1. عهد فاضل     في الحياة

  2. علاء اللامي في السفير

  3. زهير كاظم عبود

  4.  فاطمة المحسن في جريدة الرياض

  5. الخليج الاماراتية

  6. مفيد نجم في البيان

  7. موقع جريدة الجزيرة على النيت 

  8. د. فاطمة القرني  في مجلة اليمامة

  9. بثينة العيسى/ أحمد عبد الحسين

 

أزمة شعر السبعينات في العراق... أزمة جيل عربي

عهد فاضل     

 الحياة     2003/11/7

 

في كتاب الشاعر العراقي شاكر لعيبي، عن التجربة السبعينية في الشعر العراقي (الشاعر الغريب في المكان الغريب) والصادر لدى دار المدى (دمشق)، عدد من المحاور المهمة التي تم العبور السريع معها، في الكتابات النقدية التي احتوتها الصحافة العربية في العقدين الأخيرين. وما قام به الشاعر والناقد لم يكن مجرد شرح أو تفسير لظاهرة شعرية، بل كان دخولاً في منطقة شبه مظلمة لها نظائرها في الشعر العربي، سواء في الشعر السوري السبعيني أو الشعر اللبناني من الجيل نفسه، ولا يخلو جيل السبعينات في مصر من الاشكال ذاته الذي أشار اليه لعيبي. وإن كانت الدراسة (أو الدراسات) التي طرحها تدور في تجربة سبعينات الشعر العراقي، إلا انها، ولا شك، تتصل، ضمنياً، بسبعينيات أخرى، شاءت المعطيات الخارجية توحيد إشكالها، إن لجهة الارتباط غير المشروط مع التراث، أو لجهة المد الجماعي الذي مثله ظرف تاريخي سياسي معين.

من المعروف أن جيل السبعينات الشعري العربي يكاد يكون من أكثر المظاهر الشعرية غموضاً والتباساً، فهو لم يكن الجيل الذي غلبت عليه صفة "الريادة" أو "التأسيس" كما اشتهر عن الستينيين وبعض الخمسينيين، ولم يكن الجيل الذي يقيم اتحاداً غير مشروط مع الثراث، كما عرف من شعرية الكلاسيكيين الكبار وغير الكبار. أي أن هذا الجيل وقع تحت وطأة "السبق" ووطأة "التجديد" في آن واحد. السبق الذي مثله "الرياديون" و"التجديد" الذي ينبغي حصوله على الأقل بوجه التقليدية. هنا يكمن الغموض في وصف تلك التجربة التي تتأرجح بين خروجها من الريادة ورغبتها في التأسيس، ما يفسر التجاور الحاصل في تجارب شعرية لا تنتمي، بالضرورة، الى المعطى نفسه، كما نجد محمد علي شمس الدين، في لبنان، الى جانب عباس بيضون ووديع سعادة، ونجد ممدوح عدوان، في سورية، الى جانب نزيه أبو عفش وفايز خضور. والأمثلة كثيرة. كما أن من عوامل التباس هذا الجيل هو "الهجر" النقدي الذي رافق تلك التجربة، ما جعلها تبدو عزلاء وتعطي انطباعاً خاطئاً بأنها لا تحمل دوافع ذاتية للقراءة.

في كتاب شاكر لعيبي تثار القضية، وإن يكن من غير المنحى الذي أشرنا اليه، على الأقل لأنه قرأ ظاهرة شعرية محددة، والتحديد، تماماً، في الشعر العراقي. يُسجل في هذا الجانب أن لعيبي أثار جدلاً نقدياً في الصحف ومختلف مواقع النشر، إن في كتابه الذي بين أيدينا أو في الردود على ما ذهب اليه. قرأت الباحثة فاطمة المحسن الكتاب وعلقت: "نحن نرى أن من المجحف أن تفتح معارك على هذه الدرجة من التساهل مع الذات، أو التعصب للجمع الذي يمثله الكاتب". وكذلك السجال الذي حصل بين حميد العقابي ولعيبي. لكن إثارة لعيبي للقضية اتفقت على نوع من التقويم المؤدي الى العزل أو التهميش، الذي رفضه المؤلف ذاته في تمهيد كتابه معتبراً أن "الطمس صار قاعدة لحياتنا الثقافية الشعرية". فكيف به، والحال هذه، أن يعيد إنتاج "الطمس" السالف من خلال الاختزال الشديد الذي وسم به تجارب معينة عندما يقول متحدثاً عن مرحلة بعينها: "أنتجت الكثير من الشعراء من دون جدوى: عبدالمطلب محمود ومرشد الزبيدي وخزعل الماجدي وساجدة الموسوي". فجمع شاعرة "أم المعارك" مع خزعل الماجدي، مثلاً، يخسر التحديد والتعريف، هذا فضلاً عن الفروق الجوهرية التي تمثلها تجربتهما. كذلك فإن الزبيدي دارس للأدب ومساهم في النقد كما نعرف في كتابه "اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق"، كذلك فإن الناقد والشاعر عبدالمطلب محمود صدر له عدد غير قليل من الكتب الشعرية، والقارئ يفضل معرفة كيف تكون "بلا جدوى" مجموعة من الكتب يصل عددها الى نحو الأربعين كتاباً(!) أي كتب هؤلاء الشعراء مجتمعةً، النقدية والشعرية.

 

ظاهرة شعرية

 

الأزمة والالتباس في الشعر السبعيني العربي عموماً، ينعكسان في القراءة وهذه ليست من مفارقات الأمور بل من لوازمها. لأن ليس من الممكن تحويل "الأزمة" الى صفة الا في الحال التي تكون فيها القراءة امتداداً غير مشروط للكتابة. كذلك فإن المفاهيم المستخدمة في القراءة قد تشكل موضوعاً قابلاً للفحص. تحدث لعيبي عن الدور الذي لعبته تغييرات "بنيوية على كل صعيد" وهي سبب خصوبة أو خصوصية الفترة السبعينية". ويجمل هذه التغييرات بـ"حرب أيلول في الأردن وتوقيع كامب ديفيد والانفتاح الاقتصادي في مصر والحرب الأهلية في لبنان..." الخ. هذه التغييرات يمكن أن تفسر الاجتماع السياسي وسواه، أما قراءة ظاهرة شعرية من خلالها فهي من قبيل التفسير أو ربما الاقحام في كثير من الحالات.

هنا يمكننا أن نسأل: لماذا نستبعد على الشاعر أن يربط الشعرية بتحولات سياسية واجتماعية معينة؟ ألا يمكن أن تكون هذه "الحقيقة" هي المسبب الأول في الالتباس الذي يمثله شعر السبعينات؟ أي أن السبق الستيني الذي حاصر السبعينيين قد يكون شكل سداً بوجه احتمالات تجديد أو خصوصية فانحرفت نحو "الجماهيري" الالتزامي كطريق إجباري بعدما حاز "الرواد" كل الانجازات؟ أم أن ما قاله لعيبي عن "قومجية" معينة في السياسة انعكست قومجية في الشعر؟ ربما. ومهما كان المعطى فاعلاً إلا ان النقد ينصب دائماً على المنجز الشعري.

يتكئ المؤلف على بعض الملاحظات التي دّنها بعض الشعراء والمثقفين، في الفصل الأول، حول تجربة الستينات، كالقول انها "ظاهرة ثقافية" وقول آخر ولكن عن الستينات السورية: "شعراء الستينات دخلوا عالم الشعر من دون وصاية داخلية ذات شأن وانهم جيل بلا آباء، وان الأبوة الحقيقية لهم كانت من خارج سورية: التأثر بالموجة العراقية واللبنانية الوافدة والشعر العالمي". هنا، وفي هذه السياقات يتحول المعطى الخارجي الى أثر فاعل، ولا يعود خارجياً بالمعنى الفيزيائي، بل من داخل اللحظة الشعرية التي هي مصير قلق التأثر الذي اعتبره هارولد بلوم دالاً إبداعياً.

يكاد يكون الفصل الثاني من الكتاب تأريخاً لسبعينات العراق الشعرية، كما نقلها لعيبي في لغة هي مزيج من التوثيق والتذكر الحميم اللذين أعطيا الفصل طابعاً شخصياً وأدبياً، من خلال ثانوية "قتيبة" وثانوية "المصطفى" ومتوسطية "الفلاح"، ففي الأولى يتذكر الدور الذي قام به الكلاسيكي عبد الأمير الورد، والناقد شجاع العاني. أما في الثانية فنجد بدرخان السندي. وتركي عبد الأمير في الثالثة. وكذلك لقاءات "كازينو أبي نواس" والدور الذي لعبته جامعة بغداد والجامعة المستنصرية. أما في مقهى البرلمان فكانت تتعايش: "الأجيال والتيارات وتتلاقح الأفكار والشعارات". وهو في إطار إشارته الى دور المدينة الجديدة في التواصل والانفتاح يشير الى أن بغداد السبعينات تبدو: "وكأنها تعاني اكتفاء بالذات الثقافية وكأننا أمام عقلية جزيرية مكتفية بنفسها ومنحنية على همومها المحلية الضيقة". ونرى في المقابل مدينة تنفتح على الشام، وهي الموصل، ولهذا يعتبر لعيبي أن مقهى البرلمان يمثل وضعية "مدينة بغداد تحت ظل فكر قومجي" منطلقاً من أنه ومهما مثلته هذه المدينة من انفتاح على العرب، فإنها في الحقيقة: "تعاني انغلاقاً فكرياً وروحياً عسيراً". ومن هنا نعود لنتذكر الاشارة في أول الدراسة الى أهمية المرحلة السبعينية بصفتها مناخاً عاماً، فتكون بغداد، في وصف لعيبي، دمشق أو القاهرة، في مقاربة ما لجهة ارتفاع "الالتزام" السياسي على الجمالي. والمصادفة تكاد تكون غاية في الدقة، فإن مقهى "الروضة" في دمشق، هو مقهى البرلمان في الوقت ذاته(!)

الهامشي والجوهري في الشعر العراقي المعاصر، هما مادة الفصل الثالث، في الكتاب، وتكثر فيه أحكام القيمة التي لم يكن الشاعر- الناقد مضطراً الى إطلاقها، على الأقل للوفاء بمتطلبات المنهج النقدي الذي هو في معظمه وصفي فاحص أكثر من كونه حكماً قيمياً ثابتاً. ربما لأن فصول الكتاب كانت في الغالب مقالات في الصحف، وهو ما يسمح أو يؤدي الى دمج القراءة بالتذوق، أو الوصف بالحكم. فميتافيزيقيا خزعل الماجدي "شاحبة واستعراضية". ومجموعة الجيزاني "الأب في مسائه الشخصي" "من أهم المجموعات الشعرية". ورعد عبدالقادر "شاعر جدي ومثابر ومجرب". أما عواد ناصر فهو "من محترفي الكتابة" وشعر خالد المعالي "يقدم مناسبة ثمينة لتناول مشكلة الاستسهال في قصيدة النثر العراقية"، وكذلك فإن شعر المعالي وعبدالقادر الجنابي "شعر لا تاريخ له". وهكذا في إطلاقية من دون حصانة قد يتم التغرير بالقارئ غير المطلع أو دفعه الى استلهام التهميش والابتسار الذي عرض فيه المؤلف تجارب شعرية تحتاج الى دراسة فاحصة منهجية أكثر من احتياجها الى حكم قاطع، وخصوصاً في الحال الاقصائية التي تعامل فيها لعيبي مع عدد من أبناء جيله.

أشار الكتاب طبعاً الى مفاهيم من مثل المدنية والريفية والحداثة، وقرأ نصوصاً أدبية على ضوئها، بل قسم لها فصولاً كما نرى في القسم الخاص عن كركوك الستينات ومدينة الثورة في السبعينات. لكن الواضح في هذه القراءات مبدأ الحكم المشوب بشيء من الابتسار والاطلاقية، ربما لأن المؤلف شاعر في المقام الأول فغلبت الصفة الحاكمة لديه على الصفة الدارسة، أو لأنه يتحدث عن مرحلة كان هو، في الأساس، واحداً من أركانها الموجودين.

نشر مؤلف الكتاب ملاحق في آخر الفصول لا تختلف جوهرياً عن المتن ذاته، إلا انها تنتمي الى فكرته وما يريد قوله. وكذلك نشر بعض الصور التي تعود لتذكر بالطابع شبه الشخصي في الدراسة أو التقويم والحكم. إذ ان مكان الصور، في العادة، هو في الدراسات التوثيقية أو الأرشيف، فما الذي يمكن أن تفعله في "دراسة"؟ المهم أن محاولة لعيبي تبقى في إطار من العمل على التوثيق أكثر من النقد، ولو أن الأخير نلمحه، أحياناً، عندما يتناول الكاتب جوانب لغوية وجمالية معينة. ويبقى الجانب الأساس هو في قيمة إعادة قراءة المرحلة السبعينية، في الشعر العربي، لما حملته من التباس وغموض وتجاهل وربما الكثير الكثير من عدم الاعتراف. واللافت أن الباحث في كتابه أعاد إنتاج الالغاء الذي طالما اشتكى منه هو نفسه والكثير من أبناء تلك المرحلة، وغير تلك المرحلة، ما يدفع الى الاعتقاد أن الباحث ناقش الأزمة بالأزمة ذاتها: الأداة بالأداة واللغة باللغة... والاقصاء بالاقصاء!

شاعر وناقد سوري.

 

 

أضواء على تجليات الظاهرة الشعرية العراقية الحديثة    .

قراءة في كتاب "الشاعر الغريب في المكان الغريب " للشاعر شاكر لعيبي .

