شاكر لعيبي

 

المقدسي بصفته رحّالةً فلسطينياً

 

 

تهدف هذه المقدمة إلى إعادة الاعتبار للمقدسي بصفته رحّالة. في في يقيننا أن هناك خمس محطات أساسية يتوجب التوقف أمامها عند قراءة كتاب المقدسي "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" من دونها لا نستطيع التعُّرف على أهمية الرجل وعمله:

 

أولاً: أن المقدسي يتقدم إلى قرائه بصفته رحّالة من الطراز الرفيع، وأن كتابه هذا يُقرأ بصفته وصفاً دقيقاً، يخلط معارف شتى، قام به الرحّالة نفسه. فالمؤلف لا يكفّ عن تذكيرنا بالأمر في ثنايا مصنفه، فتراه مرة يشير إلى الأمر صراحة:

"إعلم أن جماعة من أهل العلم ومن الوزراء قد صنفوا في هذا الباب، وإن كانت مختلة، غير أن أكثرها بل كلها سماع لهم. ونحن فلم يبق إقليم إلا وقد دخلناه، وأقل سبب إلا وقد عرفناه. وما تركنا مع ذلك البحث والسؤال والنظر في الغيب، فانتظم كتابنا هذا ثلاثة أقسام: أحدها ما عاينّاه، والثاني ما سمعناه من الثقات، والثالث ما وجدناه في الكتب المصنفة في هذا الباب وفي غيره. وما بقيت خزانة ملك إلا وقد لزمتها، ولا تصانيف فرقة إلا وقد تصفحتها، ولا مذاهب قوم إلا وقد عرفتها، ولا أهل زهد إلا وقد خالطتهم، ولا مذكرو بلد إلا وقد شهدتهم، حتى استقام لي ما ابتغيته في هذا الباب"

 

وتراه مرة يشير عرضاً إلى لزومه السياحة كقوله: "فإن قال قائل: أنت رجل قد عملتَ في السياحة" أو كقوله: "فيما نذكر عبرة لمن اعتبر وفوائد لمن سافر".

 

وتراه مرة يستهل المقدمة التمهيدية للكتاب بالتوكيد على أن مصنَّفه طالع من الرحلة والسفر والمعاينة بشكل جوهري، مثل قوله:

 "وقد ذكرنا ما رأيناه وحكينا ما سمعناه. فما صح عندنا بالمعاينة وأخبار التواتر أرسلنا به القول. وما شككنا فيه أو كان من طريق الآحاد أسندناه إلى الذي منه سمعناه"

وقوله:

 "ودرت على الجزيرة كلها من القلزم إلى عبادان، سوى ما توهت بنا المراكب إلى جزائره ولججه، وصاحبت مشايخ فيه ولدوا ونشأوا، من ربانيين وأشاتمة[1] ورياضيين ووكلاء وتجار، ورأيتهم من أبصر الناس به وبمراسيه وأرياحه وجزائره. فسألتهم عنه وعن أسبابه وحدوده ورأيت معهم دفاتر في ذلك يتدارسونها ويعوّلون عليها ويعملون بما فيها. فعلقت من ذلك صدراً صالحاً بعد ما ميزت وتدبرت، ثم قابلته بالصور التي ذكرت".

 

على أن كتاب المقدسي لم يُفهْرَس، طوال عصور من عمر تراثنا العربي الإسلامي، من بين كتب الرحلات رغم أنه يحتفظ بنفس وصفي من طراز رفيع ويحتفظ بنبرة من التشويق الذي يمضي من المادة الجغرافية إلى الحقل الحكائي. بحيث أن هذه النزعة السردية الحكائية ستبرز مرات عبر مرويات محض شخصية عايشها هو بنفسه وينقلها بصيغة ضمير المتكلم المفرد:

"وبينا أنا يوماً جالس مع أبي علي بن حازم أنظر في البحر ونحن بساحل عدن إذ قال لي:

- ما لي أراك متفكراً.

قلت:

- أيد الله الشيخ قد حار عقلي في هذا البحر لكثرة الاختلاف فيه، والشيخ اليوم من أعلم الناس به لأنه إمام التجار ومراكبه أبداً تسافر إلى أقاصيه، فإن رأى أن يصفه لي صفة اعتمد عليها وأرجع من الشك إليها فعل.

فقال:

- على الخبير بها سقطت. (ثم مسح الرمل بكفه ورسم البحر عليه لا طيلسان ولا طير، وجعل له معارج متلسنة وشعباً عدة ثم قال): هذه صفة هذا البحر لا صورة له غيرها".

 

أو مطارحته لأحد البنائين في شيراز أثناء أحدى رحلاته، وفيها يتكشف عارفاً بفن العمارة، وقد كان يقول قبل ذلك، من جهة أخرى، ملاحظات جد مهمة أخرى عن معرفته ونظراته الجمالية بالعمارة في ثنايا كتابه:

 

"وجلست يوماً إلى بعض البنائين، أعني بشيراز، وأصحابه ينقشون بمعاول وحشة وإذا حجارتهم على ثَخَانة اللبن فإذا اعتدلت قدَّروها ثم خطوا خطاً وقطعوه بالمعول، فربما انكسرت البلاطة فإذا أعتدلت أقاموها على حدها. فقلت لهم:

- لو أتخذتم مَسْفَنة وربَّعتم الأحجار، وأحكيتُ لهم بناء فلسطين وطارحتهم مسائل في البناء.

فقال لي الأستاذ:

- أنت مصري؟

قلت:

- لا، بل فلسطيني؟.

قال:

- سمعت أن عندكم تخرَّم الأحجارُ كما يُخرَّم الخشب.

قلت:

- أجل.

قال:

- أحجاركم لينة ولصناعكم لطافة".

