها صعودا إلى مطلعها

لقد تبدى لنا الخطل الفاحش لهذه القراءة وبدا لنا جلياً أن لا معنى للنص أثناء قراءة من ذاك القبيل، بل لا معنى للقصيدة كلياً وجزئياً. هنا تتضح بأجلى الأشكال الوحدة الفعلية للقصيدة الكلاسيكية العربية بحيث يبدو عندما تقرأ بالمقلوب كما فعلنا وكأنك أمام بنيان متهدم، متحطم وبلا منطق داخلي. منطق القصيدة ووحدتها يتجليان بالطبع عبر القراءة المألوفة المتسقة

قراءة النص بالمقلوب بالنسبة لنا كانت تعني البحث عن الجوهري، عن الاستعارة التي قد تساهم في طمرها، مثل زهرة بين التراب، العناصر البلاغية المطنبة، والحذلقات اللغوية والإنهماك بالموضوع المعالج

 

إننا نعتقد أن هذه الاستعارة هي ما يمنح الأبيات هذه شعريتها. الأبيات المفردة هي، في جوهرها، استعارات، كنايات وتشبيهات، صافية. الاستعارة هي، كما نعلم، حاملة المعاني والمحمَّلة بها. إنها تقول المعنى الأعمق الذي لا يقوله النثر العادي. مهما كان الموضوع الذي تتناوله الأبيات فهناك معنى وهناك الحكمة. عندما نتحدث عن الخمرة، عن اليقين الديني، عن الناقة، عن الليل، عن مجايلي المرء، عن الحرب، عن المرأة، عن الأخلاقي أو الإنساني، عن الكبير الكوني أو الطفيف غير الملحوظ اليومي فإننا، دوماً، لدى استعارة شعرية تعلن حكمة. لا يمكنها سوى أن تعلن عن حكمة وعن معنى

 

كما ثمة التالي: إن قدرة بيت صغير على تقديم صورة ناطقة وشاملة للمشهد المصوَّر لهو شيء غريب وأساسي في هذه الأبيات. إنها بيوت متواضعة الشكل لكن مسكونة بالأرواح. عندما يصف المفضل اليشكري في بيت شعري واحد القتلى بعد انجلاء المعركة 

  8 تركنا الضبع عاكفة عليهم وللغربان من شبع نغيقُ

فانه ينقلنا إلى عراء السهب أمام جثث القتلى مصوراً صمت العالم الآدمي وانزوائه وانشغال العالم الحيواني. إننا نقرأ بيتاً واحداً مسكوناً بالرعب. الشاعر لا يقول الرعب إلا عبر الصورة، المخيال والتصوير بلقطات مُنـْتخَبـَة انتخاباً لكي تشير وتقول ما تريد قوله

لقد كان الشعراء القدامى مصورين بارعين ومتخيلين كباراً. هنا أو هناك في أشعارهم ثمة أضاءة إستعارية واحدة على الأقل، ولا أقول استخدامات مجازية (لأن الشعر العربي في مجمله هو مجاز عمره 15 قرنا من الزمن). ثمة هذا البيت عينه الذي نفتش عنه هنا أو هناك في ثنايا قصيدتهم

6-1

البيت الواحد هو إختزال

هذه الأبيات هي كذلك اختزال، هي موقف الوعي (على الأقل موقفنا اليوم) من أجل اختزال بعض الإطالات والإطنابات في القصيدة العربية

هذا البيت هو على اية حال بعض ما يتبقى من قصيدة عربية كلاسيكية متقعرة اللغة وحوشية الكلام. لأن كلام هذه البيت واضح نسبياً وجلي

 

7-1

النص الجزئي الشعري يقوِّم النص النثري

وعلى حد علمنا فلا توجد، لا قديماً ولا حديثاً، مختارات للبيت الشعري الواحد. ثمة (شعراء الواحدة) أو (اليتيمة) أي القصيدة الواحدة اليتيمة التي لم يقولوا إلا إياها. في كتب الأدب القديم وأعمال السير والتراث والتاريخ، ثمة بالطبع استشهادات كثيرة بأبيات منفردة، كان الناثر العربي والمؤرخ القديم يتوقفان فجأة عن السرد أو التحليل ليعززا طروحاتهما بأبيات شعرية ليست طويلة أو ببيت شعري واحد أو ببيتين اثنين

 

لقد نظرنا ملياً بمعنى هذا التوقف أمام ما سنسميه (بالنصوص الجزئية) الشعرية التي ليست من طبيعة (النص الأصلي) النثري السردي. كيف يخترق النص الجزئي اختراقاً المعمار الكلي ويبدو في وسطه كعلامة ساطعة، كتجلٍ، كتقويم للنثري أو تأييد له، كحكمة سافرة لا يستطيع هو، النثري، رغم إحكامه أيضاً، أن يقول مثلها