علاء اللامي

 

توطئة : تفترض أية قراءة منهجية وصفية و تحليلية لأية ظاهرة إبداعية من داخلها أي  على يدي أحد المشاركين بنشاط فيها موازنة قلقة يندر التقيد بها على طول الخط إذ فيها يختلط ما هو حيادي بالمعنى المنهجي الوصفي للكلمة بما هو ذاتي من حيث كون صاحب المحاولة مبدعا وبما هو شخصي من حيث هو طرف محدد فردانيا في شبكة العلاقات الصانعة والمصنوعة في خضم تلك التجربة .ومن المفترض  أن لا ننسى مجموعة الضوابط والآليات المنهجية التقليدية أي السائدة نظريا وأكاديميا في هذا النوع من القراءات الوصفية التحليلية ذات الأهداف الإبستمية بالمعنى العام والثقافية الإبداعية ضمن نطاقات يرسمها الباحث في بدايات وفي خضم محاولته .في هدى  ذلك يمكن التأشير منذ البداية أن حيادا مطلقا في التحليل والوصف ومهما حاول الابتعاد عن الأحكام المعيارية القيمية هو أقرب إلى المحال منه إلى الممكن .وإذا ما قاربنا موضوع قراءتنا هذه في كتاب الشاعر  شاكر لعيبي وجدنا أن ما قد وصفناه بالأقرب إلى المحال قبل هنيهة قد صار محالا عنيدا . ولكن ما المقصود بالحياد تحديدا في موضوع الإبداع الشعري وضمن قراءة جريئة لتجليات الظاهرة الشعرية الأكثر حضورا وتعقيدا وتواشجا مع المعاش في المشهد الثقافي العراقي والعربي ؟ هل يعني الحياد عدم مقارفة التقييمات المعيارية والاكتفاء بالتحليل والوصف ؟ أم إنه يعني التسليم بشروط لا علاقة لها بالهم المعرفي والثقافي يفرضها بعض أو معظم أبطال ونشطاء وصناع وشهود تلك الظاهرة ؟ ليس مهما كما نعتقد الاصطفاف إلى جانب هذا التساؤل أو ذاك بمقدار ما هو أكثر أهمية وخطورة الاستمرار  في نشر و تجريب وابتكار شبكة حية من التساؤلات والأسئلة الباعثة على القلق المخصب والذي تقتضيه ضرورات أي بحث جاد نزاع إلى استخلاص ثوابته من مادته ومما حولها مقتربا أو على الأقل ضامنا للاقتراب المتواصل من جوهر الظاهرة المدروسة وتفاصيل وثنيات وتلافيف ذلك الجوهر .

البعد الآخر الذي يزيد من وهج وصعوبة محاولات من هذا النوع هو اختلاط ما هو إبداعي وهو الشعري هنا بما هو تاريخي أي ما هو جمالي بالآخر الوقائعي ليس فقط لأن ما هو إبداعي يملك تاريخه الخاص بل وأيضا وبالتشاكل مع ذلك لأن له تاريخا آخر قد يكون ضعيف المساس بما هو إبداعي ومقتربا من الحياتي العام بالمعني المجتمعي والحضاري .

إذا ما نظرنا نظرة شمولية إلى المادة التي اشتغل عليها الباحث ضمن هذه الشبكة المتداخلة من السياقات والاشتراطات وتذكرنا أو أخذنا بالحسبان أنها مادة ملتهبة لها ضحاياها و قديسوها وأبالستها ومتمردوها  وفيها مما هو مسكوت عليه أكثر مما هو مصدوح ومصدوع به سندرك مقدار الأهمية بل والخطر في هذا الكتاب ككل وشدة العناء المنهجي والشخصي الذي كابده المحاول وصولا إلى تقديم كتاب فارق ومرجع مفيد ضمن مراجع ليست بذات الكثرة في ميدانها إن لم تكن نادرة جدا ويقينا فإن أي باحث أو ناقد أو مؤرخ متصد  للظاهرة الشعرية العراقية في فترة الستينات والسبعينات ولنشاط الشعراء العراقيين في داخل وخارج العراق سيكون بحاجة أكيدة إلى الاطلاع على هذا الكتاب .

عرض عام : سنحاول الآن وبعد هذه التوطئة تقديم عرض عام لمتن الكتاب ثم نناقش عددا مما بدا لنا الأكثر أهمية وإثارة للجدل الخصب من موضوعات الكتاب :

بعد تمهيد قصير ومكثف سعى المؤلف من خلاله إلى التعريف بالكتاب وموضوعه نقرأ مقدمة نظرية تحت عنوان " مقدمة للشعر العراقي الحديث / محاولة لتأسيس رؤية جديدة " وسنلاحظ هنا أن دواعي الكثيف ربما كانت السبب في حرمان القارئ من معرفة هوية تلك الرؤية وهل هي رؤية عامة ذات منحى انطباعي أم إنها رؤية نقدية جديدة غير إننا سنعرف الإجابة هذا التساؤل بعد الاندراج في قراءة وتفحص نص المقدمة التي سنعود إليها بعد حين . بعد المقدمة نطالع الفصول الثلاثة التي يتألف منها الكتاب وهي على التوالي :

الفصل الأول : الشاعر الغريب في المكان الغريب / بيان الحداثة الريفية .

الفصل الثاني :السبعينات : جيل الهوية الشعرية الكامنة .

الفصل الثالث : الهامشي والجوهري في الشعر العراقي المعاصر .

وإضافة إلى ما سبق ثمة ثلاثة ملاحق هي على التوالي :

-          الشاعر الغريب في المكان الغريب .

-          السبعينات : إرث القمع الثقافي وسطوة الأبواب الشعرية العربية .

-          الشاعر الغريب في اللغات الغريبة .

-          لتنهي الكتاب بمسرد للمصادر والمجاميع الشعرية وبعض الوثائق " الصور" الفوتوغرافية التي لا تخلو من أهمية التأرخة الصورية للموضوع إنما المطبوعة بشكل سيئ أفقدها الكثير من قيمتها الأرشيفية .

 

دحض التجييل العشري : بدءاً نود الإشارة إلى إننا سنستعمل كلمة التجييل أي التقسيم الزمني إلى أجيال خارج معناها القاموسي المحدد حيث الجيل يساوي  ثلث القرن أي ثلاثة وثلاثين عاما تقريبا  وسنأخذ بالمعنى المتداول والسائد  والذي أخذ به الباحث حيث الجيل يعادل العقد من السنوات .

  يفرد لعيبي مساحة وسعة من متن بحثه ومن تركيزه التحليلي على موضوعة التجييل العشري في الشعر العراقي . والمقصود بهذه الموضوعة هو سيادة تقسيم زمني محدد بعشرة سنوات " سنوات وليس أعواما "  يأخذ طابعا هوياتيا وتصنيفيا نقديا فثمة الجيل الخمسيني فالستيني وبعده يأتي السبعيني أما الثمانيني فلا يستعمل إلا لماما  وتطلق أحيانا تسمية الرواد على شعراء عقد الأربعينات والخمسينات وفي أخرى يستعمل الباحث اسم الرواد لشعراء الأربعينات فقط كما في  ص 21  .

 يلخص لعيبي مهمته في التأسيس لتصنيف جديد ( يريد أن يهجر نهائيا التقسيمات العشرية التي دأب عليها النقد في العراق . ص18) مشخصا خطل تلك التقسيمات العشرية تشخيصا لا تنقصه الدقة حين يصفها  بأنها تقسيمات ( تبدو  لفرط هشاشتها وكأنها تلقي بفكرة القطيعة التامة بين الشعراء المختلفين بالسن كما بفرضية إضافات جوهرية تحدث كل عشر سنوات ، وهو أمر ليس صحيحا أبدا إذا لم يكن محض طرفة وفكاهة . م س ) هذه هي الفكرة الجوهرية التي تنهض عليها المحاولة النقدية التي يقدمها لنا لعيبي بلغة تميل إلى التفاصيل الموثقة والمنتقاة بعناية نقدية قد تخف   أحيانا ولكنها تظل حاضرة  على وجه العموم ، ومع أن هذه اللغة التفاصيلية نادرة غالبا في الكتابات النقدية العراقية لأسباب ذاتية أكثر منها موضوعية وتتعلق خصوصا بتحبيذ الكتابة على طريقة " حروف ولا نقاط  " إذ لا وجود لأسماء العلم ،التواريخ ،الحيثيات ، الأرقام والمعطيات الموثقة مخافة ردود الأفعال السجالية في ساحة أضحت القسوة والتوتر والأحكام المسبقة و تصفية الحسابات  الثأرية هي مفرداتها الأكثر رواجا  ، أقول : إن اللغة المشحونة بالتفاصيل والوقائع التي لا تبدو نافرة أو نافلة إلا في القليل النادر  هي التي ستمنح  نص لعيبي مذاقا نوعيا مختلفا  وعمقا منهجيا لا ينكر  يسهلان المقاربة ويمنحانها بعدا تحليليا متحركا باستمرار يقرب النص النقدي المنجز من أهدافه ويخففان من الشواش المصاحب لكل محاولة نقدية جريئة تروغ إلى التفاصيل والجزئيات حيث يكمن الشيطان كما يقول الساسة !

يسجل الباحث البواعث الرئيسية لرفضه للتقسيم العشري السائد في المبررات النظرية التالية وسنستعمل مفرداته ذاتها  :

-          إن تضخيم الفروقات بين شعر الأجيال المختلفة هو أمر افتراضي ومتخيَّل .

-          إنه تقسيم قائم على تراتبات وأنساق فكر اجتماعي ذي طبيعة غير شعرية .

-          إن التجارب والهموم الشعرية للفترة موضوع التقسيم العشري  متداخلة .

-          إن وطأة العالم الخارجي قد أثقلت بشجونها على جميع الفترات " الأجيال ؟ " .

أما خلاصة البديل الذي يقترحه لعيبي لهذا التقسيم فيجب أن تستند - بحسب الباحث -  إلى ما يسميه ( جدل يليق بحركة الأشياء في العالم لا يتوجب تخطيه لصالح الفكر التجريدي المهوِّم  ويتوجب بالتالي التشديد على خصوصيات تطور الشعر العراقي الحديث في فتراته الموصوفة ولكن بوضعها في إطار الاستمرارية والنمو وليس بإطار القطيعة المزعومة . م س)

في هذه الأسطر القليلة تلوح عدة فكرات نقدية مصاغة بهذا القدر أو ذاك من الدقة الاصطلاحية والتي قد يرى فيها البعض مفردات تخص قاموسا شخصيا أكثر مما تعود بأرومتها النقدية لقاموس مفترض و متعارف عليه في النقد العراقي ولعل أهم فكرتين من هاتيك  الفكرات هما :

-          التعويل على جدل حياتي يريد مقاربة الظاهرة عوضا عن ، وبالضد من مساطر وبوصلات نقدية احترافية أثبت المنجز النقدي العراقي أنها فقيرة إن لم تكن  عديمة الجدوى ونعتقد من جانبنا أن هذا التعويل قد اختار الدرب الأصوب ألا وهو الدخول في الظاهرة المبحوثة عبر التحليل النقدي والوصفي للنماذج الأهم والأخطر المسجلة في الشعرية العراقية الحديثة بدلا من اللوبان والطواف حولها .

-          الفكرة التأسيسية الثانية الواردة في الخلاصة السالفة هي في محاولة  ترهيم مركب تنظيري يقوم على ركيزتين مندمجتين الأولى تشدد على خصوصية التجربة الشعرية العراقية والثانية تبغي  غرس تلك الخصوصية في إطار الاستمرارية والنمو وليس القطيعة .

 

 بعد هذه الحصيلة التأسيسية المكثفة ينطلق لعيبي في نص تحليلي ممتع وموثق بحرص  ليقرأ لنا ومعنا أبرز تمظهرات وشواخص التجربة الشعرية العراقية الحديثة في بداياتها محاولا دحض التجييل العشري عمليا وبالأمثلة ، حيث يبدأ بتسليط ضوءه النقدي على تجارب البياتي والحيدري والبريكان وسعدي يوسف وشاذل طاقة  وهذا الأخير  ينصفه الباحث في التفاتة شهمة  قلما نجد نظيرا لها في النقد العراقي وخصوصا ذلك المثقل بروائح الأيديولوجيا  . وبعد عرضه الوصفي يتوصل الباحث إلى خلاصة تحليلية أخرى قد تبدو أقل من المطموح إليه ولكنها ستفسر لنا على الأقل التداخل بين تسميه الرواد والخمسينيين فهو يقول ( إن كلا من جيل الرواد وما يسمى بالخمسينيين يشكلان تقريبا ، نهجا متماثلا في إنضاج وتطوير القصيدة العراقية الحديثة وذلك مهما تنوعت أساليب تعبيرهما .ص21 )  إن كلمة "تقريبا" الواردة في المقبوس السالف لا تقلل من أهمية هذه الخلاصة ولكنها توضح لنا المدى المتدرج الذي اختطه الباحث لتأكيد المقدمات التي اقترحها على قارئه كبداية نحو النتائج ذات الصبغة الحُكْمية مهما حاولت النأي بنفسها عن المعيارية الحاسمة . وبذات الكثافة يواصل الباحث تفحص ميدانه في مقدمة الكتاب مرورا في المراحل العشرية التالية خاصا الستينيين بأهمية توازي أهميتهم الإنجازية في الشعرية العراقية التي تنتهي بما يسميه لعيبي " الحقبة الثالثة " بعد الحقبة الأولى " الرواد والخمسينيين " والثانية "الستينيين " و الثالثة التي تغطي العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم أي منذ سنة 1970 وحتى 2000 . وقد يخامر القارئ سؤال لا يخلو من الطرافة والمكر  يقول : ترى  هل تم استبدال التقسيم العشري بتقسيم ثلاثيني ؟ غير أننا لو رفعنا التحديدات الرقمية لوجدنا قراءة نقدية ناضجة تقوم على المقدمات النظرية المعروضة في البدايات لمرحلة هي الأخطر والأثرى في تاريخ الشعرية العراقية بل والعراق الحديث  عموما  ، مرحلة يمكن لنا الكلام عنها بوصفها ذات سمات خاصة  " فينومينولوجية غالبا " وبشكل أكثر حرية وسهولة من غيرها من المراحل .