 

ويبدو أن جدَّ المقدسي، أبو بكر البناء، كان معماراً رفيع المستوى استعان به ابن طولون نفسه كما تكشف حكاية المقدسي التالية:

"ولم تكن (عكا) على هذه الحصانة حتى زارها ابن طيلون[2]، وقد كان رأى صُوْرَ ومنعتها واستدارة الحائط على مينائها، فأحب أن يتخذ لعكا مثل ذلك الميناء، فجمع صناع الكورة وعرض عليهم ذلك فقيل لا يهتدي أحد إلى البناء في الماء في هذا الزمان، ثم ذكر له جدنا أبو بكر البناء، وقيل إن كان عند أحدٍ علم هذا فعنده، فكتب إلى صاحبه على بيت المقدس حتى أنهضه إليه، فلما صار إليه وذكر له ذلك قال هذا أمر هين، علي بفلق الجميز الغليظة، فصفها على وجه الماء بقدر الحصن البري وخيط بعضها ببعض وجعل لها باباً من الغرب عظيماً، ثم بنى عليها بالحجارة والشيد، وجعل كلما بنى خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء، وجعلت الفلق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها قد جلست على الرمل تركها حولاً كاملاً حتى أخذت قرارها، ثم عاد فبنى من حيث ترك، كلما بلغ البناء إلى الحائط القديم داخله فيه وخيطه به، ثم جعل على الباب قنطرة فالمراكب في كل ليلة تدخل المينا وتجر السلسلة مثل صور، قال: فدفع إليه ألف دينار سوى الخلع وغيرها من المركوب واسمه عليه مكتوب".

إن أمثلةً المرويات السردية هذه تبقى على أية حال نادرة في كتب الجغرافيين المعدود المقدسي من بينهم، ناهيك عن أعمال أشهر الرحالة العرب (ابن بطوطة، ابن جبير، وابن فضلان).

يبدو المقدسي (حكواتياً) حقيقياً في بعض تلك السرديات بل قصاصاً يستمتع بحبكات وعقد وحل قصته، يقول مثلاً:

وكنت يوماً في مجلس القاضي المختار أبي يحيى بن بهرام بالبصرة فجرى ذكر مصر إلى أن سئلت أي بلدٍ أجَلُّ؟

 قلت:

- بلدنا[3].

قيل: فأيها أطيب؟

قلت:

- بلدنا.

قيل: فأيها أفضل؟

قلت:

- بلدنا.

 قيل: فأيها أحسن؟

قلت:

- بلدنا.

قيل:

فأيها أكثر خيرات؟

قلت:

- بلدنا.

قيل: فأيها أكبر؟

قلت:

- بلدنا.

فتعجب أهل المجلس من ذلك.

وقيل: أنت رجل محصِّل وقد أدعيتَ ما لا يقبل منك وما مثلك إلا كصاحب الناقة مع الحجاج.

قلت:

أما قولي أجلّ.." إلى آخر القصة.

 

إن السردي والوصفي والحكائي تشكل كلها النسيج الداخلي لعمل المقدسي وتنأى به بمقادير، قليلة أو كثيرة، عن كونه مجرد كتاب في الجغرافية البشرية.

هنا مثال أخير لهذه السرديات ويكشف عن روح الفكاهة والطرافة لدى المقدسي:

"وبعث إلي أمير عدن مصحفاً أجلده، فسألتُ عن الأشراس[4] بالعطارين[5] فلم يعرفوه ودلّوني على المحتسب وقالوا عساه يعرفه، فلما سألته،

قال:

- من أين أنت؟

قلت:

- من فلسطين.

قال:

- أنت من بلدة الرخاء لو كان لهم أشراس لأكلوه عليك بالنشاء"[6].

 

ثانياً: في النسخة الأصلية، المخطوطة من كتاب المقدسي، يقوم الرجل، مأخوذاً بمناهج كتب ما يُسمَّى بالمسالك والممالك المزدهرة في القرن الرابع الهجري، بتقديم العديد من رسوم الخرائط الجغرافية، أو ما يعرف بالكارتوغرافيا cartographie.

لا يكف المقدسي عن تذكيرنا في "أحسن التقاسيم.." بأنه يقدِّم تمثيلات بصرية، خارطات، للمناطق الموصوفة. علينا الإنتباه هنا أن الخرائط التي كان قد رسمها لا تشابه، بالضرورة، ما اعتدنا على رؤيته اليوم، لأن الأمر يتعلق برسوم توضيحية، شبه تخطيطية يمكن أن تنطوي على أشكال تشخيصية. وبعبارة أخرى فإنها ليست بالضرورة أشكالاً محض تجريدية. يمكننا أن نحصي في كتابه إشارات كثيرة لهذه التمثيلات:

يقول: "وصوَّرنا الأقاليم لان المعرفة بها أروج"، ويقول: "رسمنا حدودها وخططها، وحررنا طرقها المعروفة بالحمرة، وجعلنا رمالها الذهبية بالصفرة، وبحارها المالحة بالخضرة، بنهارها المعروفة بالزرقة، وجبالها المشهورة بالغبرة، ليقرب الوصف إلى الأفهام، ويقف عليه الخاص والعام"، ويقول: "إعلم انَّا لم نر في الإسلام إلا بحرين حسب أحدهما يخرج من نحو مشارق الشتاء بين بلد الصين وبلد السودان، فإذا بلغ مملكة الإسلام دار على جزيرة العرب كما مثلناه، وله خلجان كثيرة وشعب عدة، وقد اختلف الناس في وصفه والمصورون في تمثيله، فمنهم من جعله شبه طيلسان يدور ببلد الصين والحبشة وطرف بالقلزم وطرف بعبادان. وأبو زيد جعله شبه طير منقاره بالقلزم ولم يذكر شعبة وَيْلَة، وعنقه بالعراق، وذنبه بين حبشة والصين. ورأيته ممثلاً على ورقة في خزانة أمير خراسان وعلى كرباسة* عند أبي القاسم ابن الأنماطي بنيسابور، وفي خزانة عضد الدولة والصاحب"، ويقول: "...ثم قال هذه صفة هذا البحر لا صورة له غيرها. وأنا أصوره ساذجاً وأدع الشعب والخلجان إلا شعبة وَيْلة لشهرتها وشدة الحاجة إلى معرفتها وكثرة الأسفار فيها، وأدع ما اختلفوا فيه وارسم ما اتفقوا عليه"، ويقول: "وهذه صورة جزيرة العرب" أو: "وهذه صورته ومثاله" ويقول: "وهذه صورته" ويقول: "وهذا مثاله وشكله وبالله التوفيق لا شريك له" ويقول: "وهذا مثاله وشكله"، ويقول: "وهذا شكل الإقليم ومثاله في الصفحة المنقلبة"[7].