هل للأمر علاقة بالموسيقى التجريدية التي تنقل النص إلى عالم ثانٍ مقطوع الصلة نسبياً بإيقاعات البشر الآنية، أم له علاقة بالمعاني التي تصير معانٍ أخرى لأن الموسيقى وقوافي الشعر الصدّاحة قد نقلتها إلى فضاء دلالي آخر، أم أن له، أخيراً، علاقة سحرية بالمعاني الكبيرة العميقة التي تمس الجوهري لدى الكائن في هذه النصوص الجزئية؟

لا أحد يمتلك أو يراهن على جواب مريح

لكن الأمر الذي لا شك فيه أن النص النثري كان يستعين بالأبيات المنفردة لكي يشدَّ أزره ويقوي من يقينه الداخلي. تاريخياً، ثمة إذن إنتباهات إلى قيمة الأبيات المتفرقة ومن ثم إلى قيمة البيت الواحد. إنتباهات نحاول أن نمنحها نحن هنا مقاماً جديداً يناسب عصرنا

قيمة البيت الواحد تكمن في قدرته على الإختصار وقدرته على رفع المتخيَّل الى مصاف ذي شأن ورفعه الكلام العادي إلى مقام ما هو غير عادي ثم اكتنازه بالطراوة وقدرته على صدم ذائقتنا الجمالية أو شحذها أو تنويرها بنور مفاجيء. أو كل ذلك في آن واحد وفي جملة شعرية قصيرة، سريعة، كأنها زلزلة هدرت ثم استقرت

 

هل نأتي نحن بجديد؟ نعم ولالعم. عرف القدامى الاستشهاد بالبيت الواحد بينما جديدنا هو الانحناء والاكتفاء بهذا البيت الواحد وتخريجه مخرجاً جديداً. لذا فان نيتنا تتجه نحو تأليف أنطولوجيا من عدة أجزاء للأبيات المنفردة ذات القيمة، وما نراه نحن ذا قيمة

من المتوقع أن نختلف عن قيمة هذا البيت وذاك، سوى أن مراجعنا ومعاييرنا تظل تلتمس الموضوعية: الاحتكام إلى الاستعارة والتشبيه واللعب الخلاق على اللغة وقول الحكمة المجروحة بتجربة الأرضي

مراجع تظل تلتمس الموضوعية من غير جدوى ذلك انه يمكن تفنيد معاييرنا بمعايير أخرى. مشكلة الرهان الجمالي تقع في أن جزءً مهماً منه يتبقى يشتغل في إطار غير موضوعي، لصيق بالذات التي تقرأ وتنتخب وفي تفضيلاتها الإبداعية والأخلاقية والجمالية. هذا الأمر معلوم للجميع ولن نضيف إليه جديداً مهما قلنا. سنقول فحسب أن الشعر، لذوي الحس السليم، معروفة طلعته، وأن الحقيقي منه لا يمكن أن يخفى إلا على جاهل غير ظريف، وأن التمييز بين شعر حقيقي وآخر زائف هو مثل التوقف للتمييز بين الذهب والمعادن الصفراء التي تقلده، شتَّان

إن قراءة فاحصة لتراثنا الشعري تدل من بين ما تدل عليه أن الشعراء الكبار بقدر ما كانوا قادرين على ابتداع نص شعري طويل فانهم كانوا قادرين على اختراع أبيات مؤثرة وحساسية تشكِّل ذلك النص. بيت هو جوهر، هو (درة الغواص): من هنا تشبيه المنظوم بالقلادة التي تتألف من أحجار كريمة لها، مفردة، قيمتها. إننا نود تقليب أحجار ثمينة ونغض الطرف، لبرهة، عن العقد

 

انطولوجيا البيت الشعري الواحدh

الجزء الأول: مختارات وأمثلة

 

الأبدية

ونجوم السماءِ تضحك منا كيف تبقى من بعدنا ونـمرُّ

الشاعر: مجهول. المصدر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد مج9-10ص211/9

 

 

النفس

والنفس راغبة إذا رغبتُها وإذا تردُّ الى قليلٍ تقنعُ

الشاعر: أبو ذؤيب الهذلي.

 

النـزول للقبر مع صديق ميت

ألبستُه أكفانهُ وخُلِقتُ يوم خلقتُ جلدا

الشاعر: عمرو بن يكرب. المصدر: شرح النهج لإبن ابي الحديد ج18 ص343

 

الفرس الناضح عرقاً

إذا ما استحمتْ أرضه من سمائه ِ جرى وهو مودوعٌ وواعدُ مَصْدِقِ

الشاعر : خُفاف بن نُدْبة. المصدر : الأصمعيات، للأصمعي (122-216هـ) ص24. تحقيق: أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون. بيروت- لبنان، طبعة مزورة من دون تاريخ ولا دار نشر. شرح: إذا عرق فابتل أسفله من أعلاه. مودوع من الدعة وهي السكون. المصدق: الصدق في كل شيء. أي إذا ابتلت حوافره من عرق أعاليه جرى في دعة لا يضرب ولا يزجر ويصدقك فيما يعدك من غاية.