المربك والمثير للحيرة فعلا ليس هنا ، بل في العرض الوصفي والتحليلي للمراحل السابقة الخمسينية والستينية والسبعينية حيث  يتكرس لدى القارئ مفهوم يقول بأن الباحث أعاد التجييل العشري من النافذة بعد أن طرده من الباب ؛ وأنه ، وبعد أن أعلن عن استراتيجيته النقدية القائمة والمستهدِفة  دحض هذا التجييل ، عاد فاعتمده وأَخَذَ به أَخْذَ المعتقدِ بصحته وصوابه  ،   ويبدو أن الباحث نفسه قد تحرز مسبقا من خاطر -كي لا نقول اتهاما كهذا  - فكتب مفسرا في تمهيد الكتاب إن ( إطلاقنا صفة " جيل السبعينات " مرات في هذا البحث على هذه الفترة ، يستجيب للشائع المعروف من أجل مناقشته فحسب ولا يتعارض مع قناعتنا بخطأ التقسيمات العشرية للأجيال في العراق المعاصر . ص9 ) إذن فهو يستجيب للشائع الخاطئ بهدف مناقشته وليس سهلا على كل حال إقناع القارئ بكفاية ونجاعة هذه الصيغة الملتبسة والتي لا تخلو من التبريرية . مع التذكير بأن الأمر لا يتعلق باستعمال عبارة " جيل السبعينات " فقط بل باستعمال الترسانة العشرية كاملة من قبل الباحث و بإصرار يضيع فيه الفرق بين المدافع عن هذه التقسيمات وبين لعيبي الذي يتصدى لدحضها وتفنيدها والتدليل على انعدام قيمتها النقدية ، بكلمات أخرى إن القارئ سيجد نفسه على المستوى التقريري بحاجة إلى القيام بعملية "فض اشتباك نقدي " بين لعيبي الهادف لدحض موضوعة التجييل العشري ولعيبي الآخذ بها كركيزة اصطلاحية مهمة في طول وعرض الكتاب . إن هذا المأخذ - إن كان لنا اعتباره مأخذا - ليس مجرد خاطر سريع قد يبرق في ذهن القارئ بل هو أقرب إلى القناعة التي تتشكل رويدا رويدا وبتتالي قراءة صفحات الكتاب بل يمكن القول أن الباحث نفسه قد تلبسه  هذا الخاطر - ربما بفعل قوة العادات -  فعلق في هامش سريع لا يخلو من التلميح  على محاولة الشاعر خالد المعالي ( إدراج صورة فوتوغرافية له بين صور  توثق لجيل الستينيات في العدد المكرس لهذاك الجيل في مجلة فراديس ونحن نعلم بأن الصديق الشاعر ليس من ذلك الجيل . ص39) ..غير إننا يمكن أن نجد تعلة رصينة  لما يفعله الباحث في أنه قد يكون أراد دخول المنظومة النقدية الستينية والسبعينية خصوصا القائمة على التقسيمات العشرية ليفككها تحليليا من الداخل ويفند الرواية " الرسمية " التي تقدمها هذه المنظومة المنحازة قيميا  لتجليات الظاهرة الشعرية العراقية الحديثة ليقدم بدوره  روايته هو المختلفة وبعمق عن الأولى ، و من الواضح لمن سيحكم على الكتاب ككل وكمحاولة مندمجة عضويا  لا كصفحات وفقرات مجتزأة  أنه نجح في هذا المسعى فقدم رواية هي الأكثر جرأة من مثيلاتها والأكثر سعيا إلى الدقة المنهجية والإنصاف القيمي مع بعض الاستثناءات المشدودة إلى خلافات ذاتية الطابع وإشكالات لا علاقة مباشرة لها بالميدان الإبداعي ، وحتى في تلك الاستثناءات فقد ظل لعيبي أقل قسوة وأكثر عدلا بما لا يقاس ممن تعرض له وأكاد أقول سجاليا وليس نقديا . وفي هذا الصدد ثمة مثال معبر :  ففي الوقت الذي يصر شاعر عراقي معروف  على تجريد لعيبي من شعريته المعترف بها عربيا وليس عراقيا فقط يصر لعيبي على استذكار جميع الشعراء العراقيين المعروفين وغير المعروفين على نطاق واسع وحتى المنسيين أو المعتم عليهم لهذا السبب أو ذاك بل إنه يفرد فقرات سخية ومكتوبة بحرص يتفادى سوء الفهم قبل سوء النية وسوء التفسير لصاحب الاسم الذي قسا عليه أو حاول الشطب على إنجازه وأصر على عدم الاعتراف بأنه شاعر لأسباب يصعب اعتبارها ذات وشيجة بميدان الإبداع الإنساني الأرقى  والأنبل ألا وهو الشعر . وثمة مثال آخر يحتفى به  في هذا السياق إذ يطنب لعيبي وبلغة احتفالية ونقدية تعريفية في تقديمه لشاعر عراقي لم ينل حقه من النقد والمعروفية على الرغم من قوة  و  تَمَيز منجزه الإبداعي  الذي يقنعنا لعيبي بقوته وبهائه ألا وهو الشاعر "جلال وردة " فيخصص له لعيبي ست صفحات من متن كتابه  هي الأرق  والأرصن نقديا . هذه الوقفة لشاكر لعيبي عند منجز جلال وردة ستتكرر عشرات المرات مع أسماء أخرى لشعراء عراقيين من جميع الأجيال والمشارب الشعرية الأمر الذي يمنح الكتاب بعدا جديدا هو البعد النقدي التقليدي  إضافة إلى مهمته التأسيسية الأرأس المتضمنة في استراتيجية دحض التجييل العشري و تقديم رواية جديدة وخاصة بالباحث نفسه للتجربة الشعرية العراقية الحديثة تتقاطع وتتصادم جذريا مع الرواية السائدة " الرسمية " . 

  غير إننا من جانب آخر لا نعدم أن نجد في ثنايا كتاب على هذه الدرجة من الجدة والجرأة  في تصديه للمسكوت عنه وكذلك للمحكوم ببداهة المتواطَأ عليه من قبل السائد النقدي الكثير من الاستغراقات والالتفاتات النافرة هنا والتفاصيل التي لا ضرورة نقدية لها وهناك والعديد من الأحكام القيمية المتسرعة أو ذات الطابع الشخصي والآني والتعريفات التي تحتاج إلى إنضاج وتمهل أكثر مما تحتاج إلى التقديم عبر الدوي البلاغي والتداخل التنظيري غير المفسر .

قصارى القول هو أن كتاب " الشاعر الغريب في المكان الغريب " للشاعر شاكر لعيبي ورغم كل ما سيقال ويكتب معه أو ضده سيسجل كمرجع نقدي جرئ وموثق بجدية وكشهادة حارة وغنية بالمعطيات من أحد المشاركين في صنع الظاهرة المبحوثة ، كتاب  لا مندوحة لكل من يريد الولوج إلى عالم الشعرية العراقية الحديثة بهدف التعرف عليها نقديا  من الوقوف عنده وقفة تفاعلية قد تطول .. 

2005/02/04  السفير البيروتية

 

 

 

 

 

شاكر لعيبي

الشاعر الغريب في المكان الغريب

 بقلم: زهير كاظم عبود

 

       يسعى الشاعر شاكر لعيبي الى تقديم صورة وصفية للتجربة الشعرية في سبعينات العراق ،  ومن خلال هذه الصورة يدخلنا معه في سياقات موضوعية وفحوصات نصية بالنظر لما تضمنته فترة السبعينات من تطور ثقافي ونمو شعري متاثرا بفترة الستينات مع فصل المرحلة التي يعالجها الشاعر شاكر لعيبي ،  ولهذه الفترة خصوصيتها وتغيراتها البنيوية على كل الأصعدة ، ومع أن أطلاقه لجيل السبعينات أستجابة للشائع المعروف دون أن تتأثر قناعة لعيبي بخطأ التقسيمات العشرية للأجيال العراقية المعاصرة .

يقدم الكاتب مقدمة للشعر العراقي الحديث كمحاولة لتاسيس رؤية جديدة مستذكرا اسماء تمثل نسق المعرفة الشعرية ودورهم في رصد التغيرات الحاصلة ، مع رؤية نقدية لتطور الشكل الشعري وبروز قصائد تدل على انسلاخ جزئي من العروض ومن فكر الماضي وتدل في نفس الوقت على بقاء نسبي في نمط اللغة الشعرية السابقة .

واذ يجد لعيبي ان موضعة المشكلات التي يطرحها في السياق ليس بالضرورة ان يرتدي الشعر معطفا سياسيا لكنه لايبرهن بالملموس على ذلك ، أذ يدرك أغلبنا أن لم نقل الأعم أن الشعر أرتدى معطفاً سياسياً في الستينات ، ويمكن أن نثبت ذلك بالأصطفاف السياسي للشعراء كل وفق رؤاه السياسية وعقيدته .

ثم يذكر لعيبي أن الستينيون وجدوا مرحعا لهم عند الشعر الأمريكي، ولأثبات ذلك يشير في هامشه ص 46 أنه من بين الكثيرين يشير الشاعر هاشــــم شفيق الى ان قصيدة العزاوي ( لنخرج الى العالم وننسفه بالقنابل ) هي محاكاة لقصيدة غينسبيرغ ( عواء ) .

وأذ يورد تجسيداً للعالم المتخيل المبتني عبر الترجمة قصيدة أنور الغساني والذي يدل على تأثير كلمات الترجمة على الشعر .

ويختلف لعيبي مع الشاعر فاضل العزاوي الذي يعتقد ان الستينات كانت مدرسة ادبية او فنية موحدة ، بينما يرى لعيبي هذا الأمر في مدينة واحدة انتجت ( جماعة كركوك ) هم جزء من الفاعلية الأبداعية لثقافة بلد محكوم تاريخيا ولغويا بالتنوع الأثني ، وأن حيوية هذه الجماعة لاتدلل على أمتداها الزمني بدليل أن الشاعر سركون بولص يتمتع بطاقة ابداعية لاعلاقة له بالبيئة التركمانية مع انه ولد وسط كركوك .

ويقول الشاعر شاكر لعيبي ( أن اعتبار المنجز الشعري الستيني هو الأضافة الجذرية في الشعر العراقي الذي قاد الى ظلم الشعر العراقي  ) . ولهذا فأن ماانجزه الشعر في الستينات يمثل الأضافة الى الكم الهائل من الأرث الشعري الذي يزخر به العراق وتلك حقاً التفاتة صادقة في توصيف الواقع ، بالنظر لوجود الجذر الشعري أصلاً في أرض العراق ، وماشعر الستينات الا الأضافة الجذرية التي وصفها الشاعر لعيبي في دراسته .

اما جيل السبعينات فقد شهد تشظياً لامثيل له من خلال تقلص التعددية التاريخية في العراق الى محورين متعارضين بالرغم من ظاهرة التحالف في حينها ، مما أثر على أنحسار العمل الثقافي وتخلف الأبداع ، وما جائت به اللغة الهجينة التي ارادتها  السلطة في الأرتزاق والتهميش وعدم الاعتراف بالآخر والمسير بخطى مرسومة وتحت المراقبة الدقيقة  .

 


مؤلف الكتاب: الشاعر شاكر لعيبي

 

وفي سرد تفصيلي لأسماء مبدعين وحركة شعراء ونماذج لم تزل تزهو بين القصائد كما في  (  الأعمى بشار بن برد ) للشاعر العراقي عبد الحسن الشذر على سبيل المثال .

وفي مقاربة ذكية يشير الشاعر لعيبي الى رمز جنوبي باهر مقيم في العاصمة العراقية بغداد تلك هي (منطقة الثورة)  المنطقة التي قدمت للعراق العديد من الشعراء والفنانين والمثقفين المتميزين والمبدعين الذين خرجوا من بيوت الفقراء وأزقة الكادحين، والذين كان لهم التأثير الملموس على واقع حركة الثقافة في العراق ، وضمن الأستذكارات المضيئة يورد (ثانوية قتيبة للبنين) ودور الشاعر عبد الأمير الورد أو الناقد شجاع العاني أو بدرخان السندي أو تركي عبد الأمير ومايكتبه الطلبة حينها، جميل الساعدي ومحمد عبد الكريم .

وفي أستذكارات جميلة يعود لعيبي بالذاكرة الى بدايات الحركة الشعرية وأرهاصاتها الروحية وتمارينها الأنسانية، والتي ولجها لعيبي من أحياء الفقراء وبيوت المهاجرين الى مدينة تتسع لكل الشعر على مدى الزمن المفتوح ، ويعرج ايضاً الى أسماء لمعت في مجال القصة والمسرح ، ويتحدث لعيبي عن تجربة الأقسام الداخلية ودورها كبديل عن المقاهي المفتوحة وتحويلها الى منتديات لجدل ثقافي ثر . ويتحث أيضاً بأختزال من لايريد أن يتحدث عن المحنة التي عاشها جيل السبعينات في الملاحقة والمطاردة والتضييق والأرهاب الذي مارسته السلطة لتحجيم دور المثقف العراقي غاضاً النظر عن السرد التفصيلي لدوره ومكتفياً بالتلميح في مقاربة متواضعة وأصيلة .

وأذ يحق لي أن اتحدث بشيء من المتعة فقد امتعني الشاعر لعيبي بما اورده من ذكريات الأمآسي والتحدي والجمر الذي عاشه بالذات وسط ارتطامات سياسية حادة كان فيها الشاعر يحارب بالكلمة سلطة لها الف مخلب يذبح من الوريد الى الوريد ، والتي بدأ فيها المثقف يلوذ بغربة المنافي مرعوبا وملتفتاً خلفه لئلا يصله صليل المخالب حتى في منفاه .

ويمكن أن يشكل الفصل الخاص بالذكريات التي أوردها لعيبي تجسيداً لمعاناة العراقي ، وتصوير حقيقي لمعاناة كبيرة مر بها الأنسان في العراق ، كان لعيبي أميناً ليس فقط بكل ما مر على باله بل بكل مامرت عليه من أسماء وأماكن وأرهاصات أنسانية سرت داخل روحه التي بدأت تستشعر الخطر وتقتل الشعر والكلمات وتوقف ايام حياته  .

ثم يسترسل لعيبي في الفصل الثالث من كتابة للتحدث عن الهامشي والجوهري في الشعر العراقي المعاصر ليتطرق الى حقيقة الى ازدهار الشعر في المهاجر ، وانفصال تطور هذا النمط الشعري في خلق جيل ادبي متمايز ( نلاحظ نتاجات الشاعر المبدع هاشم شفيق من بين أحد عشر أصدار كان بينها واحد فقط في الوطن ( قصائد أليفة ) بينما أصدر أقمار منزلية وشموس مختلفة وتوافذنا ونوافذهم وأوراق لنشيد ضائع وطيف من خزف وصباح الخير بريطانيا وأعادة نظر ونشاهد صامتة وورد الحناء وغزل عربي جميعها في مهاجره المتنوعة بين بيروت ودمشق وبودابست ولندن ) .

وتعتبر الناقدة فاطمة المحسن الى أن شعر المنفى هو قبل كل شيء أمتداد لشعر الداخل ، مع أن وجود أنشطار واضح بين ثقاافتي وشعري الداخل والخارج كما يذكر الكاتب في الصفحة 151 .