 

يتوجب التوقف أما تعبيرات مثل (مثلناه) و(تمثيله) و(رأيته ممثلا على ورقة) و(أنا أصوِّره ساذجاً وأدع الشِعَب..الخ) التي تعني كلها استعانة المقدسي بفن الرسم الكارتوغرافي، بمعناه القديم، في تمثيل جغرافيا العالم القديم. في حين أن المعلومات التي يوردها المقدسي عن وجود أكثر من (رسم) لجزيرة العرب في خزنات الكتب المشهورة في زمانه هو في غاية الأهمية والندرة. سوى أن التمثيلات المشار إليها لم تصلنا للأسف الشديد. أما إلحاحه فائق العادة على أهمية هذا الضرب من الخرائط فلا يوجد له مثيل لدى أي مؤلف آخر من عصره أو من عصر لاحق.

 

يتطابق ولع المقدسي بهذه التمثيلات مع نزعته بالاهتمام بما هو حكائي وسردي واستجلابه للهامشي أحياناً في نصه. من هنا كذلك فرادة المقدسي وأهمية عمله. ففي مرة نادرة نرى في تراثنا اهتماماً مفرطاً بأمور لم يكن المؤلفون الآخرون ليمنحونها ما تستحق من العناية، وهو شيء قام به المقدسي.

 

ثالثاً: إن واحدة من الخصائص التي امتاز بها أعلام مدرسة المسالك والممالك، التي يقع المقدسي في صلبها، هو انتهاجهم منهجاً مختلفاً عن المنهجين: الفارسي قريب العهد إليهم، واليوناني الذي استمد منه روّاد الجغرافيا الإسلامية طريقة عملهم.

 

فالمنهج الفارسي كان يقوم على أساس تقسيم المناطق الموصوفة إلى (كشورات)[8]، أي تقسيم العالم إلى إلى سبع دوائر متساوية، كل دائرة تمثل كشوراً. والمنهج اليوناني كان يقوم على تقسيم الأرض المعروفة يومها إلى ثلاث أو أربع قارات.

 

منهج الجغرافيين العرب أصحاب المسالك والممالك: البلخي (ت 934م) والإصطخري وابن حوقل ومن ثم المقدسي، كان يقوم على أساس تقسيم المناطق التي وصفوها إلى (أقاليم).


كان هذا المنهج يريد الابتعاد عن (كلية) التصورات الفارسية واليونانية، لأنه يتأسس على تحديد بقع مخصوصة، وليست مفترضة، ووصفها، أي تحديد بقعٍ معرَّفَة بحدود جيو- سياسية أو لغوية أو محض جغرافية، ويقوم من ثم بالحديث عنها. إنه منهج ينتقل، ببطءٍ شديد، من العام المطلق إلى الخاص المحدَّد، لكن في إطار نسبية تاريخية لا مفر منها.

 

رابعاً: بالإضافة إلى هذا التعريف بالعالم المقترب حثيثاً من موضوعية ما، فإن المقدسي، خلافاً لأقرانه، قام باتباع منهج مبني، بشكل أساسي، على المشاهدة العيانية المباشرة والسفر والجهد الشخصي والنظر في تتبع الأمور، وهو برنامج يدفع بكتابه لأن يكون (شبه قطيعة) مع أعمال سالفيه.

 

إننا، في حقيقة الأمر، أمام عمل أشبه ما يكون بعمل الباحث (الأثنوغرافي) المعاصر. فهو يمزج بجلاء ما بين الرحلة والإثنوغرافيا التي تسعى إلى تقديم توصيف موضوعي للشعوب وعاداتها وألسنتها ونظمها العائلية والأخلاقية والدينية وتقاليدها الإجتماعية وطريقة لباسها وأسباب عيشها الإقتصادية وخياراتها الغذائية والسكنية. لا يحيد المقدسي قيد أنملة عن عمل الأنثروبولوجي والأثنوغرافي كما حُدِّد في علوم الإجتماع المعاصرة، كما إن مادة المقدسي ومنهجه الوصفي هي جوهر علم الأثنوغرافيا الحالي بالتمام. وليس ثمة من إفراط البتة في هذه الخلاصة. علاقة المقدسي بعلم الإثنوغرافيا أشير إليها فحسب من طرف البعض القليل من الباحثين العرب مثل د. حسين محمد فهيم في كتابه (أدب الرحلات)- عالم المعرفة الكويتية 1989، من دون أن يعيره أحد آخر، لا في الشرق ولا في الغرب، بالاً كبيراً يستحقه.

 

خامساً: هذ البعد الأثنوغرافي جديد كلياً في تاريخنا القديم وهو يمنح عمل المقدسي بعداً معرفياً كما بعداً تشويقياً. نظن أن من النادر أن نقرأ كتاباً قيل لنا أنه كتاب بالجغرافيا بمثل المتعة التي نقرأ فيها كتاب المقدسي. إن (المتعة) هي أحدى الأساسات التي ينبني عليها كتاب المقدسي ويشيعها، كأنها كانت متضمَّنــَة في النص الأصلي وكأنها كانت مُنتواة من قبل المؤلف، بدءاً من مدخله وانتهاءً بالقصيدة الختامية التي كتبها المقدسي لتوكيد (فرادة) الكتاب:

 

كتاب كاللآلى والربيعِ                وكالعقيان والروض المريعِ

 

صحيح أننا يمكن أن نلتقي في أعمال أخرى بشذرات انثروبولوجية، تتعلق بالسكان وعاداتهم وأشكالهم ولهجاتهم ومأكولاتهم وطريقة لبسهم، لدى جغرافيين أو رحّالة آخرين، لكن الجديد لدى المقدسي هو أنه يمنح ذلك كله ثقلاً ومغزى ويحوّله إلى محرك من محركات شغله. من النادر، كما كتبنا في الهوامش، اللقاء بمثل ملاحظات المقدسي الطازجة النادرة عن (فن العمارة) في العالم الإسلامي، ومن النادر، إذا لم يكن معدوماً أن نقرأ ملحوظات  لغوية عن (لهجات) سكان فارس بالرغبة والمتعة التي يقولها المقدسي، بعيداً عن دقتها أو عدمها.