 

الدناءة

أدَعُ الدناءة لا ألابس أهلها ولديَّ من كيس الزمان نصيبُ

الشاعر: خُفاف بن نُدْبة. المصدر: الأصمعيات ص27

 

العشق

إني لسائلُ كلَّ ذي طبِّ         ماذا دواءُ صبابةِ الصَبِّ

الشاعر: أسماء بن خارجة. المصدر: الأصمعيات، ص48.

 

المُلِحُّ المزعج

وألحَّ إلحاحاً بحاجته ِ شكوى الضرير ومَزْجَرَ الكلبِ

الشاعر: أسماء بن خارجة. المصدر: الأصمعيات ص51.

 

المنفعي

لا تكن ضباً إذا استغنى أضرَّ ولم يحفلْ قرابة ذي القربى ولا نَسَبَا

الشاعر: رجل من غنيّ. المصدر: الأصمعيات ص55

 

المعشوقة

ولثمتُها فتنفستْ كتنفس الظبي البهيـرِ

الشاعر: المنخِّل اليشكري. المصدر: الأصمعيات ص60

 

كرامة الإنسان ومجده

وإني لأستحيي من المشي أبتغي إلى غير ذي المجد المؤثَّل مَطـْمَعَا

الشاعر: مالك بن حَرِيـْم الهمداني. المصدر: الأصمعيات ص63

 

المقامر

أراكَ امرأ ترمي بنفسكَ عامداً مراميَ تغتال الرجال بغولِ

الشاعر: كعب بن سعد الغنوي. المصدر: الأصمعيات ص74 وترجمة الشاعر ص73

 

تطلع وحذر

وشخصٍ درأتُ الشمس عنه براحتي لأنظر قبل الليل أين نزولي

الشاعر: كعب بن سعد الغنوي. المصدر: الأصمعيات ص75 وترجمة الشاعر ص73.

 

مرأى المجرَّات والكواكب

وقد شالتْ الجوزاء حتى كأنها فساطيطُ ركبٍ بالفلاةِ نُزُولُ

الشاعر: كعب بن سعد الغنوي. المصدر: الأصمعيات ص75 وترجمة الشاعر ص73. شرح: شالت أي ارتفعت.

 

الكلمة العوراء أي الحمقاء

وعوراء قد قيلتْ فلم أستمعْ لها وما الكلمة العوراء لي بقبولِ

الشاعر: كعب بن سعد الغنوي. المصدر: الأصمعيات ص75 وترجمة الشاعر ص73. شرح: العوراء أي الكلمة القبيحة.

 

حذر أخلاقي

وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ويغضب منه صاحبي بقؤولِ

الشاعر: كعب بن سعد الغنوي. المصدر: الأصمعيات ص76 وترجمة الشاعر ص73.

 

القتلى

وكأنما أقدامهم وأكفهم كَرَبٌ تساقط من خليج مُفْعَمِ

الشاعر: عمرو بن الأسْوَد من قصيدة قالها في يوم ذي قار. المصدر: الأصمعيات 80. شرح: مفعم أي مملوء.

 

ابطال بني محلَّم

ومحلـَّماً يمشون تحت لوائهم والموت تحت لواء آل محلـَّمِ

الشاعر: عمرو بن الأسْوَد من قصيدة قالها في يوم ذي قار. المصدر: الأصمعيات ص80

 

يقين ديني

مَيْتَ دهرٍ قد كنتُ ثم حييتُ وحياتي رهـْنٌ بأن سأموتُ

الشاعر: السموءل اليهودي أخو سعْية. المصدر: الاصمعيات ص86

 

رثاء صديق

من ليس في خيره شر يكدرهُ على الصديق ولا في صفوه كـَدَرُ

الشاعر: أعشى باهلة. المصدر: الأصمعيات ص90

 

سهيل

وسُهيلٌ كوجنة الحِب في اللو ن وقلب المحبّ في الخفقانِ

الشاعر: . شرح: سهيل كوكب لونه الى الحمرة أقرب. الحِب هو الحبيب.

 

 

المنايا

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا     وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا

الشاعر: المتنبي.

 

الشمس

صفراء قد كادت ولـمّا تفعل كأنها في الأفق عين الأحولِ

الشاعر: أبو النجم. أنشدها لهشام بن عبد الملك فسجنه لأنه كان أحول.