ويذكر الكاتب أمثلة شعرية في فترة السبعينات منها الشاعر جلال وردة وهو شاعر يجيد الشعر بالعربية والكردية، وكزار حنتوش الشاعر الموهوب، وهاتف الجنابي وعواد ناصر وصاحب الشاهر وعلي عبد الأمير وبرهان شاوي وأسعد الجبوري وعبد الزهره زكي ودور مجلة الثقافة الجديدة ورئيس تحريرها الشهيد صلاح خالص في دفع الأسماء الشعرية وأنبثاقها الى الواجهة، ونفى الكاتب بروز شاعرات في فترة السبعينات .

وعن شهادته عن الشعر العراقي السبعيني في المنفى يعتبر شاكر لعيبي المكان خط مادي في اثيرية الشعر وان المكان انعش القصيدة وحررها من القيود التي تحيط بها في الوطن ن وصيرورة المكان اثرت بشكل ملحوظ لما جرى التعود عليه وتمرد على الاستكانة والاستتباب بالرغم من اعتقاده بأن الثقافة لاتنتعش في أجواء المنفى الا ان الحقيقة ان علاقة المكان علاقة تبادلية بين طرفين ثقافيين ، بدليل أن آفاق لم يكن لها أن تنفتح بدت اكثر انفتاحاً واثراً .

ثم يتطرق شاكر لعيبي الى الأرث الذي خلفته فترة السبعينات ،  والتردي العام في الثقافة بتأثير السلطة التي عكست سطوتها وهيمنتها على كل شيء جميل .

وفي خضم كتابته عن التجربة السبعينية للشعر والترجمة الى اللغات الأجنبية يعالج الموضوع من زاوية ضيقة حين يسرد لنا مثالاً في ألغاء كل من الشاعر عبد القادر الجنابي والشاعر خالد المعالي بعضهما ، دون أن يتطرق الى المنجز والمساهمة الفعالة لدورهما في توسيع كوة المعرفة الثقافية ومهمة ترجمة الشعر ،  غير ان الشاعر لعيبي يعود ليؤشر على العلاقة الجديدة التي فرضها المكان الغريب على الشاعر الغريب ، وتأثير الأستجابة مع الشائع يطلق لعيبي لفظة شعراء السبعينيات من اجل المناقشة فحسب وليس من اجل التقسيمات العشرية للأجيال العراقية في العراق العراق المعاصر التي لايقتنع بها مطلقاً .

ويعالج الشاعر شاكر لعيبي في هذا العمل الشعر المنفي قبل السبعينات وبعد السبعينات وأثر المكان والزمان عليه ، بالأضافة الى طبيعة الشعر نفسه في كل هذا دون أن ينسى تأثير ماكنة النظام البائد الضخمة على مجمل حركة الشعر سواء في الداخل أو في المنفى ، ومن أهم مايعالجه لعيبي فكرة صعود شعراء من الريف العراقي  أو من المدن النائية والفقيرة في فترة السبعينات وتمكنهم من الطلوع الى صدارة العمل الشعري في السبعينات والأسباب الحقيقية وراء ذلك .

تكمن المعالجات التي اوردها الشاعر شاكر لعيبي في هذا البحث الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر عام 2003 في جديتها وواقعيتها من خلال التجربة الذاتية التي تكاد ان تتطابق مع تجربة لعيبي ، كما أنه يمهد للبحث بتوقعه عدم رضا اغلب ممن تم الأستشهاد بهم من الشعراء بسبب تصوراتهم غير الأعتيادية عن اعمالهم ، لكن ثقته برضا القاريء والجمهور الأوسع التواق لمعرفة الطرق والأسباب والنتائج التي خاضها الشعر في العراق المعاصر بفترة كان الناس سيلمسسون التناقض الحاد بين السلطة والحلفاء وبين السلطة والجماهير وبين الحركة الثقافية التي افلتت من أصابع السلطة وبدت تأخذ دورها الواضح ومن ثم في محاولات القمع الثقافي والتقييد الفكري الذي حل كأسلوب للعمل في السلطة التي نهجت ذلك وكان شاكر لعبيب شاهداً من شهود تلك الأحداث المتناقضة ، بل هو ونتاجه الشعري نتيجة من نتائج الأغتراب والنفي والهجرة التي عاشها جيل من العراقيين في المنافي وهم يحملون أبداعهم وألتزامهم السياسي والأخلاقي والثقافي .

 

 

خفايا الصراعات بين الأجيال كما يسجلها شاكر لعيبي

  جريدة الرياض   الخميس 07 رجب 1424العدد 12858 السنة 39     Thursday 04 September 2003 No. 12858 Year 39

 

 فاطمة المحسن

لطالما بحث القارئ عن كتب تخرج عن التصنيف المتداول للكتابة حول التجربة الشعرية، أي طابعها البحثي أو الانشائي، أو تبنيها هذا النهج الجمالي أو ذاك، إلى ما إليه من طرق تتشابه في تشخيص الظاهرات الشعرية. وها نحن نعثر على كتاب يترك جانباً كبيراً من رغبة الدارس في موضعة نفسه خارج المادة التي ينوي فحصها، ليشتبك معها بجماع عاطفته وبانفعالاته التي تساهم الكتابة في تأجيج لوعتها، حتى يود القارئ مرات أن يقول لصاحبها: كفى، فما كل ما يفكر به المرء يكتبه!.
غير أن لكتاب الشاعر العراقي شاكر لعيبي المعنون (الشاعر الغريب في المكان الغريب - التجربة الشعرية في سبعينات العراق)* نكهة أخرى، فهو يحوي يوميات تلك الفترة، ويسجل أقاصيص الحياة والمقاهي، وصداقات تمر في أزمنة صعبة وأخرى رخيصة، ومشاعر فياضة لطالما أهملت وتنحت عن عين الرصد أو كُتبت بأقنعة الأدب أو هُذبت وصقلت حتى فقدت لون معدنها الأصلي.
هذا الإصدار يعلن عن طفولة وبراءة كاتبه، رغم ما تنطوي عليه هذه الطفولة من شعور خطير بالاضطهاد، وهو العلة التي عقرت الكتاب ومنعته في مواقع كثيرة من أن يكون بريئاً بهذا المعنى. فالكثير من فرضياته تتغذى على عنصر الغضب وهو امتياز الكتابة الشابة المندفعة.
كتاب لعيبي في الأصل مجموعة مقالات كتبت في مناسبات متفرقة، ومعظمها يعقب على قضايا سبق أن كانت موضع نقاشات بين الكتاب العراقيين في الداخل والخارج، وخاصة ذلك الجدل الذي أثير على صفحات الصحف العربية حول أدب الداخل والخارج أو الثقاقة الستينية والأزمنة الثقافية الأخري، وصراعات الأجيال، ومن هنا تظهر الحاجة إلى إعادة تحرير مادته كي تنتظم في بنية متماسكة وكي تختزل التكرار والتناقض الذي يحفل به.
تتصدر الكتاب مقدمة يقول المؤلف فيها إنه يقدم صورة وصفية لحالة الشعر العراقي سنوات السبعينيات، منطلقاً من غياب المتابعة النقدية لهذا الشعر، وهذا الغياب يشكل غرضاً مقصوداً كما يورد بالنص: "نفي هذه الفترة السبعينية الحيوية يغدو القاعدة الذهبية، سواء بالنسبة للثقافة الرسمية أو بالنسبة للأجيال السابقة واللاحقة، وعلى الأخص من طرف الجيل الستيني الشرس والحيوي الذي أتيحت له كل الظروف في داخل العراق كما في خارجه، للبقاء سيداً في المشهد الشعري".. إنه يفتح الصفحة الأولى من معركته مع الجيل الذي أثار غيظ كل الأجيال، فالسطح المتطامن للثقافة العراقية منذ مطلع القرن العشرين حتى نهاية الخمسينات لم يشهد إلا القليل من المعارك التي كانت تدور في الخفاء وبين شاعرين متنافسين في الغالب، ولكن سنوات الاحتدامات السياسية التي رافقت الانقلابات العسكرية، كانت وراء تطورين شهدهما الشعر باعتباره الفن الأكثر شيوعاً بين أصناف الكتابة عند العراقيين: الأول توسع دائرة المشاركة وتحديد الهويات والانتسابات للمدن، والثاني جرأة على كسر المتعارفات الشعرية والإعلان عنها من خلال منابر صحافية سيطر عليها الشعراء أنفسهم. ورافق هذين التطورين دفاع عن التجربة ا
لجديدة عبر تصريحات ومقالات تنطوي على لغة متحدية غاضبة لاغية لخصومها، تتكلم باسم جيل بأكمله. بيد أن المدرسة الستينية كما يشير المؤلف في كتابه، لم تكن متماثلة من حيث تصورها الجمالي ومضامين خطابها وحتى طريقة تقديمها لنفسها كممثلة للشعرية الجديدة، على هذا يغدو الحديث عن الستينيين باعتبارهم أصحاب أسلوب موحد كما يذكر المؤلف في الصفحة  81مجرد ذريعة لهجوم غير مبرر.
والحق أن تقسيمات الأجيال تشكو من علة أساسية ينتبه إليها المؤلف في فصله الأول في مقدمة يصوغ لها عنواناً (ملاحظات منهجية في خطل الأجيال)، غير أنه لا يجد في هذا التقسيم ضيراً أن حدد بعشر سنوات فاصلة بين شعر السبعينات والستينات، حين يؤرخ لشعر السبعينات منطلقاً من تجاربه الأولى في العام 1970م كما يورد في صفحة 27، في حين تؤكد الوقائع أن التجربة الستينية لم تكتمل ملامحها إلا في العقد السبعيني من القرن الماضي، فالبيان الشعري الأول لها ظهر في 1969م، ومعظم القصائد التي نشرت لهذا الجيل وتمايزت، كانت في السبعينات. (مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة) نشرت في 1969م كما صدر أول ديوان له (سلاماً أيتها الموجة، سلاماً أيها البحر) في 1974م، كذا الحال مع حسب الشيخ جعفر وسركون بولص الذي لم يصدر ديواناً إلا في الثمانينات. والمفارقة أن سعدي يوسف الخمسيني كما يصنف، لم ينتشر أو يتمايز إلا في السبعينات، في حين كانت السبعينات تؤرخ لظهور أولى بوادر التجارب الشعرية التي كانت تحسب على أدب الشباب الذين ساهم التقسيم العشري "جيل السبعينيات"، ولم تكتمل دورة الكثرة منهم إلى يومنا، ومع هذا شهدت السبعينات الأولى انتباهات لهذه الموجة كتبها شعراء خمسين
يون وستينيون ويورد بعضها المؤلف ضمن سياق كتابه. والحق أن جيل الستينات شأنه شأن الأجيال السابقة واللاحقة، لم يحظ بنصيب من الدراسات مع أن بعض كتابه دخل عمر الشيخوخة، فإلى اليوم لم تظهر دراسة مستقلة عن أي واحد منهم، وكانت بعض الكتابات حول الستينات الشعرية جد مبتسرة، عدا الشهادات التي ساقها أبناء هذا الجيل عن أنفسهم وهي التي أثارت حفيظة شاكر لعيبي وصحبه سواء من شعراء الخارج أو الداخل.
وفي الظن أن الكتابة النقدية حول التجارب الشعرية تحتاج إلى فترة طوايلة لتكتمل عناصر التثبت من مكوناتها، وليصبح بمقدور الدارس أن يراها بعقل بارد لا تتحكم فيه اشتراطات التأثير العاطفي، أو تشوش أحكامه الانطباعات السريعة، ونتخيل أن شعر الرصافي والزهاوي والجواهري يحتاج اليوم إلى مراجعة وغربلة بعد أن ابتعد تأثيرهم كأيقونات شعرية وفشلت معظم الكتب التي صدرت حولهم في الخروج من وطأة هذا الانطباع المربك. ولعل الأحكام المتسرعة التي ساقها المؤلف عن أبناء جيله تعزز الرأي القائل بضرورة التأني والانتظار لفحص التجارب.
القضية الثانية التي يفرد لها الكتاب حيزاً مهماً، تدور حول العلاقة بين شعر المنفى وشعر الداخل، ممهداً لها بما جره الاحتراب الأيديولوجي على شعر اضطرت نخبته إلى هجرة العراق، وهو يرى أن شعراء السلطة تصدروا المشهد في ظل التعتيم الإعلامي على الأدب المكتوب في الخارج وفراغ الساحة الشعرية من فرسانها، في حين أهمل الشعراء الذين لم يكن بمقدورهم التأقلم مع ما تطلبه السلطة من شروط، وهو رأي تعززه الكثير من الوقائع وبينها الانطولوجيات التي ظهرت في العراق مهملة أسماء الكثير من كتاب الخارج، وملغية وجودهم من خارطة الثقافة العراقية. بيد أن مناقشة الأمر على محمول المفاضلة بين حدين فاصلين في خارطة الشعر يحتاج الكثير من التأمل والبحث، فالقول بأن شعر السبعينات في الخارج كان يملك وعياً متطوراً يفوق وعي شعر الداخل، يشبه ذاك القول الذي يؤكد أن شعراء الداخل كانوا أكثر التصاقاً وحباً لبلدهم من شعراء الخارج، على هذا بمقدورنا الحكم بأفضليتهم، وعندما يقول الشاعر شاكر لعيبي: "سيعلن المنفى قطيعة حقيقية إذن، ليس مع شعراء السلطة السعبينيين (وهذه نقطة جوهرية) فحسب ولكن مع الوعي الشعري المحلي المتقوقع على نفسه" سيحتاج إلى أدلة تقنع المراقب المحاي
د. صحيح أن أدباء الداخل عانوا الابتزاز والضغوط والتسلط، مثلما تعرضوا إلى إغراء الشهرة والجاه والمال، ودبج بعضهم قصائد المديح للقائد ومجّد الآخر الحرب والعنصرية، ولكن لم يكف الكثير منهم على اقتناص الفرص لتوسيع معارفهم عبر كل ما يصلهم بالخارج من موجات وجماليات جديدة، فقد شهد العراق حركة ترجمة خلال الثمانينات ربما لم يشهد مثلها في الزمن الماضي،
وكان بعض مثقفي الداخل على صلة بالفكر والثقافة العالمية بما يوازي فرص الذين غادروا بلدهم. ويشهد الكثير من الشعر الذي كتب في الخارج على محليته وإنشغالهم بهموم الغيتوات التي أقامها لنفسه سواء في المكان العربي أو المكان الأجنبي، ولم تظهر نتائج ما يسمى التثاقف بينه وبين الأماكن واللغات التي حل أصحابه بين ظهرانينا إلا في حدود جد ضيقة.
نحن نرى أن من المجحف بمكان أن تُفتح معارك على هذه الدرجة من التساهل مع الذات أو التعصب للجمع الذي يمثله الكاتب، كي نمعن في ذر الملح في الجرح العراقي الذي لا يحتاج إلى مزيد من المفاضلات والمباهاة على بعضنا، وما تحتاجه الثقافة العراقية اليوم مراجعة تنفي عنها الطابع الاستعلائي الذي يشكوه الكل ولا يتنازل عنه الكل.
المعركة الأخرى التي يوليها المؤلف أهمية في مملكة الشعر، هي الصراع بين الريف والمدينة، فهو يضع في عنوان فصله الأول إعلاناً لا نجد أثره في حيثيات المادة (بيان الحداثة الريفية)، غير أننا ندرك أن الفصل الثاني هو المقصود حين يقول: "يتوجب إعادة التذكير هنا أن رمزاً باهراً للجنوب المقيم في العاصمة بغداد، وجد في المدينة الشعبية المعروفة بالاسم الصارخ (الثورة) تجلياً ملموساً له". والمدن الشعرية التي تتقاسم هذه المعركة هي مدينة الثورة من جهة وكركوك وبغداد من جهة أخرى، ولأن مدينة الثورة هي امتداد لمساحات الفقر المهاجرة من الجنوب العراقي، فقد عانت الاستعلاء والاحجاف، في حين جرى تبجيل اسم كركوك كمنتجة للشعر الحديث كما يقول المؤلف. وفي مقارنة بين مدينة الثورة وكركوك، يقول لعيبي إن المدينتين تتوفران على تراكم من الفئات المتواضعة اقتصادياً والمتجاورة ودياً، الأمر الذي خلق خيالاً ريفياً سحرياً قادماً من أساطير وإرث الجماعات الاثنية واللغوية، ولكن الفارق يبرز كما يؤكد المؤلف، من كون التطور في كركوك قد شهد عنصر الاستقرار السياسي والمؤسساتي النسبي، في حين كان طابع الهجرة في مدينة الثورة قد حوَّل سكانها إلى منفيين: "إنه الفارق بي
ن الاستقرار والنفي الذي باسمه يراد غمط حق الشعر السبعيني وتشويه إبداعه نقدياً". غير أن هذه النبرة المتشكية تفضي بنا إلى تسجيل ليوميات الثقافة في مدينة الثورة ولعلها الأفضل في الكتاب، فهو يشرح الكيفية التي نشأت في ظلالها ثقافة السبعينات في هذه المدينة، المدارس والجامعات التي شهدت أول أماكن الارهاصات، وحركة الشباب في غدوهم ورواحهم، لقاءات المقاهي والبيوت والقراءات المشتركة، وفي منطويات تلك الأحداث، نطل على أيام الحصار السياسي بعد انفراط عقد الجبهة الوطنية بين البعث والشيوعيين، وبداية الملاحقات البوليسية والهرب من القمع، وسنكتشف أن الكثير من كتاب الداخل والخارج كانوا في الأصل من هذه المدينة. إن ذاكرة شاكر لعيبي المتوقدة تساعد القارئ على تقريب صورة الحياة الأدبية النابضة وفهم ملابساتها في مدينة مهملة ومنسية ولكنها دائماً تعلن احتجاجها. تغيرت "الثورة" الآن وتغير اسمها في عهد النظام السابق وفي ظل الاحتلال، ولكن مدينة مثل هذه، أشبه بمدن الصفيح في خواصر العواصم العالمية، تبقى مليئة بالتوقع ومثيرة للجدل، وهي بالحتم تؤثر سياسياً وثقافياً على العاصمة بغداد. من هنا تكتسب انتباهة شاكر لعيبي أهميتها، ولو استطاع صياغة حجته
بهذا الشأن من دون تلك المقارنات التي بدت وكأنها غير مجدية في تمهيدات قوله، لكان وقعها أفضل عند قارئه.
لم يكن الشعر العراقي حصراً على بغداد منذ نهضته الأولى، فتفوق النجف على العاصمة شعرياً كان إحدى مفاخر هذه المدينة، وما كان بمقدور الجواهري أن يبز الزهاوي والرصافي ويتمايز عنهما لو لم يقدم من بادية النجف بفصاحتها وصرامة تقاليدها اللغوية، في حين لم يكن للأصول الكردية التي تشكل خلفية الزهاوي والرصافي من أثر في شعرهما سلباً أو ايجاباً، قس على هذا الحال كل المراحل التي مر بها الشعر العراقي. التقييمات بين شعر الريف والمدينة، أو بين شعر العاصمة والمدن الأخرى ممكنة بحدود معينة، ولكن لم يشهد تاريخ الشعر أو الثقافة في العراق واقعة تدلل على تفضيل شاعر أو كاتب على آخر لأنه قدم من طبقة فقيرة أو غنية، أو من مدينة أو ريف، فسعدي يوسف انحدر من عائلة شبه معدمة، كذا سركون بولص والكثير من كتاب المرحلة الستينية، مثلما الحال في كل المراحل، فكيف لنا أن نركن إلى نتيجة تقوم على فرضية هي مجرد منابزات تقال في المقاهي وساعات الاسترخاء.
حماس شاكر لعيبي وروحه الشاب المتأجج يحتاجه الأدب العربي، ولكن العراقيين بهم حاجة إلى التقليل من حدة اختلافهم حول قضايا لا تشكل أولويات حاضرهم الأدبية، فتكفيهم "أم المعارك" على الجبهة السياسية التي لم ينته تأثيرها على الأدب إلى اليوم.