 

يسعى المقدسي لتقديم تركيبة فردية  لتأليف الكتاب، تتضمن ثلاث شخصيات متداخلة: (السائح) و(الفقيه) و(اللغوي) ناهيك عن المؤلف الجغرافي: ذريعته وقناعه.

 

وإذا ما استبعدنا تمحيصاته الجغرافية عن الأماكن والمدن والمسافات وأبعادها وتصنيفاتها (وهو ما أردنا حذفه في طبعتنا هذه لكننا عدلنا عن الفكرة أخيراً لكي نقدّم الكتاب كاملاً)، لالتقينا بتلك الشخصية المركـَّبة ثلاثية الأبعاد التي يتناوب الأدوار فيها كل من:

1- السائح الوصَّاف، المهموم مرات بالأمور الطفيفة كما بالأمور الجليلة والذي لا يتواني عن إطلاق أحكامه ومعاييره الأخلاقية وغيرها عن الموضوع الموصوف.

2- يتمازج السائح باللغوي متأمِل اللغات واللهجات والذي يُلاحظ استقامتها أو عورتها، الذي لا يكف عن تذكيرنا أن لسان البعض (وَحِشٌ) ولسان الآخرين (سويٌّ).

3- كلا الرجلين، السائح واللغوي، يندمجان بشخصية الفقيه الذي يحاول التشبث بمعيار ديني يعصمه من التطرف والانزلاق إلى مواطن لا يرتضيها إيمانه الديني. يقول المقدسي: "لأني رجل أحب أهل النسك وأميل إلى أهل الزهد كائناً ما كانوا".

 

نلاحظ أن المقدسي لا يكف عن إطلاق (أحكام قيمة) نهائية وحاسمة عن السكان الذين زارهم والمناطق التي مرَّ بها. وإذا ما أعتبرت اليوم أحكام القيمة إقلالاً من شأن الموضوعية في العمل الوصفي الذي كان يكرس المقدسي له نفسه نظرياً، فإنها كانت من جهة أخرى تمنح عمله المزيد من الحيوية بصفته، في مكان ما، نوعاً من رؤية (ذاتية) تحاول أن تنافس عمل اثنين: الجغرافي العلمي والرحالة الوصاف المحايد نظرياً.

يقترب المقدسي، وبشكل حاسم، من عمل الرحّالة المشهورين، من باب خلطهم الكبير بين رؤيتهم (الذاتية) و(الموضوع) المشاهَد الموصوف. من هنا إثارة عمل المقدسي.

سيكون متناقضاً، من الناحية الشكلية، القول أن أحكامه القيمية لا تقلل البتة من صرامته الوصفية التي نبدو أثناء قراءتها وكأننا منقادون انقياداً لمسامحته في القليل أو الكثير من الرؤى الشخصية والأحكام والتقييمات المزاجية كما نقول اليوم.

نلاحظ هنا أن أحكاماً إطلاقية تتعلق مثلاً بأخلاق أهل (العراق) أو أهل (مصر) أو سكان (الشام) تظل مدعاة للتساؤل عن فظاعة هذه القدرة الإطلاقية عند مؤلفينا القدامى وجسامتها، ومنها يستمد البعض في وقتنا الراهن إطلاقاتهم عن طبائع هذه الأمصار الثلاثة نفسها. ثم التساؤل عن قابلية العيش طويل المدى للأفكار المسبقة التي يمكن أن يحتفظ المرء بها دون أن يرفّ له جفن، والتساؤل أخيراً، بمرارة، عن مقدار توطــُّـنها في الضمير الثقافي المعمَّم وبالتالي مقدار دقتها؟

 

إذا ما كان يوجد في عمل القدسي بعدٌ (سردي)، فإن عمله ينطوي على كنز من المعلومات الثمينة التي لم تُدرس بعد عن مراكز الصناعات الحرفية في العالم الإسلامي، خاصة صناعة النسيج وأماكن تصنيع وتوريد التحف الفنية (بربهار أي تلك القادمة من الهند على وجه الخصوص)، عن أسعار المنسوجات والتحف وعن صنّاعها وحرفييها ومصطلحاتهم. من هذه الزاوية الضيقة جداً، لكن الحاسمة في تاريخ المعرفة وتاريخ الفن، فإن كتاب المقدسي يقدَِّم مادة خام لسوسيولوجيا المعرفة والفن والحرف اليدوية، وهي أصل أي عمل فني، في العالم الإسلامي. وهذا المصدر الجذري، لم يُستثْمر إلا نادراً، مثلما أسْتـُثـْمِرَ عمل مؤلف لاحق هو المقريزي (الخطط المقريزية)  في هذا المجال عينه.

 

سوى أن قراءة متمعنة للمقدسي سترشدنا إلى أنه كان يسعى إلى تقديم (رؤية شاملة) أو (صورة عامة) عن العالم الإسلامي كما بدا له: عالم متنوع المذاهب واللغات والإتجاهات والإثنيات والجغرافيات، وعن مواطن التداخل أو الافتراق في نسيجه الاجتماعي والإقتصادي والثقافي، ثم عن علائقه مع العالم اللا- إسلامي المعاصر له، وبعضه عالم أُعتبر جديراً بالدراسة والفهم: كالسند مثلاً. سوى أن هذه الرؤية الانسانوية التي كان يُراد لها أن تكون رؤية عامة وشاملة، كانت تستثني العالم المسيحي المعاصر للمقدسي (أي بيزنطة التي يمر عليها مروراً عابراً) وتستثني الأمة الصينية بسبب وثنيتها، وقد كانت في الحقيقة نوعاً من التمركز على الذات الذي ننقده نحن عرب اليوم عند الحديث عن تمركز أوربا وأمريكا على نفسيهما. إنه نوع من اعتقاد أن الذات هي مصدر ومركز وسُّرة للعالم القديم. هذه الرؤية شائخة وبائدة رغم سعة أفق المقدسي الذي لم يكن يستطيع الهروب، تاريخياً، من إطارها.

 

يا للمفارقة! ففي الوقت الذي نستطيع فيه التعرُّف، في "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، على المقدسي (كمثقف موسوعي) معني بالإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا، أكثر مما هو معنيٌّ بحدود علم الجغرافيا الضيقة، فإننا نتعرف على الحدود المعرفية والجغرافية التي توقــَّف عندها عمله الكبير.