 

الحمى

وزائرتي كأن بها حياءُ فليس تزور إلا في الظلامِ

الشاعر: المتنبي

 

الجميلة الباكية

فأمطرتْ لؤلؤاً من نرجس وسقتْ ورداً وعضّتْ على العناب بالبردِ

 

الجميلة

النشر مسكٌ والوجوه دنا نِيرٌ وأطراف الأكف عنمْ

الشاعر: المرقش. شرح: النشر، الرائحة الطيبة. العنم شجر له ثمر أحمر يشبه به البنان المخضوب. الشاعر لا يستخدم أداة التشبيه البتة في البيت.

 

الممدوح

ودنا العيد وهو للناس حتى يتقضى وأنت للعيد عيدُ

الشاعر: البحتري

 

الشمعة

كأنها عمر الفتى والنار فيها كالأجلْ

الشاعر: السري الرفاء.

 

فرس

ونجي ابن حربٍ سابحٌ ذو عُلالة أجشّ هزيمٌ والرماح دواني

الشاعر: النجاشي.شرح النهج مج3-4 ص89-4 وفي الأغاني والشعر ةالشعراء

 

الزمن

إذا ليلة أهرمتْ يومها أتى بعد ذلك يوم فتي

الصلتان العبدي. شرح النهج مج3-4ص133

 

السهام

لاشيء للقوم سوى السهامِ         مشحوذةً في غلس الظلامِ

رجل من بني علي بن سود. شرح النهج مج3-4 ص135-4

 

ثائرة

أحمل رأساً قد سئمتُ حملهْ         وقد مللتُ دهنه وغسلهْ

أم حكيم الخارجيةشرح النهج مج3-4ص171-4

 

الحرب والخمر

ليست مقارعة الكماة لدى الوغى         شربَ المُدامة في إناءِ زجاجِ

رجل من بني عامر بن صعصعة. شرح النهج مج3-4ص210-4

 

القتيل

يهوى فترفعه الرماح كأنه شلوٌ تنشَّبِ في مخالب ضارِ

عبيد بن هلال الخارجي. شرح النهج مج3-4ص225-4 والكامل، الشلو: العضو. والبيت الذي بعده:

يهوى صريعاً تنوشه إن الشراة قصيرة الأعمار

 

 

الأبطال في الحرب

سترى جبالا قد دَنَتْ لجبالِ

ابن منجب. واخترنا هاهنا عجز البيت، لأن شطره لن يعني شيئاً الا في السياق. البيت كاملاً هو:

أو أن يعلمك المهلب غزوَهُ وترى جبالاً قد دنت لجبالِ

شرح النهج مج3-4ص210-4

 

روع وفزع

رفوني وقالوا : يا خويلد لا ترَعْ فقلتُ، وأنكرتُ الوجوه: همُ همُ

الهُذَلي. أدب الكاتب لإبن قتيبة، دار الفكر ط4 عن طبعة مصرية بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ص41. رفوت الرجل أي سكـَّنته وهدَّات من روعه. ومن ان يُقال بالرفاء والبنين.

 

الحب

فيا رب إن لم تجعل الحب بيننا سواءين فاجعلني على حبها جلدا

المجنون . البيت موجود في هوامش أدب الكاتب ص87

 

ثمل

وقد شربتُ ثمانياً وثمانياً وثمانَ عشرةَ واثنتين وأربعا

لأعشى بكر. أدب الكاتب ص193

 

راكب الناقة

كأن راكبها غُصنٌ بمروحة إذا تدلتْ به، أو شاربٌ ثملُ

مجهول وهو ينسب الى عمر ابن الخطاب، أدب الكاتب 247. مروحة هنا يعني مكان كثير الريح.

 

ربع ميَّة

وأسقيه حتى كاد مما أبُثُه تجاوبني أحجاره وملاعبهْ

ذو الرمة. ادب الكاتب ص356. اسقيه أي أدعو له بالسقيا فأقول سقاك الله، وأبثه أي أخبره بما في نفسي. ملاعب موضع اللعب.

 

معرفة الشاعر بالنساء

فإن تسألوني بالنساء فإنني بصيرٌ بأدواء النساء بصيرُ

علقمة بن العبد. أدب الكاتب ص397

 

دروع الابطال

تخشخش أبدان الحديد عليهم كما خشخشتْ يبس الحصاد جنوبُ

علقمة. ادب الكاتب ص422. الابدان هي الدروع، جنوب ريح الجنوب.

 

حيوان الظليم أي النعامة

كالحبشي التفَّ أو تَسَبـَّجا كما رأيتَ في الملاء البردَجا

العجاج. أدب الكاتب ص385. البردج السبي. وهو يصف ظليماً . ألتف يعني تدثر بكساء، وتسبج لبس السبيج