* صدر الكتاب عن دار المدى - دمشق.

 

 

 

 

الشاعر الغريب في المكان الغريب” كتاب جديد للباحث شاكر لعيبي

عن “دار المدى” صدر للشاعر شاكر لعيبي كتابه الجديد (الشاعر الغريب في المكان الغريب)، والكتاب يحمل عنواناً فرعياً هو (التجربة الشعرية في سبعينات العراق).

 

يشير العنوان الفرعي إلى محتويات الكتاب الذي تضمّن ثلاثة فصول، وثلاثة ملاحق مع ثبت ببلوغرافي وشهادات فوتوغرافية عن الحقبة موضوع الكتاب، إضافة إلى مقدمة موسعة للشعر العراقي الحديث تسعى إلى تقديم رؤية جديدة لأجيال الشعر في العراق بعيداً عن التقسيمات العشرية السائدة.

في مقدمة الكتاب يذكر المؤلف أن عمله يحاول وصف السياقات الموضوعية التي ولد فيها شعراء تلك الفترة الحيوية في الشعر العراقي الحديث، وليس تقديم أوصاف جمالية أو فحوصات نصيّة إلا إذا استدعت الحاجة. ويرى أن الحاجة لعمل وصفي مثل عمله قد انبثقت بسبب الالتباس الذي أحاط الفترة السبعينية، خاصة بسبب ما بدا، للحظة، اختلاطاً فادحاً بين العمل الشعري والإيديولوجيا، نافية الشعري. وهو يرى أن نفي الفترة السبعينية الحيوية صار القاعدة الذهبية، سواء بالنسبة للثقافة الرسمية أو بالنسبة للأجيال السابقة واللاحقة.

في الفصل الأول (الشاعر الغريب في المكان الغريب:  بيان الحداثة الريفية) يخلص لعيبي إلى نتيجتين أساسيتين، الأولى هي دحض الزعم القائل إن الحقبة الستينية قد أنجزت، كما يقال لنا، جميع الألاعيب الشكلية والمغامرات الفنية والجمالية: قصيدة النثر، استخدام الكولاجات، إدخال المفردات اللاتينية، التقطيع السينمائي، المزج بين الأنواع الأدبية والتشكيلية، وإن لا هامش تقريباً لأيما إضافة أخرى. ويقول إن الإلحاح وإعادة الإلحاح على الخصوصية الستينية المبالغ بها قد قاد إلى نتيجة مفادها أن كل من سيأتي بعد الستينيين من الشعراء سيظن نفسه هو بدوره مقيماً في خصوصية مماثلة مُعلناً قطيعة مفترضة جديدة مع الأجيال الأخرى. ويرى شاكر لعيبي أن الربط بين الظاهرة الستينية في العراق وثورة 1968 في أوروبا ينقصه القول إن جيل 68 الأوروبي كان قد طرح برنامجاً فكرياً ومطلبياً واضح المعالم لم يتوفر للستينيين العراقيين: تحرير الجسد من الاشتراطات الطهرانية، انفتاح التعليم الجامعي على الفكر الحديث، رفض قمع الدولة البوليسية، تحرير المرأة من ربقة الذكورية الكاثولوكية، إباحة الإجهاض، تفكيك المؤسسات العتيقة كالأسرة، مهاجمة الروتين المعشعش في الإدارات الحكومية، التعاطف والتعاطي مع شعوب العالم الثالث...إلخ.

والنتيجة الثانية الأساسية التي يخلص لعيبي إليها هي أن الساحة الأدبية العراقية قد شهدت في السبعينات هجوماً قوياً من شعراء ينحدرون من عائلات ريفية. وهي ظاهرة جديدة على الشعر العراقي. ويرى أن المناطق والمدن الشعبية المستبعدة من حقول عمل الوعي الثقافي السابق، المتكبر، هي مصادر الإنتاج الأساسية للشعر العراقي منذ السبعينات وحتى يومنا الحالي. ويرى “أن نُقّاد (الشروقية)  كما يقال لهم في العراق وهم أبناء الريف الفقير والمدن الشعبية الهامشية  لم ينتبهوا إلى قوة فعل هذه الظاهرة التي ستخلق إشكاليات وصراعات اجتماعية وسلوكية لكنها ستخلق ثقافياً عملاً جديداً”.

هكذا يلقي المؤلف بعنصر سوسيولوجي جديد تماماً في التحليل الوصفي الذي يسعى إليه. ويحاول استثماره في الفصل الثاني الأكثر إثارة من كتابه وهو الفصل المعنون (السبعينات: جيل الهوية الشعرية الكامنة، مقاربة بين كركوك الستينات و”مدينة الثورة” في السبعينات). ويُصدّر لعيبي الفصل بقوله “إن الأسباب التي رفعت من شأن جماعة كركوك لكي تجعل منها ما يشبه الرمز السحري للفاعلية الشعرية الستينية، لم تكن هي ذات الأسباب التي قللت من شأن مصادر الشعر العراقي، الريفية والجنوبية، منذ السبعينات”. ويرى أن المدينة الشعبية المعروفة بالاسم الصارخ (مدينة الثورة) ظلت تشتغل سنوات السبعينات وما بعدها إلى يومنا في الضمير الثقافي، لكن الضمير المستتر، بوصفها منتجاً ليس للشعر وحده، وإنما مصدر إزعاج مباشر للسلطة. ويذكر أن كلا المدينتين تتوفران من جهة على تراكمٍ من الفئات الاجتماعية المتواضعة اقتصادياً والمتجاورة ودياً، ومن جهة أخرى كلاهما تتوفران على خلطة اجتماعية بل إثنية فريدة النوع وعلى مخيال ريفي سحري يحاول التأقلم مع شروط ثقافية مدينية جديدة.

ثم يمضي المؤلف في سرد البوادر الأولى لانطلاق هذا الجيل، متمعناً بدلالات انبثاقه وسط أجواء ثنائية سياسية حكمت البلد ينقدها لعيبي أشدّ النقد.

مجتهداً القيام بتوثيق موضوعي، لا يترك لعيبي في فصله الثالث (الهامشي والجوهري في الشعر العراقي المعاصر)، شاعراً سبعينياً أو طالعاً في السبعينات إلا ويوثق له قليلاً أو كثيراً: آدم حاتم، إبراهيم البهرزي، أديب كمال الدين، أسعد الجبوري، علي عيدان عبد الله، برهان شاوي، جابر محمد جابر، جبار الكواز، جلال زنكابادي (أو جلال وردة)، جمال جمعة، جمال مصطفى، جمعة الحلفي، حمد شهاب الأنباري، حميد العقابي، حميد قاسم، خالد المعالي، خزعل الماجدي وغيرهم.

ملاحق الكتاب حملت العناوين: (الشاعر الغريب في المكان الغريب: شهادة عن الشعر العراقي السبعيني في المنفى) (السبعينات: إرث القمع الثقافي وسطوة الأبوات الشعرية العربية) (الشاعر الغريب في اللغات الغريبة) والأخير عن استبعاد الشعر السبعيني في الأنطولوجيتين الشعريتين الصادرتين بالفرنسية والألمانية.

ينهي لعيبي كتابه بفصل حمل عنوان (وثائق فوتوغرافية: 1974 2001). وقبل أن يضع تحت تصرف القراء مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي تتعلق بهذه الفترة، يذكر المؤلف أن الصورة تؤرخ بطريقتها البصرية الخاصة لحساسيةِ جيلٍ وقلقِ فترةٍ، وهي قادرة على استحثاث مخيلة القراء بطريقة مختلفة وبدرجات كبيرة مقارنة بطريقة استحثاث الكلام للمخيلة.

وقد نشر شاكر لعيبي فصلين من الكتاب قبل طبعه أثارا ردود فعل عديدة مرحبة أو متشنجة حدت بالبعض إلى الكتابة في الصحافة العربية طالبين

 

الخليج الاماراتية

 

الشاعر الغريب في المكان الغريب

تأليف: شاكر لعيبي

الناشر: دار المدى ـ دمشق 2003

الصفحات: 309 صفحات من القطع المتوسط

انفتح المشهد الشعري العراقي في سبعينيات القرن العشرين على ظواهر وحالات جديدة، نجمت عن التحولات السياسية والاجتماعية التي كان يشهدها الواقع العراقي في تلك المرحلة، وفي محاولة لتوصيف ذلك المشهد، ورسم تفاصيله وأبعاده يلجأ الشاعر العراقي شاكر لعيبي احد الاسماء الشعرية التي تنتمي إلى ذلك المشهد إلى تقديم صورة وصفية له عبر وصف السياقات الموضوعية التي ولد فيها شعراء هذه الفترة، وليس من خلال اوصاف جمالية، أو فحوصات نصية إلا اذا استدعت الحاجة.