 

 

ثمة ملاحظة يتوجب إدراجها هنا بالضبط: فلقد كان المقدسي يصرُّ، عرضاً، في كتابه على أنه فلسطيني، وشامي في الحقيقة. شامي جوَّب وطاف وطوَّف في البلدان في وقت أبكر بكثير من أقدم الرحلات العربية المعروفة اليوم، ونحن نرى في ذلك دلالة أخرى غير دلالة السبق والأولوية بارتياد المجاهيل التي يشدّد عليها بعض العقل العربي المهموم بإيجاد رواد والمزيد من الرواد في كل حقل. ونحن نرى في هذا المنطق دلالة أخرى غير تلك الأيديولوجية التي تبرّز العقلانية في مغرب العالم العربي الإسلامي إزاء المثالية الأفلاطونية في مشرقه. يبرهن المقدسي أن مقاربات من هذا القبيل غير ممكنة، لأن مراكز المعرفة لا تمتّ إلى كل ذلك بصلة. وإذا كان المقدسي الفلسطيني رائداً من رواد الأنثروبولوجيا مثلما كان ابن خلدون المغربي رائداً في علم التاريخ، فلأنه كان، مثل ابن خلدون، يمتلك ما يكفي من الوعي والرغبة والجموح والمتعة في استقصاء أماكن أخرى في المعرفة وفي العالم بعيداً عن المعايير السائدة. لا الوعي ولا الرغبة ولا الجموع لها علاقة بالمغرب والمشرق بمعنييهما القديمين كما بالتقسيم الجديد للعالم إلى شرق وغرب وشمال وجنوب.

 

كلاهما، المقدسي وابن خلدون، كان يدركان في زمنين متباعدين، أهمية كتابتهما وفعلهما في العالم. وإذا ما أعيد الاعتبار، علناً وفي أكثر المحافل العالمية رقياً، لابن خلدون كمؤسس لعلم الإجتماع الحديث، وإذا لم يجرِ بعد اعتبار المقدسي علماً في الأنثروبولوجيا، فلأن حق الثقافة العربية مهضوم اليوم في العالم، ولأننا لا نشكل جزءاً مؤثراً في الثقافة العالمية.

 

لقد أنتقد البعض من المستشرقين، وتابعهم قلة من العرب، أسلوب المقدسي القائم على السجع، وربما جرى الغض من شأنه لهذا السبب غير الوجيه، وهو ما أظنه. على أننا نلاحظ أن الرجل يشير، هو نفسه، إلى أن انهماكه بالسجع إنما يجيء من رغبته باللعب على الكلام وبمتعة استجلاب المتعة أثناء عمل وصفي وجغرافي قد يكون ثقيلاً عند كتابته بأسلوب آخر. يقول: "وأوردنا فيه الحجج توثقاً والحكايات تحققاً والسجع تظرفاً والأخبار تبركاً ". تظرفاً إذن وليس لسبب آخر. إن الحاكمين على أسلوب المقدسي السجعي بالسلب هم من حققه من الأوربيين، ولا أظنهم، رغم تقديرنا لجلالة وضخامة وعلوّ هامة أعمالهم، بقادرين على التحقق من ركاكة أو طرافة سجع المقدسي. وفي الحقيقة فإن سجعه يكشف عن (رغبة سردية) متواصلة تنتوي أن لا تكون مملة أكثر مما يكشف عن (نزعة شكلانية) تخفي خواءً معرفياً. هذا الفارق الطفيف ظاهرياً يصير جذرياً عند قراءة المقدسي.

 

لن نزعم أننا نعيد تحقيق كتاب المقدسي، بل إننا نشير إلى أننا نحرّرُ، كما يقول الإنكليز، عمله مستفيدين من طبعة ليدن 1906 وطبعة دار (إحياء التراث العربي) البيروتية سنة 1987 التي يزعم الدكتور محمد مخزوم بأنه قد قام بتحقيقها. نحاول من إعادة التحرير، كما قمنا بها، تقديم النص كاملاً بوصفه نصاً طليقاً، ممتعاً ومفيداً في آن. من هنا فإننا لم نثقل النص بهوامش طويلة ولا بمراجع ثقيلة لتأصيل تلك الهوامش وهي كلها يمكن أن تعكــِّر صفو القراءة. هوامشنا ذهبت نحو ما نحسبه المفيد والضروري للمسْتَغـْلِق من الكلمات وللأجنبي منها. نقول هنا أن وفرة المادة التي يشتغل المقدسي عليها يمكنها لوحدها أن توّفر للمعلــِّق ولكاتب الهوامش مؤلـَّفاً واحداً كبيراً سيُعنى بمراجعة وتدقيق وإحصاء والتوسع بمادة المقدسي الأصلية وتقعيدها. هذ ا العمل ليس من أهداف عملنا. البعض  من مواد المقدسي، مثل إحصائه لأنواع التمور أو الأقمشة أو الأدوات النحاسية في العالم العربي المعاصر له يمكنها أن تصيب أكثر المتخصصين والمعلقين بالدهشة بسبب غناها وسعة أفق الرجل وشدة انتباهه.

 

تستحق شخصية المقدسي، كما تبدو من خلال نصه لوحده، وقفة متأملة. وأول ملامحها هي تشبثه (بالمغامرة) الوجودية إذا صح التعبير، لأن الرجل كان منهمكاً بارتياد الآفاق وتلبـّس أنماط من الشخصيات والأدوار التي ليست بالضرورة شخصيته. لقد كان يصيب ارتياحاً من جراء تلك المغامرات التي قام بها في مجاهيل العالم والتعرّف على شخصيات متنوعة بل متناقضة فيه. لقد استوقفتنا منذ سنوات طوال فقرته البديعة التي يقول فيها:

 