ويضيف الشاعر في مقدمة الكتاب مبيناً المبررات الموضوعية لهذه الدراسة بأن اللبس الذي حصل على صعيد دراسة المشهد الشعري آنذاك كان ناجماً عن سببين أساسيين هما الاختلاط الفادح بين العمل الشعري والايديولوجي، والذي ساهم في نفي الشعري، وكذلك الهجرة الجماعية التي قام بها الشعر العراقي إلى خارج البلد، والتبسط باعتبار هذا الشعر غير الحاضر فيزيقياً في العراق ليس موجوداً على خارطة الشعر العراقي. ومما زاد في هذا اللبس هو صعوبة رؤية التجربة الشعرية الموزعة جغرافياً في بلاد متباعدة جداً.

لقد استدعى نفي هذه المرحلة سواء من قبل الثقافة الرسمية او من قبل الجيل الستيني الذي اتيحت له كل الظروف داخلياً وخارجياً ان يعاد الاعتبار لتلك المرحلة التي شهدت خصوبة وخصوصية في التجارب المقدمة، وان تتضمن الرؤية الوصفية تصحيحاً وتصويباً للرواية الرسمية للفترة نفسها.

وقبل ان يتحدث عن المشهد السبعيني في العراق، يشير إلى الدور الريادي للعراق على صعيد تجربة الشعر العربي المعاصر، وإلى المجهودات التي قدمها الشعراء الكلاسيكيون في العراق، ويقسم تاريخ الشعر العراقي منذ نهاية الاربعينيات وحتى الآن إلى ثلاث مراحل، المرحلة الاولى التي تضم الرواد وفترة الخمسينيات ممثلة بالسياب و نازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري وسعدي يوسف وحسين مردان ومحمود البريكان، والمرحلة الثانية وتبدأ مع بداية الستينيات وقد حملت طابعاً شكلانياً وسعياً لم يتحقق لتجاوز تجربة الرواد، أما الفترة الثالثة فتبدأ مع استلام حزب البعث للسلطة وحتى الآن وتضم ما عرف بجيل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وقد تميزت هذه المرحلة بسيادة الرؤية العقائدية والايديولوجية، إلى جانب تعايش جميع انماط الاشكال الشعرية من دون ان تنحني أفضل نماذجها إلى خيارات المؤسسة الرسمية كما يقول لعيبي.

ولتجاوز عملية التحقيب عند دراسة الاجيال والتجارب الشعرية يسعى لعيبي إلى هجر التقسيمات الشعرية التي تبدو وكأنها تكرس مفهوم القطيعة بين الأجيال، إذ ان هناك تداخلاً قائماً في التجارب والهموم ورغم ذلك يحاول ان يحدد الملامح المشتركة للتجارب الواقعة بين أول قصيدة مكتوبة على نمط الشعر الحديث في نهاية الأربعينيات، ونهاية الخمسينيات خاصة على صعيد انضاج وتطوير القصيدة العراقية الحديثة.

ان تجارب سنوات السبعينيات والعقدين التاليين لها قد كشفت عن نبرة تحترم الانجاز المتراكم، وعن فضاء مشترك تشكل تحت شروط قاسية لكن ظروف الحروب التي شهدها العراق أدت إلى قيام تداخل بين الجمالي والآني، وإلى ظهور تجارب تلتزم شروط المنفى، وتجارب تلتزم شرط الحرب.

في الفصل الأول يقدم الدارس ملاحظات منهجية عن خطل فكرة الاجيال وخطورتها كاشفاً عن المشكلات المنهجية التي تطرحها هذه الفكرة ثم ينتقل في الفصل الثاني إلى دراسة تجربة شعراء السبعينيات من خلال اقامة مقاربة بين كركوك الستينيات، ومدينة الثورة في السبعينيات أي بين ما عرف بجماعة كركوك التي نظرت للحركة الشعرية في تلك المرحلة وبين جماعة الثورة التي كان الشاعر لعيبي احد افرادها، والتي قامت على أساس عفوي من دون أية وساطة سياسية أو أيديولوجية. لقد كانت مراكز الفاعلية الشعرية تتوزع بين مناطق متعددة منها، جامعة بغداد وجامعة المستنصرية، وكانت علاقات وطيدة تربط شعراء هذه المرحلة مع الفنانين التشكيليين والمسرحيين، حيث كانت المقاهي البغدادية تشهد تلك اللقاءات،

وحيث كان هذا الجيل يبلور رؤاه، وصورة الوطن الحزين والشاعر المنكسر تميزان شعر تلك الحقبة، ويقدم الشاعر نماذج مختلفة من القصائد، تعبر عن هواجس شعراء السبعينيات الذين لم يشهد جيل شعري من محاولات استقطاب مثل التي شهدها هؤلاء الشعراء الذين كانوا يلوذون باليسار من جهة، ومن جهة ثانية يتخذون من الارث الشعري للشعراء الرواد ولأراغون وايلوار ونيرودا والشعر الزنجي مصادر لهم.

وينتقل الشاعر من التوصيف العام لشعراء تلك المرحلة إلى دراسة السمات العامة الأسلوبية والبلاغية للتجارب المقدمة، التي كانت مشغولة بعواطف اللحظة والمجد الوطني واستعادة رموز التاريخ النضالي وتمجيدها، وقد تميزت تلك السمات في كون الشعر ظل يتمحور في غالبيته حول لغة معروفة في الشعر العراقي ذات استعارات مستمدة من قاموس محدد بصرامة، لكن تجربة هذا الجيل ستشهد ظهور لغتين متعارضتين جوهرياً اذ ان كل منهما كانت تستمد مرجعيتها من رؤية مختلفة، ومن خيار مختلف.

الفصل الثالث يبحث في الجوهري والهامشي في الشعر العراقي المعاصر الذي كان أمام شروط وسياقات لازدهار متوقع اولها تخلي الشعر المنفي عن أي قيمة مسبقة، وثانيها شرط الحرية العام الذي وجد في بيروت حقلاً لتحققه، والشرط الثالث هو ازدهار هذه المدينة في نهاية السبعينيات ثم يقدّم عرضاً لأهم تجارب تلك المرحلة الشعرية، وقراءة في مسيرة تلك المرحلة التي يؤكد أنها شهدت في بدايتها فورانات في اللغة والأساليب وتمرداً غير مألوف، ويفرد لشاعرات تلك المرحلة مساحة، خاصة على الرغم من ان تلك المرحلة لم تشهد حضوراً نسائياً لافتاً كما يتحدث عن النقد الأدبي الذي تناول بالدرس شعر تلك المرحلة، والذي لم يشر إلى شعر المنفى إلا في حالات نادرة.

ويتضمن الكتاب ملاحق هي شهادة عن الشعر العراقي السبعيني في المنفى، والسبعينيات ارث القمع الثقافي وسطوة الأبوات الشعرية العربية، والشاعر الغريب في اللغات الغريبة بالاضافة إلى توثيق للمراجع ووثائق فوتوغرافية تمتد من عام 1974 وحتى 2001، وهي تحتل قسماً كبيراً من الكتاب، مما يقدم صورة بانورامية واسعة عن تلك المرحلة وأهم اسمائها وممثليها، خاصة ما يتعلق منها بشعراء المنافي الذين يمثل الجيل السبعيني العدد الأكبر منهم.

مفيد نجم

البيان الإماراتية

الأثنين 18 رجب 1424هـ - 15 سبتمبر 2003 -العدد 280                 

 

الشاعر الغريب في المكان الغريب
التجربة الشعرية في سبعينات العراق


تأليف: شاكر لعيبي
دمشق: دار المدى، 2003م
*****
يشير العنوان الفرعي إلى محتويات هذا الكتاب الذي يرصد حقبة مهمة من تاريخ الشعر في العراق. في مقدمة الكتاب يذكر المؤلف أن عمله يحاول وصف السياقات الموضوعية التي ولد فيها شعراء تلك الفترة الحيوية في الشعر العراقي الحديث. يسعى الشاعر شاكر لعيبي إلى تقديم صورة وصفية للتجربة الشعرية في سبعينات العراق، ومن خلال هذه الصورة يدخلنا معه في سياقات موضوعية وفحوصات نصية بالنظر لما تضمنته فترة السبعينات من تطور ثقافي ونمو شعري متأثرا بفترة الستينات مع فصل المرحلة التي يعالجها الشاعر شاكر لعيبي، ولهذه الفترة خصوصيتها وتغيراتها البنيوية على كل الأصعدة.
يقدم الكاتب مقدمة للشعر العراقي الحديث كمحاولة لتأسيس رؤية جديدة مستذكرا أسماء تمثل نسق المعرفة الشعرية ودورهم في رصد التغيرات الحاصلة، مع رؤية نقدية لتطور الشكل الشعري وبروز قصائد تدل على انسلاخ جزئي من العروض ومن فكر الماضي وتدل في نفس الوقت على بقاء نسبي في نمط اللغة الشعرية السابقة.
وإذ يجد لعيبي أن موضعة المشكلات التي يطرحها في السياق ليس بالضرورة أن يرتدي الشعر معطفا سياسيا لكنه لا يبرهن بالملموس على ذلك، إذ يدرك أغلبنا ان لم نقل الأعم أن الشعر ارتدى معطفاً سياسياً في الستينات. ثم يذكر لعيبي أن الستينيين وجدوا مرجعا لهم عند الشعر الأمريكي، حيث يذكر إلى أنه من بين الكثيرين يشير الشاعر هاشم شفيق إلى أن قصيدة العزاوي (لنخرج إلى العالم وننسفه بالقنابل) هي محاكاة لقصيدة غينسبيرغ (عواء). واذ يورد تجسيداً للعالم المتخيل المبتني عبر الترجمة قصيدة أنور الغساني والذي يدل على تأثير كلمات الترجمة على الشعر.
ويختلف لعيبي مع الشاعر فاضل العزاوي الذي يعتقد أن الستينات كانت مدرسة أدبية أو فنية موحدة، بينما يرى لعيبي هذا الأمر في مدينة واحدة أنتجت (جماعة كركوك) الذين هم جزء من الفاعلية الإبداعية لثقافة بلد محكوم تاريخيا ولغويا بالتنوع الإثني، وأن حيوية هذه الجماعة لاتدلل على امتداها الزمني بدليل أن الشاعر سركون بولص يتمتع بطاقة إبداعية
لاعلاقة لها بالبيئة التركمانية مع انه ولد وسط كركوك. ويقول الشاعر شاكر لعيبي (إن اعتبار المنجز الشعري الستيني هو الإضافة الجذرية في الشعر العراقي الذي قاد إلى ظلم الشعر العراقي). أما جيل السبعينات فقد شهد تشظياً لامثيل له من خلال تقلص التعددية التاريخية في العراق الى محورين متعارضين بالرغم من ظاهرة التحالف في حينها، مما أثر على انحسار العمل الثقافي وتخلف الإبداع، وما جاءت به اللغة الهجينة التي أرادتها السلطة في الارتزاق والتهميش وعدم الاعتراف بالآخر.
ويعود لعيبي بالذاكرة إلى بدايات الحركة الشعرية وإرهاصاتها الروحية وتمارينها الإنسانية، والتي ولجها لعيبي من أحياء الفقراء وبيوت المهاجرين إلى مدينة تتسع لكل الشعر على مدى الزمن المفتوح، ويعرج أيضاً إلى أسماء لمعت في مجال القصة والمسرح، ويتحدث لعيبي عن تجربة الأقسام الداخلية ودورها كبديل عن المقاهي المفتوحة وتحويلها إلى منتديات لجدل ثقافي ثر.ويتحدث أيضاً باختزال من لا يريد أن يتحدث عن المحنة التي عاشها جيل السبعينات في الملاحقة والمطاردة والتضييق والإرهاب الذي مارسته السلطة لتحجيم دور المثقف العراقي.
ثم يسترسل لعيبي في الفصل الثالث من كتابه للتحدث عن الهامشي والجوهري في الشعر العراقي المعاصر ليتطرق إلى حقيقة ازدهار الشعر في المهاجر، وانفصال تطور هذا النمط الشعري في خلق جيل أدبي متمايز (نلاحظ نتاجات الشاعر هاشم شفيق من بين أحد عشر إصدارا كان بينها واحد فقط في الوطن (قصائد أليفة) بينما أصدر( أقمار منزلية وشموس مختلفة ونوافذنا ونوافذهم وأوراق لنشيد ضائع وطيف من خزف وصباح الخير بريطانيا وإعادة نظر ومشاهد صامتة وورد الحناء وغزل عربي) جميعها في مهاجره المتنوعة بين بيروت ودمشق وبودابست ولندن).
ويذكر الكاتب أمثلة شعرية في فترة
السبعينات منها الشاعر جلال وردة، وكزار حنتوش، وهاتف الجنابي وعواد ناصر وصاحب الشاهر وعلي عبد الأمير وبرهان شاوي وأسعد الجبوري وعبد الزهره زكي، ودور مجلة الثقافة الجديدة في دفع الأسماء الشعرية إلى الواجهة، ونفى الكاتب بروز شاعرات في فترة السبعينات. ثم يتطرق إلى الإرث الذي خلفته فترة السبعينات، والتردي العام في الثقافة بتأثير السلطة التي عكست سطوتها وهيمنتها على كل شيء. وفي خضم كتابته عن التجربة السبعينية للشعر والترجمة إلى اللغات الأجنبية يعالج الموضوع من زاوية ضيقة حين يسرد لنا مثالاً في إلغاء كل من الشاعر عبد القادر الجنابي والشاعر خالد المعالي بعضهما، دون أن يتطرق إلى المنجز والمساهمة الفعالة لدورهما في توسيع كوة المعرفة الثقافية ومهمة ترجمة الشعر. ويعالج الشاعر شاكر لعيبي في هذا العمل الشعر المنفي قبل السبعينات وبعد السبعينات وأثر المكان والزمان عليه، بالإضافة إلى طبيعة الشعر نفسه في كل هذا دون أن ينسى تأثير إعلام النظام البائد الضخمة على مجمل حركة الشعر سواء في الداخل أو في المنفى. يقع الكتاب في (309) صفحات من القطع المتوسط

موقع جريدة الجزيرة على النيت بتاريخ Monday 6th September,2004

 