"ولقد سُمِّيتُ بستة وثلاثين إسماً دُعيتُ وخُوطبتُ بها مثل: مقدسي وفلسطيني ومصري ومغربي وخراساني وسلمي ومقرئ وفقيه وصوفي وولي وعابد وزاهد وسياح ووراق ومجلد وتاجر ومذكّر وإمام ومؤذن وخطيب وغريب وعراقي وبغدادي وشامي وحنيفي ومتؤدب وكرّى[9] ومتفقه ومتعلم وفرائضي واستاذ ودانشومند[10] وشيخ ونشاسته[11] وراكب ورسول، وذلك لاختلاف البلدان التي حللتها، وكثرة المواضع التي دخلتها. ثم إنه لم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلا وقد أخذتُ منه نصيباً غير الكدية وركوب الكبيرة، فقد تفقهتُ وتأدبتُ، وتزهدتُ وتعبدتُ، وفقهتُ وأدبت. وخطبتُ على المنابر، وأذنتُ على المنائر. وأممتُ في المساجد، وذكّرتُ في الجوامع، واختلفتُ إلى المدارس. ودعوتُ في المحافل، وتكلمت في المجالس. وأكلت مع الصوفية الهرائس. ومع الخانقائيين الثرائد، ومع النواتي العصائد. وطردت في الليالي من المساجد، وسحت في البراري، وتهتُ في الصحاري. وصدقت في الورع زمانا، وأكلت الحرام عيانا. وصحبت عباد جبل لبنان، وخالطت حيناً السلطان. وملكت العبيد، وحملت على رأسي بالزبيل[12]. وأشرفت مراراً على الغرق، وقطع على قوافلنا الطرق. وخدمت القضاة والكبراء، وخاطبت السلاطين والوزراء. وصاحبت في الطرق الفساق، وبعت البضائع في الأسواق. وسجنت في الحبوس، وأخذت على أني جاسوس، وعاينت حرب الروم في الشواني[13] وضرب النواقيس في الليالي. وجلدت المصاحف بالكرى، واشتريت الماء بالغلا وركبت الكنائس والخيول، ومشيت في السمائم والثلوج، ونزلت في عرصة الملوك بين الاجلّة، وسكنتُ بين الجُهّال في محلة الحاكة. وكم نلت العز والرفعة، ودبر في قتلي غير مرة. وحججت وجاورت، وغزوت ورابطت. وشربت بمكة من السقاية السويق[14]، وأكلت الخبز والجلبان[15] بالسيق[16]. ومن ضيافة ابراهيم الخليل، وجميز عسقلان السبيل. وكسيت خلع الملوك وأمروا لي بالصلات. وعريت وافتقرت مرات، وكاتبني السادات، ووبخني الأشراف. وعرضت علي الأوقاف، وخضعت للأخلاف. ورُميت بالبدع، واتهمتُ بالطمع. وأقامني الأمراء والقضاة أمينا، ودخلت في الوصايا وجعلت وكيلا. وامتحنتُ الطرّارين[17]، ورأيت دول العيّارين. واتبعني الارذلون، وعاندني الحاسدون، وسعي بي إلى السلاطين. ودخلت حمامات طبرية، والقلاع الفارسية. ورأيت يوم الفوّارة[18]، وعيد بربارة[19]، وبئر قضاعه، وقصر يعقوب وضياعه".

 

هذه الفقرة الطويلة تكشف عن هوس بالمغامرة المطلقة التي لا يتخلى فيها المقدسي، رغم ذلك، عن ثوابته الأخلاقية والروحية. من هنا ثاني الملامح التي يكشفها نص المقدسي عن شخصه: إن الرجل صاحب (قناعة أيديولوجية) دينية عميقة، تحبّذ الفضيلة كما تلقاها في معاهد دراسته الدينية، وتشدّد بالمقابل على نبذ الرذائل و(الوطاء) و(الفسق) والفجور التي لا يكفّ عن التذكير بها أو ببعض الموصوفين بها من البلدان والشعوب والمدن. لا توجد البتة إشارات إلى انهماك المقدسي برذيلة من تلك التي ينقدها في كتابه سوى مرة واحدة عندما يقول: " وصاحبت في الطرق الفساق،..وأكلت الحرام عيانا" وهو ما يبدو وكأنه قد فعله بسبب الضرورة القصوى.

 

بينما تقع ثالث ملامح شخصيته المكشوفة عبر نصه، بامتلاكه قدراً عالياً من (الفضول) من أجل معرفة أشياء العالم الكبيرة والصغيرة، والفضول هو أسٌّ من أساسات المعرفة. لقد كان المقدسي رجلاً فضولياً لأنه كان يريد التعرف على دقائق الأشياء المشاهَدَة والتعرف على اختلاف تسمياتها وأنواعها، أنظرْ مثلاً ما كان يقوله أعلاه عن تخريم الحجارة في شيراز، ومعها يبدو وكأننا أمام رجل (يحشر أنفه) بالمعنى الإيجابي للكلمة بشؤون قد تبدو تحصيل حاصل بالنسبة لمسافر وعابر سبيل في بلد ليس ببلده. لقد كان يفعل مدفوعاً بفضول جامح تكشف عنه كل فقرة من فقرات كتابه تقريباً، ما عدا بالطبع تلك الفقرات التي يذكر بها أنه لم يزرْ بعض الأماكن وأنه لا يفعل سوى الاستشهاد بالعارفين والمؤلفين السابقين. وهنا تتجلى لنا أمانته واستقامته وموضوعيته بشكل كبير.

 

مسار رحلة المقدسي

للوهلة الأولى سيبدو كتاب المقدسي كتاباً جغرافياً محضاً. يتوجب تصويب هذا الانطباع. وبالإمكان البرهنة على أن (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) ليس سوى رحلة فعلية يمكن تتبع (مسارها) الدقيق، على الرغم من أن طريقة كتابة المؤلف ومنهجه يقودان إلى تصوّر آخر عن طبيعة كتابه.

 

إن قراءة متأنية ستقود يقيناً إلى اختطاط المسار الذي تتبعه المقدسي لرحلته، وستقود إلى التفكير بأن الرجل دوَّن، مرحلة فمرحلة، (رحلة) قام بها بالفعل، لكنه كتب كتابه بمنهج جغرافي وبلداني لا أكثر. إن همَّه بتقسيم البلدان والتوقف أمام طبائعها الجغرافية والعمرانية والبشرية، لا يتعارض مع زيارته لها، وهو ما يشير إليه بإلحاح.

 

ثمة برهان آخر حاولناه، ألا وهو تسجيلنا البلدان التي يتكلم عنها المقدسي بلداً بلداً، والنظر فيما إذا كان هذا التسجيل يتابع مخططا منطقياً صارماً أم لا يُطابق. واتضح لنا أن الرجل قد اتـَّـبع، فيما يتعلق بالعالم العربي، مساراً دقيقا لرحّالة كان يتخذ الطرق القديمة ويمر على المدن المهمة يومها (لأن بعض ما كان يُعتبر هامشياً من المدن والقرى قد صار فيما بعد أساسياً).

 

أولاً: جزيرة العرب

يبتديء المقدسي كتابه بالحديث عن البحار والأنهار في الإسلام، ولا يقول لنا شيئاً واضحاً عن نقطة انطلاقه، وهو أمر يدفعنا إلى الافتراض أنه قد انطلق إلى مكة، فهو يذكر أنه يبدأ "بجزيرة العرب لأن بها بيت الله الحرام..ومنها انتشر دين الإسلام". ولعله انطلق إلى الحجاز ومنها إلى اليمن. فبعد حديثه عن مكة ومنى والمزدلفة وعرفة (وهو ما يعطي الانطباع بأن الرحلة ابتدأت من أجل قضاء مناسك الحج) يتكلم المقدسي، بالتتابع عن: الطائف جدة يثرب   البقيع   بدر ناحية  قرح، وهنا يبدو وكأنه اتجه جنوبا نحو اليمن ليتحدث عن: زبيد الشرجة والحردة وعطنة  ناحية عثر  صنعاء   ومنها يبدو وكأنه تابع ساحل بحر العرب صعودا نحو صحار  النزوة  ومن ثم إلى الاحساء، وهي البحرين حالياً.

هنا يتوقف لينتقل للحديث عن إقليم العراق.

 

ثانيا:ً إقليم العراق

 ويبتديء بالحديث عن الكوفة، ومن الواضح أنه اتجه من البحرين إلى أقرب نقطة في الجزيرة العربية، ومنها عرج فوراً على أحد الطرق القديمة التي تصلها بالكوفة. ومن الكوفة كان بإمكانه أما التوجه إلى وسط العراق أو إلى جنوبه، وقد اختار على ما يبدو الهبوط جنوباً إلى البصرة ومنها إلى واسط بغداد سامرا حلوان، وهي المدينة التي كانت تعتبر ضمن إقليم أقور، وأقور بضم القاف، موضع ما بين دجلة والفرات. وهو ما يسمى بالجزيرة الفراتية.

من حلوان سيبدأ بالحديث عن إقليم جديد.

 

ثالثاً: إقليم أقور

ومساره في هذا الإقليم منطقي تماماً وهو التالي: الموصل آمد الرقة الرها (أي مدينة أورفه حالياً في تركية) ومنها سينحدر للإقليم الرابع. وبعبارة أخرى فقد كان يتجه من الموصل نحو الغرب، ثم يصعد شمالاً قليلاً لينحدر إلى إقليم الشام.

 

رابعاً: إقليم الشام

ومساره فيه كذلك منطقي للغاية وهو التالي: حلب حمص دمشق بانياس صيدا وبيروت طرابلس بعلبك الحولة الغوطة طبرية قَدَس أذرعات بيسان اللجون كابُل الفراذية عكا الجش صفد الرملة بيت المقدس بيت لحم حِبْري بيت جبريل ميماس يافة أرسوف قيسارية نابلس أريحاء عمان الرقيم صُغَر مآب أذْرُح ويلة (ويقول أن العامة يسمونها أيلة ولعلها إيلات) مدين تبوك وهذه تقع على أطراف الشام لجهة جزيرة العرب.

 

خامساً: إقليم مصر

ويبدأ من نحو الشام : الجفار الحوف (عاصمتها بلبيس) فالريف (قصبتها العباسية)  فالأسكندرية مقدونيا الصعيد والواحات.

وبعد الإسكندرية يتحدث بالتفصيل عن التالي: الفسطاط الجيزة العزيزية عين الشمس المحلة حلوان أسوان أخميم الفيوم العلاقي تنيس دمياط شطا طحا، وهو مسار يبدو منطقيا كذلك رغم بعض التعرجات.

 

سادساً: إقليم المغرب

وفيه كذلك نلاحظ تسلسلا ومنطقاً ما: برقة (تضم ذات الحمام- رمادة- اطرابلس- صبرة – قابس- غافق) افريقبا والمقصود بها تونس الحالية (وقصبتها القيروان ومن مدنها الاخرى اسفاقس- سوسة- المهدية- بنزرد- طبرقة- بونة- باجة- إلى أن يصل إلى القسطنطينية) تاهرت (ومن مدنها درعة- تادنقوست) فاس (ومن مدنها بسكرة- مكناسة- نفزاوة) السوس الأقصى. ويبدو أنه عرج من إقليم المغرب إلى اصقيلية ويتحدث عنها حديث العارف كما أنه يذكر أنه لم يزر الأندلس، رغم قربها منه هناك.

إن ما يبدو تعرجا، أو أمرا غير منطقي في مسار الرحلة فيفسِّره المقدسي، مداورةَ، في بدايات كتابه بالقول:

"وما سرت في جادة وبيني وبين مدينة عشر فراسخ فما دونها، إلا فارقت القافلة وانفلتت إليها لأنظرها قديماً، وربما اكتريتُ رجالاً يصحبوني، وجعلت مسيري في الليل لأرجع إلى رفقائي مع إضاعة المال والهم".

أما بلدان العجم التي لا يمكن أن نقول كلمة أكيدة بشأن مسار رحلته فيها بسبب جهلنا بها، فيمكن الافتراض أن الرجل قد توقف في واحدة من المدن العربية الكبرى (عندما كان في إقليم العراق مثلاُ أو إقليم أقور) وانطلق منها لزيارة بلاد العجم، وقد دوَّن بالتتابع، مثلما فعل في بلاد العرب، ملاحظاته عن المدن، وجعل تلك الملحوظات المتن الأساسي لكتابه، ما عدا بالطبع تلك المدن التي لم يزرها مشيراً كالعادة بأمانة لذلك.

 

هكذا يبدو أن تأليف الكتاب قد جرى على الشاكلة التالية: دوَّن المقدسي ملاحظات مُمَنـْهَجَة ومتسلسلة عن مدن وقرى وبُليدات زارها  لكنه أدْمجَها في مصنَّف يقود إلى الظن أن الأمر متعلق بوصف محض جغرافي قائم على معارف مألوفة وعلى نصوص جغرافية في متناول جميع المتخصصين.