وَحِيداً.. أَنتمي حُرّاً.. إلى فكره

د. فاطمة القرني

 

 

? .. أن تميل إلى الكتابة في جنسٍ أدبي دون آخر.. فهذا شأنك وشأن ذائقتك،.. أن تسهم بخيارك هذا.. وتنظيراتك عن صوابيته في خلط أجناس الأدب وسوقها إلى ميدان عشوائيةٍ نال منها أضعاف ما منحها... هذه أيضاً تبقى في دائرة المقبول والمعقول ما ظل ميدان الجدل مكشوفاً مُعلن الحجج سَويَّ الوسائل،.. أن تغتويك حُمَّى "الأَرْخنة" لمرحلةٍ ما تعنيك فتستغرق في تمجيدها وَوَسْم رموزها بالجليل من صفات الإبداع والوَثَّاب من قفزات التغيير(1)،... حتى هذه.. لا يمكن أن يُصَادَر حقك في "احترافها"،... فكل أوجه الميل و"الحيف" هذه خاض.. ويخوض فيها عدد كبير من حَمَلة الأقلام و"الآلام" في مختلف البلاد العربية... بل أقطار الكون بأسره على اختلاف لغاتها وثقافاتها، لكن... أن ينتهي هذا المسعى الجارف العاصف إلى تشويه قيم الإبداع الأصيلة في وطنٍ عريقٍ بأكمله... نَصّاً.. ومبدعاً.. وتأريخاً يؤصل لهذا وذاك.. ويصل ما بينهما.. فهذا هو "المنكر" الموجع المهلك...!! - هو كذلك بالنسبة لأي أمة... فكيف بنا.. و"العراق" محلُّها في صَفِّ أقطار الصدارة في كل مجدٍ زهونا به.. وكل إرثٍ تفردنا به عن كل أحد.. أدباً.. وفناً... وعلوماً شتى لا حصر لها؟!! ... لا شك أن الخسائر هنا أبلغ فداحةً.. خاصة "والعراق" في مرحلة "تَشَامُخٍ" قاهر.. يحتاج فيها إلى كل صوتٍ مخلصٍ منصف.. يستعيد به ومعه رسم الأصيل من ملامحه وإحياء الذاوي من مطامحه! ? ... منذ تأسيس "جماعة كركوك" في الستينات وإلى يومنا هذا.. يلمس المتابع في لغة معظم المؤمنين بقناعاتها الغائمة العائمة درجةً لا تخفى من "الضّلال" الإبداعي.. والأخلاقي(2)!،.. وأيّاً ما كانت دوافع احتدام مصادمات أولئك البينية، والغيرية(3)، إلا أنها لا تُبرّر بأي حال تلك المحصِّلة "المشَوَّهة" للإبداع الشعري والنقدي العراقي التي يصطدم بها الباحــــث.. أو حتى القارئ العادي لما يُوالون إصداره من مطبوعات بمختلف أنواعها، ولما يسهمون به أو يشرفون عليه من مواقع أدبية في شبكة "الإنترنت"(4)!. - بأية ذريعة يمكن أن يتقبل أي عربي تقزيم قامات شعرية عراقية فارهة وفارقة في مسيرة الشعر كالسياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري(5)؟! - كيف يمكن تَقَبُّل إلغاء أولئك الطليعيين من المبشرين بقصيدة النثر هادياً مهديّاً لكل ما أَضافته "قصيدة التفعيلة" من حيوية مؤثرة في الشعر العربي معنىً ومبنى، في مقـــــابل تساهلهم اللافت في وضع المعايير المؤطرة لفنهم النثري المقدس تحت ذريعة: "علْمنة النحو" والاهتمام بالإيقاع "الداخلي والنفسي" وانصراف الشاعر "للتنصت على أصوات المستقبل والغناء بها.. ولها"، متحرراً من قيود الموسيقى الإيقاعية الضاجة بلا معنى ولا تأثير؟!(6). - أي تَردّ أدبي أخلاقي ذلك الذي يواجه به بعضهم العالم وهو يسهم بحماس في "تزوير" حقيقة الإبداع الشعري العراقي مستسلماً لسطوة الثارات الشخصية وعنجهية الذات الموتورة المضطربة من قبل ومن بعد(7)؟! هامش: (?) من نص "انتماءات" للشاعر محمود البريكان. (1) لافحةٌ لوَّاحة تلك "الحمَّى" في: - "انفرادات الشعر العراقي الجديد/ الستينيون" تأليف: عبدالقادر الجنابي - 1993م. - "الموجة الصاخبة/ شعراء الستينات في العراق" - سامي مهدي - 1994م. - "الروح الحية/ جيل الستينات في العراق" - فاضل العزاوي - 1997م. (2).. أعني.. مَن تَواتر على تمجيد رؤى تلك الجماعة عبر أجيال الإبداع العراقي المتعاقبة، ولنَدعْ الإشارة للسقطات "الأخلاقية" حتى حين!، أما "التَّوَهان" الإبداعي فهي حال لم يبرأ منها بعد عدد بيّن من رواد "كركوك" وأتباعهم، فمثلاً... لم يزل "فاضل العزاوي" يؤكد نفس قناعاته المشوشة حول ماهية الشعر ودوره. (انظر شهادته المسجلة في أنطولوجيا إيلاف الشعرية).. ستجدها تكرر ما هلل له منذ عقود في "البيان الشعري" المنشور في العدد الأول من مجلة (الشعر 96). ... في حين نلاحظ استثناءات تراجعت عن لغة ذلك البيان الذي: (..حفل بالعنجهية، وتماشى مع ثقافة تعميمية تحتفي بالألفاظ وتتكئ على فراغ!)... كما يقول فوزي كريم - وهو أحد الموقعين عليه - الذي أدرك بعد حين فشل مشروعٍ فضفاض لا هوية له. ? طالع "النبرة الخافتة في الشعر العربي الحديث"/ فاطمة المحسن/ ص23 - 63. (3).. أي تلك الظروف السياسية/ الاجتماعية.. ومن ثم الثقافية التي أسهمت في خَلْقها،.. وقد توقف عندها عدد من الأقلام.. طالع مثلاً: - (مرايا حداثة الستيني) - المقالة الخامسة لفوزي كريم في كتابه "ثياب الامبراطور"، ومن أهم وقفاتها ما ناقش التأثير الغربي "الواهم" في التوجه للنثرية من شعراء الستينات وما تلاهم من أجيال. - (الشاعر الغريب في المكان الغريب) - شاكر لعيبي - ص53 - 57/ ص57 - 124 ويبرز في هذه الصفحات مصطلح "علم الاجتماع الشعري" ومصطلح "الشروقية"، وتساؤل لعيبي النابه عن تأثير التنوع الإثني واللغوي في تجربة شعراء كركوك، في مقابل التكوّن الهادئ غير المعلن لجماعة "الثورة" في السبعينات من ريفيّي العراق المنحدر معظمهم من بيئات هي أميل إلى البداوة منها إلى النمط الحضري. - مقالة (ملاحظات على الشعر العراقي) - موقع "عراقيون" - في 30/11/ 2004م لنصيف الناصري وفيها نستشعر "حسرة" كُتاب قصيدة النثر - وهو منهم - من عدم تقبل ساحة الإبداع العراقي لتجاربهم، وكيف دفع ذلك باتجاه تأجيج لغة التصادم، وإذكاء مسلك الإقصاء المتبادل ما بين جيل وآخر، كما يؤكد نصيف نفسه. (4).. "ثقافة العنف في العراق" - من الإصدارات الاستثنائية الرائعة لدار "الجمل"، مؤلفه القدير سلام عبّود يُجسد لكل مهتم بالشأن العراقي صورة حيّة للواقع العراقي المعاصر بأوجهه الثلاثة: السياسي والاجتماعي والثقافي انطلاقاً من استقراء متأنِّ للنص الإبداعي "قصةً وشعراً" الذي قارب ذلك الواقع سنوات الحرب، وهو متضمن بشموليته للخلفية التي نحتاجها هنا. (5) .. طالع شواهد لتلك الممارسات الجائرة في مواطن عدة من المصادر الثلاثة المذكورة في الهامش رقم (1). ... ومن المؤلم بحق أن من أدعياء قصيدة النثر من لم يزل يتناقل في زهوٍ واستطراب حكايات العبث الماجنة المنتشية بالانتقاص من شاعرية رواد الشعر الأصيل في العراق. - تأَمَّل في "عيون" - العدد 10 - ص100. - وكذلك العددين "15/16" - من المجلة نفسها ص186. (6).. انظر مصادر الهامش السابق.. إضافة إلى: - "النبرة الخافتة..."/ فاطمة المحسن/ ص23 - 35 - "ثياب الامبراطور"/ فوزي كريم/ ص355 - 360. - "الشاعر الغريب..."/ لعيبي/ ص180- 184. (7).. إلى جرائر الترجمات أُشير.. وهذه عنها وحولها وقفات قادمة.

 مجلة اليمامة 1862 - 25/06/2005 

 

وَحِيداً.. أَنتمي حُرّاً.. إلى فِكْرهْ ()! (6)

د. فاطمة القرني

 

... يقول عبدالقادر الجنابي في مقالته الاحتفالية بفتح «باب الترجمة» في «إيلاف»:

(.. ليست هناك جريمة ذهنية مثل الجريمة التي تتم عبر التراجم السيئة لأدب الآخر.. بل يمكننا التصريح بأن للترجمة هذه حصة كبيرة في تدني الوعي العربي العام وتعميق كراهية الذات العربية للآخر، فالقارئ الذي يجهل لغات أجنبية ولديه رغبة الاطلاع على ما يُكتب خارج حدود اللغة العربية، سرعان ما يكوّن أفكاراً خاطئة ستتصلد في إدراكه عن هذا الآخر، وهكذا تعود مصطلحات الآخر الفكرية ألغازاً في ذهن هذا القارئ وألفاظاً مشوشة لا تساعده على الانفتاح وإضافة أفكار جديدة إلى ترسانته، ترسانة الآخر الثقافية، وإنما على العكس، تُعمق فيه الانغلاق على المصطلح الاتباعي لأنه يفهمه وليس له سلاح فكري آخر سواه، وهنا يكمن بعض الجواب لـِ «لماذا» تحول فكر الآخر الأجنبي إلى بعبع ووخز لضمير الأنا الجمعي...)(1)

..... وإذن... فالجنابي يدرك أهمية الترجمة... ومحاذير الخلل في أدائها انتقاءً للنصوص... وللشخوص من قبل .. وإجراءً لعملية الترجمة نفسها، هذا «الإجلال» يستشعره الجنابي وهو يتحدث عن ترجمة نصوص الآداب الأجنبية إلى العربية.. وعليه فالمتوقع أنه يقف الموقف نفسه بإزاء الإجراء المعاكس... أي ترجمة النصوص العربية إلى لغات أجنبية!

... ويقول هو نفسه في مقالة أخرى: (... إذا كان لحرب تدمير العراق من حقيقة مُرَّة فهي التالية: بعد انكسار سدّ الداخل واندفاع المياه إلى الخارج أخذنا نرى ذلك العراقي الذي - وهو طافٍ على سطح مجاري المنفى - ينطق في اليوم الواحد بمائة لسان ساعياً إلى زيد بما يقول عمرو، وإلى عمرو بما يفعل زيد وإلى أحمد بما يقول ويفعل الإثنان، ولأن طينة هذا العراقي اللاعراقي نجسة أصلاً فهو ما أن يُخدش حتى يكشف عن معدنه الثقافي الرديء فيتنصل من كل الأفكار التي تَطفَّل عليها في الماضي عائداً إلى حظيرته، إنه متعطش للشهرة ارتزاقاً يدفعه إلى لَحس إلية أيّ كان من أجل أن تُنشر قصيدته البائسة، بل إلى حدّ التمارض متباكياً متشكياً عند هذا أو ذاك فقط حتى لا تُكتشف حقيقته بأنه لا شيء، ويؤلمه أن يرى عراقياً حقيقياً يختلف عنه منهمكاً في نشاط حُرّ رجلاه طليقتان!)(2)

وعليه... فالرجل.. بهذه النبرة الحادة يبرأ من كل «طَفْح» مجاري المنافي من خونة العراق الذين لا هَمَّ لهم إلاّ بناء أمجادهم الشخصية وإن أُسِّستْ على المخازي والرذائل، وإن تجلَّت وجوداً زائفاً مشوهاً ينكره كل صوتٍ عراقي حُرّ نزيه الوسائل والغايات!

... ويقربنا الجنابي من عالمه المثالي المزدهي شرفاً وحياداً ونزاهة بقوله: (... دون أن أدخل في تفاصيل صداقات طويلة من مبدعين يهود مسقط رأسهم هو العراق، أُفضّل أن أحدد عدداً من النقاط بصدد لقاءاتي مع يهود عراقيين: لم أُقِم يوماً ما علاقة مع كاتب التقيته في حياتي على أُسس إثنية أو إقليمية... أقصد لم أكتف بمقولة: «فلان عراقي إذن هو صديقي».. كلا .. هذا المبدأ لم يكن له في نظري أية قيمة!، مبدأ كهذا كنت أعتبره على نحو ما - عائقاً يمنع التواصل المراد بين غريبين لهما ماضٍ واحد، بين مغامرتين حياتيتين الخلق، الخلق بمعنى الاكتشاف، اكتشاف معنى المجيء إلى هذا العالم عبر الكلمة، هو الجوهري في هاتين المغامرتين) (3).. ثم يؤكد على أن غاية لقاءاته مع أي يهودي عراقي تتمحور حول..(... أية غرفة فكرية من بيت الصداقات العظيمة سنفتح نافذتها لنطل على عالم كبير مشترك، الدفاع عنه جزء من مسؤوليته / مسؤوليتي الأخلاقية.. هذا من جهة كائنات تلتقي في الطريق المؤدي إلى غابة المصير)(4)

... ثم ينتهي الجنابي في مقالته تلك إلى... (باختصار.. لم أسع إلى عقد علاقات وكأني أُقيم صفقات ولائية... كنتُ أبحث في ذلك الآخر الذي أحاوره عن التجربة الموازية: ما فاتني مما هو لا يزال متقداً في الذاكرة!)(5)

... بدءاً أظنها «غاية المصير» لا «غابة المصير» ، ولعل خطأً مطبعياً أثَّر هنا، واعتذر لإيراد كل هذه النقول، ولكن إبرازها كان ضرورياً للتأكيد على أن الجنابي - نظرياً - يُقصي السياسة وتأثيراتها جانباً، ولاتعنية «العصبية» و«الطائفية» في شيء، وأن الحوار حتى مع الآخر المصنّف «عدواً» هو عدّته التي يتسلح بها لنصرة الفكر الإنساني الحر المسؤول.