 

إن إدراج العمل بين كتب الجغرافيا يشير إلى أن أدب الرحلات كان، في زمن تأليفه، نوعا أدبياً مجهولاً أو مستهجناً. وهو ما يفسِّر، من جهة أخرى، صياغة العمل على هيئة عمل جغرافي مُشرِّف. إننا متيقنون الآن أن عمل المقدسي أقرب إلى أدب الرحلة مما هو إلى نمط آخر رغم جميع معطياته الجغرافية الجوهرية. وإذا لم يُدْرِج ابن النديم أية معلومات تتعلق بأدب الرحلة في (الفهرست) فلأن النوع ذاك لم يكن مألوفاً، وربما  لم يكن أحد ليغامر بالخوض فيه. هكذا علينا التوقف لرؤية الفترة التي ظهر بها مصطلح (الرحالة) ومتى قبلت الثقافة العربية الإسلامية  كتابته كأدب معترَفٍ به.

إن مشكلة مثل هذه هي غاية في الأهمية لأنها تشرح، بعيداً عن المقدسي، الدوافع المعقدة لعملية الكتابة وإشكالياتها في سياق تاريخي محدد. ولأنها تفسِّر أن (للمعرفة تأريخاً) مثلما للأشياء الأخرى تأريخٌ.

 

من هو المقدسي؟

لقد كتب المقدسي كتابه هذا بين الأعوام 985-990م وكان، كما يقول هو نفسه، قد جاوز الأربعين من عمره. ولقد حقق المستشرق دي غويه عمل المقدسي مع أعمال الأصطخري وابن حوقل ونشرها في المجلدات الأول والثاني والثالث بالتعاقب، في ليدن بين العامين 1870-  1877 كما حقق مؤلفات ابن خرداذبه وقدامة بن جعفر واليعقوبي وابن رسته وابن الفقيه ونشرها في المجلدات الخامس والسادس والسابع في السلسلة نفسها بين العامين 1855-1885.

 

والمقدسي هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن البناء البشاري المقدسي. ذكره ياقوت في (معجم البلدان) وهو ينقل عنه وصفه لمدينة بيت المقدس التي ولد بها وارتبط اسمه بها. ويدعوه ياقوت مرات بنسبته (البشاري) وأحياناً باسمائه الأخرى مثل ابن البناء.

ولد المقدسي كما يرى البعض عام 336 للهجرة أي سنة 947 الميلادية وتوفي سنة 380 الهجرية التي تعادل سنة 990 الميلادية. وللأسف الشديد فإن معظم معاجم الرجالات قد أغفلت ذكره، حتى أن معاصره ابن النديم صاحب (الفهرست) الشهير الذي صنّفه عام 377 الهجري لم يذكر عنه شيئاً مثلما لم يعرِّج على الكثير من جغرافيي المسلمين، وهو أمر يدلّ على عدم إيلاء الثقافة المعاصرة لابن النديم اهتماماً كبيراً لأدب الرحلة والرحلات.

أخيراً فإن الإشارات المبثوثة في كتاب المقدسي تدل على أن هذه الرحلة هي ثمرة سنوات طوال من الأسفار والترحال في أقاليم العالم القديم، امتدت من سنة 965 إلى 984 للميلاد.        

 

إذا لم يكتب أحد من المؤرخين المسلمين سيرة حياة المقدسي البشاري فقد كتبها هو بنفسه بالتفاصيل الدقيقة في (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم).

شاكر لعيبي

 

جنيف 20– 4-2002

 

 

 

 



[1]  أشاتمةٌ:  لم نتوصل إليها وربما عنت الزهاد العابدين.

[2]  ابن طيلون أي ابن طولون.

[3] يقصد فلسطين.

[4]  يبدو أن المقدسي يتكلم عن الشريس وهو ما تبرهنه نهاية فقرته. والشريس: نبت بشع الطعم وقيل: كل بشع الطعم شريس. والشرس بالكسر: عضاه الجبل وله شوك أصفر وقيل: هو ما صغر من شجر الشوك كالشبرم والحاج وقيل: الشرس ما رق شوكه ونباته الهجول والصحارى ولا ينبت في الجرع ولا قيعان الأودية وقيل: الشرس شجر صغار له شوك وقيل: الشرس حمل نبت ما. وأشرس القوم: رعت إبلهم الشرس. وبنو فلان مشرسون أي ترعى إبلهم الشرس. وأرض مشرسة وشريسة: كثيرة الشرس وهو ضرب من النبات. والشرس بفتح الشين والراء: ما صغر من شجر الشوك . الشرس الشكاعى والقتاد والسحا وكل ذي شوك مما يصغر.

[5]  يعني في سوق العطارين.

[6]  ما يرويه المقدسي هنا يدل على احترافه مهنة التجليد، وكان يومئذ يعتبر عملاً فنياً، بينما كان جده، كما يروي هو نفسه، معمارياً.

[7]  المنقلبة: أي أنه يحدد لنا اتجاه رؤية الخارطة على الوجه الصحيح لكي لا نراها بالمقلوب مثلاً.

[8]  الكلمة ترد عند المقدسي نفسه في الكتاب: "أما بردسير فانها كورة تلي المفازة لها صرود وجروم يسمونها بلسانهم كواشير قصبتها على اسمها".

[9]  أكرى الرجل: سهر في طاعة الله.

[10]  دانشومند: الحكيم العالم. قاموس الفارسية.

[11] كلمة (نشاسته) بإملائها المذكور تعني النشا، ومن المرجح أن تكون نشيسته بمعنى جلس أي الجالس أو الراكب على الخيل مما يفيد معنى الرسول أو رجل البريد.

[12] الزبيل هو الزنبيل.

[13] الشواني: ضرب من المراكب.

[14] السويق: غذاء يُتخذ من الحنطة والشعير.

[15] الجلبان:  يُستعمل حبه علفاً للبقر وقد يأكله الإنستن مطبوخاً.

[16] السيق: جمع سيقة وهو ما يستاقه العدو من الدواب.

[17] الطرّار: هو اللص وقاطع الطريق. قاموس الفارسية.

[18] يوم الفوّارة:  أحد أعياد المسيحيين.

[19] عيد بربارة:  أحد أعياد المسيحيين.