- هذا غيضٌ من فيضِ مقولات الجنابي وتنظيراته، فماذا عن ممارساته الفكرية «التطبيقية» على أرض الواقع.. وتحديداً.. واقع الإبداع العراقي؟!

.. حسناً.. لنبدأ بمسلكه في «الترجمة».. ترجمة النصوص العربية إلى الفرنسية، فقد أعدّ «انطولوجيا» للشعر العربي عام، 0002م، تتشكل من منتقيات شعرية رآها هو جديرة بأن تمثل الصوت الشعري العربي في أوساط الثقافة الفرنسية، وكان من دلائل أمانته فيها الآتي:

أ - (.. تثبيت أسماء يمكن أن يَجتني منها منفعة متبادلة، فقد ترجم من عمله لصحفيين لبنانيين مسؤولين عن صفحات ثقافية أساسية في بيروت، وترجم لرؤساء اتحادات ثقافية في المغرب العربي ، وترجم لمسؤولي مهرجانات شعرية في المشرق كما في المغرب..!).

ب - إقصاؤه.. أو تجاهله لبعض من أهم شعراء السعودية والإمارات كأصوات فارقة حديثة.. فقط.. لأن السعودية والإمارات برمتها ربما تكون خارج إطار المعنى والوجود بالنسبة لما يعنيه ويهمه!

جـ - تجاوزه لمبدعي الشعر العراقي من جيل السبعينات في حين أدرج سبعينيين من بلدان عربية كثيرة، وهذه «جناية» يشاركه فيها كثير ممن ترجموا أو أرّخوا للشعر العراقي من الأصوات الستينية التي أجزم اعتماداً على ما اطلعت عليه من نتاجاتها أنها ما كانت لتجد لها مُتسعاً في فضاء الاحتفاء لو نالت تلك الأصوات المميزة المغفلة حقها من جهود النقاد والمؤرخين، ولعل هذا هو المبرر الرئيس لهروب «الجنابي» ورفاقه من ميادين منافستهم، ومن أبرز تلك الميادين كتب المنتقيات، والمترجمات(6)!

... لننتقل الآن إلى تَرَفُّع الجنابي عن كل «نجاسات المنافي» وبطولات السابحين في «مجاريها»، المأسورين بفتنة ذواتهم المريضة وأمجادهم الزائفة، اللاحسين لأية إلية - لاحِظْ التعبير - فقط ليكونوا هم .. وإنْ .. من لا شيء!!

.. حسناً... أي بهاءٍ ونقاء تنقله لنا سيرته الطاهرة في كتابه: (في تربية عبدالقادر الجنابي)(7)؟! ... وأيّ تَفَرُّد تتسم به قصائده... بل وقبلها وبعدها كتاباته النقدية في كتابه : (انفرادات)... أو لغة حواره في مقالات «إيلاف».. وغيرها من المسارب والزوايا التي يُطل منها؟!

... ولننته أخيراً إلى الشاهد الأهم.. والأنبل، التَّنزه عن نجس السياسة، ودرن الثارات الشخصية، وغواية العلاقات القومية والعقدية، وهل هناك أدلّ من أنه يتقبل الآخر «اليهودي» ليس لأنه عراقي، وإنما لأنه يكتب أدباً رفيعاً يستحق التقدير، ويُجسد بممارسته تلك التجربة الموازية المنشودة كمثير لشهية الحوار والمساءلة الإبداعية لدى الجنابي؟!.. زياراته لإسرائيل، وإ طراؤه المعلن لها، خدماته الفاعلة لترجمة الشعر العبري، اهتمامه بأن يتضمن موقع «إيلاف» «أنطولوجيا الشعر الإسرائيلي المعاصر» التي أعدها الناقد الإسرائيلي رؤوبين سنير.. كل هذه .. وغيرها كثير... دلائل انفتاح مسؤول لا يقبل في حق الإبداع الإنساني لومة لائم أو تشكيك مغرض؟!!

- حسناً.. ماذا عن شواهد هذا النبل في خدمة الشعر العراقي والعربي عامة؟!

أ - يجتمع هو والمعالي ذات زمن ويُصدران مجلة «فراديس»... ثم يفترقان كل في طريق، لكنه ينفي «المعالي» من «الأنطولوجيا» الشعرية التي أعدها بالفرنسية، ويقول عنه لاحقاً ذات جدل بينهما على صفحات جريدة «الرياض» حول «اللطش» و«التزوير» في الترجمة.. يقول:

(... لا أعرف منذ متى صار المعالي يتكلم بالوزن وهو لا يستطيع تحريك كلمة بشكل صحيح، يا لبؤس الوتد والسبب.. لكن ما الجدوى «والجمل لا يرى حدبته»)(9).

ب - يحصر الوجود الشعري العراقي المعاصر في «قصيدة النثر» وحدها، وفي أسماء معينة من كتابها بدرجة يبدو بيّناً فيها تحكيم العلاقات الشخصية والخضوع لتأثيرها المعثِّر(01)، ويبدو بيناً فيها أيضاً قلق تلك العلاقات وتقافزها من النقيض إلى النقيض(11)!

جـ - ... ومن أبرز مؤشرات قلق العلاقة، واستنادها إلى روافد غير معنية بالإبداع بدءاً تبادل «المدائح» و«الشهادات» بأسلوب هو أقرب إلى سطحية العبث منه إلى عمق الرؤية التي تتشكل مستبصرة هادية إلى معنى محدد، وحسبك أن تلحظ كيف أن بوهيمية السلوك وشذوذ العادات كانت أشبه ببطاقة الدخول التي آذنت بحصول أبرز منسوبي جماعة «كركوك» على تقدير الجنابي، والعكس صحيح أيضاً، يقول جان دمو في أحد لقاءاته - وهو من الأثيرين عند الجنابي - :

(.. في العراق مبدعون كبار على مر الأجيال، والستينيون تحديداً بذلوا جهدواً جبارة أذكر منهم الأستاذ عبدالقادر الجنابي الذي وثق لجيل الستينات وهو جزء منه، لقد أثبت إخلاصاً علمياً وأخلاقياً لأبناء جيله ولم يكن جاحداً!)

في حين يقول الجنابي راثياً دمو بعد وفاته عام 3002م: (أستطيع التصريح دون أي إجحاف بأن جان دمو هو في نظري أفضــل مـن كل ما أنتجه جيل الستينات من دواوين إذْ يكفي أن تستحضر في ذهنك جان دمو هذا الشاعر الـ بلا قصيدة حتى تصدق أنها مجرد دواوين(21).

 

هـامــش:

 

() من نص «انتماءات» للشاعر محمود البريكان.

(1) «إيلاف» - باب (ثقافات) - الأربعاء 81/مايو/5002م

(2) يشير الجنابي إلى أنه ينقل هذه الأسطر نصاً من كتابه: (في تربية عبدالقادر الجنابي) ص 801 / نشر دار الجديد/ بيروت 5991م.

- أمّا المقالة كاملة فتجدها في موقع (عراقيون) بعنوان: «عراقيون من هذا الزمان» - الثلاثاء 42/مايو/ 5002م.

(3) ، (4)، (5) عنوان المقالة: «اليهودي العراقي ذاكرتي الممحية» / نُشرت في «إيلاف»/ الجمعة 71 يونيو 2005م.

(6) طالع «الشاعر الغريب....» / لعيبي/ ص237-246

(7).... قرأت مقاطع من هذا الكتاب في أكثر من موقع على الإنترنت .. وأغلبها مما يندى له جبين الصخْر!! ... تأمّل - على سبيل المثال - جانباً من مفاخره «الجنسية» الشاذة، في تعليق للروائي القدير حمزة الحسن عنوانه: «نوم عبدالقادر الجنابي» / موقع الحساسية الجديدة/ ... وفيه أيضاً يصف الجنابي ميلاده مشبهاً طقوس ذلك الميلاد بأحوال الأنبياء والأولياء ذوي المعجزات!!

(8) ... يكفي أن تُسجِّل (عبدالقادر الجنابي).. وتُجري عملية البحث الإنترنتية لتغرق في سيلٍ عارم من قصائده.. وفرائده... وطرائده!!

(9) جريدة الرياض - العدد رقم 12932 - 17/نوفمبر/2003م

(10) .. أُعلن مؤخراً عن أنه ينوي إصدار أنطولوجيا باللغتين العربية والفرنسية لخمسة شعراء عراقيين هم: عبدالقادر الجنابي، سركون بولص، مؤيد الراوي، عبدالرحمن طهمازي، وجان دمو، ولو اطلعت - عشوائياً - على القصائد التي تُنشر لعراقيين في «إيلاف» لوجدتها لهذه الأسماء نفسها، ولعدد محدود للغاية يُضاف إليها ويتكرر بشكل لافت، والسؤال.. ماذا عن بقية شعراء النثر العراقيين؟!.. ثم ما قصة «عثمان العمير» الذي زعم مراتٍ لا تكاد تحصى أنه كلاسيكي الذائقة فيما يخص الشعر العربي، يُطربه طرفة بن العبد، ويشجيه لبيد بن أبي ربيعة و.. و... غيرهما ممن «حفظوا تراث الأمة» كما يقول نصاً في أحد لقاءاته... لأن أدري أين هو - كناشر لإيلاف - من هذا التشويه المقصود لواقع الشعر العراقي؟!

(11).. تتبَّع مثلاً .. موقفه من الشاعر «عقيل علي»« حياً وميتاً .. في: «إيلاف» أكثر من مرة، وفي مقالة: «يا سادة» التي كتبها «عباس علي» شقيق عقيل في موقع «الحالم»، وكذلك في تعقيبات أخرى نُشرت في موقع كيكا على الموضوع نفسه.

(12) .. العددان 15/16 الصادران معاً من مجلة «عيون» / ص 189 - 216.

 مجلة اليمامة  العدد 1864 - 09/07/2005 

 

عن موقع (مدينة على هدب طفل)

 

الرسالة الأصلية كتبت بواسطة بثينة العيسى :

كتب شاكر لعيبي في " الشاعر الغريب في المكان الغريب " عن شيء من السلطوية التي خضع لها الشعر العراقي ( أو الشعراء العراقيون ) من قبل شعراء جيل الستينات ، و كون الأجيال اللاحقة قوبلت بشيء من التهميش لأسباب كثيرة ، هل تتفق مع هكذا رأي ؟ و هل خضعت لهكذا تجربة ؟!

أحمد عبد الحسين :

أظنّ أن شاكر لعيبي على حقّ. الستينيون مارسوا هذا الحضور على حساب الأجيال اللاحقة في داخل العراق وخارجه. داخل العراق كان السبعينيون يشتكون أبداً من هيمنة الستينيين على الإعلام، إذ من المعروف أن أغلب الشعراء الستينيين الذين ظلوا في العراق كانوا بعثيين ويشكّلون جزءاً من جسد النظام السابق (سامي مهدي رئيس تحرير الجمهورية، حميد سعيد رئيس تحرير الثورة، يوسف الصائغ مدير مؤسسة السينما والمسرح).

كان الإعلام لهم إذاً وكان من الصعوبة أن يسمحوا لشاعر سبعيني يخالفهم الرؤى بالظهور.

ثم أن أغلب النقاد الذين كتبوا عنهم كانوا يحابونهم، أو أن ذائقتهم توفقت عند الستينات ولم تبارحها.

اندغام الستينيين بالسلطة أعطاهم سلطة مضاعفة.

في خارج العراق لم يختلف الأمر كثيراً. كان الانتماء الحزبي له مدخلية في تكريس أسماء وإقصاء أخرى.

التجربة الستينية ظلّت مدار التناول الإعلامي والنقدي لأسباب تتعلّق بسنيّ الستينيات نفسها التي شهدت (في العالم كله وليس في العراق حسب) ظهور رؤى جديدة مستمدة أغلبها من تأثير الأحزاب الشيوعية (باريس 1968، شعر غيسنبرغ وكيرواك في أميركا، الحركة الهيبية مثلاً).

وفي الوطن العربي كانت سنوات الستينات أيضاً سنوات حراك ثقافي وسياسيّ (سنوات عبد الناصر ربيع الحناجر الهاتفة للقوميين والشيوعيين).

ظلت هذه السنوات أشبه بالفردوس الذي يُحنّ إليه باستمرار، وأصبح من العسير أن تكون ولادة جيل مختلف متقبّلة بسهولة.

صعب ـ وفقاً للذائقة التي تأسست في الستينات ـ أن يولد شاعر مخالف لهذه الذائقة ويصبح شاعراً كبيراً.

أسماء سبعينية كبيرة لم تأخذ استحقاقها كاملاً بسبب تأثير هؤلاء (الكبار) من الستينيين. وأظن أن الأمر ذاته يصدق على الجيل اللاحق (الثمانيني) الذي عانى في أوّل ظهوره من التهميش.

الجيل الحالي أي التسعينيين أمره مختلف، فهو قد ظهر في أوان تفسّخ الأباطرة على عروشهم، انكشفت أو تكاد هشاشة الكبار من الشعراء، تماماً كما انكشفت عورة الايديولوجيا (الماركسية والقوميّة) وعاد الشاعر أعزلَ كما يجب أن يكون.

ثم أن الأنترنت يمدّ لسانه ساخراً من الجميع: لا أحد بمقدوره التحكّم بظهور أحد إعلامياً، ليس من شاعر شيوعيّ أو بعثيّ بمقدوره فهرسة الأسماء الجديدة واختيار الأصوات التي تشبه صوته لتزكيتها.

أذكر في سنوات الثمانينيات كان بعض الثمانينيين محتفَلاً بهم من قبل الإعلام والنقد لا لسبب سوى أنهم أبناء بررة للشعر الستينيّ.

هل يمكن أن يحدث هذه مرة أخرى؟

لا أظنّ.

انهار برج بابل وتبلبلت الألسنة.

على شعراء الجيل الحالي أن يكتبوا جميعاً قصيدة مشتركة في تمجيد بيل غيتس الذي حرّر الشعر من سطوة الأباطرة السياسيين والشعراء الذين كانوا يوماً ما (كباراً).