"شعرية
التنافذ".. مقاربة بين قصيدتين للسياب
وريلكه
يحاول
شاكر لعيبي في كتابه «شعرية التنافذ» الذي
صدر مؤخراً عن دار أزمنة للنشر والتوزيع،
المقاربة بين قصيدة الشاعر الألماني ريلكه «النوافذ»،
وبين قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب «شباك
وفيقة»، وتتبع نقاط الالتقاء بين هاتين
القصيدتين، ضمن ما أطلق عليه لعيبي مصطلح "شعرية
التنافذ". وقد تناول الباحث هذا المصطلح من
ناحيتين، الأولى من حيث دلالة «الشباك/
النافذة» في الأدب العربي القديم، وما طرأ
عليها من تحولات حتى بداية القرن العشرين،
ودلالتها على التأثير الشعري المتبادل،
واستفادة الشاعر من تجارب غيره من الشعراء (كأن
التجارب الشعرية المختلفة نوافذ تطل على
بعضها بعضاً، وتتأثر ببعضها بعضاً)، والناحية
الثانية، من حيث دلالة «النافذة» كمفردة
رديفة للشباك تكررت في قصائد ريلكه كما تكررت
في قصائد السياب أيضاً.
وبالاستناد
إلى مصطلح «التنافذ» بالمعنى المستل
اشتقاقاً من الفعل «نفذ»، يقارب الباحث بين
فكرة «التنافذ» في الآداب الشرقية بمعناها
العاطفي؛ أي الذهاب للآخر والاتصال به
شعورياً، وبين استخدام هذه المفردة في اللغة
الفرنسية، حيث هناك تشابه حرفي ودلالي بين
اللفظتين في كلتا اللغتين.
وفي
محاولته للتوثيق التاريخي لمفردة الشباك
كدالة رمزية، يرى لعيبي أنه غالباً ما كان
يجري التعاطي مع «الشباك» في الأدب العربي
بوصفه محبساً وقفلاً مكوناً من الحديد، حيث
ظل هناك برودٌ في معنى «الشباك» وغيابٌ
لاستخدامه الرمزي في التراث العربي القديم،
مشيراً إلى أن النافذة كمرادف للشباك هي كلمة
مستحدَثة في اللغة العربية، حوّلت
الشباك من مجرد حاجز حديدي إلى مغزى قيمي
ومجازي ورمزي.
ويعزو
الباحث هذا التحول في دلالة الشباك إلى
ازدهار الترجمة إلى العربية من اللغات
الأجنبية، في نهايات القرن التاسع عشر،
وانتعاش النزعات الرومانسية في الشعر العربي
منذ أوائل القرن العشرين.
ومن
جهة أخرى، يشير لعيبي إلى أن فكرة «التنافذ»
تتعارض مع فكرة عزلة الكائن الوجودية، حيث أن
النافذة غير معنية بالعزلات الوجودية
للكائن، وأنها مهمومة بالانفتاح على الآخر،
وبمشاعر التلقي الذي يتخذ دلالات رومانسية،
ومن هنا فإنه لا تقع في التنافذ أية قطيعة مع
العالم، بل هناك اتصال واستمرارية معه.
ويبدأ
الباحث بمعالجة القصيدتين للشاعرين ريلكه
والسياب عبر تناوله مفردة «النافذة» التي هي
المرتكز الأصلي للقصيدتين، مع اختلاف في
طبيعة المعالجتين الطالعتين من إرثين
ثقافيين مختلفين. مشيراً إلى أن هناك نقطة
خفية يتماس فيها النص الريلكوي مع تقاليد
الشعرية العربية، حيث أن قصيدته «الشبابيك»
تدفع للتفكير بالعلاقة المفترضة بين الكائن
والمحيط الذي يتشبع الشاعر بروائحه وأنفاسه
وتفاصيله، وهي العلاقة التي تبرز في مجمل
أعمال السياب، وتبرهن عليها كـــــــــذلك
قصيدة «الشبابيك» لريلكه.
ويرى
الباحث في معرض تحليله لقصيدة ريلكه، أن
الشاعر يقيم علاقة انشداد حار ومؤثر مع
النافذة، التي جعلها موضوعه الأثير، وأن
النظر من العالم عبر النافذة، أو الوقوف على
الطلل سمة مميزة للشعراء الحنوبيين
الحداثيين الذين يُصنف ريلكه ضمنهم.
وعلى
الرغم من أن نص ريلكه معنون بـ«الشبابيك»،
إلا أنه لم يكن يخاطب، بحسب لعيبي، إلا «نافذة»
واحدة، من أجل المزيد من الحرارة والحنان
والحميمية التي تبوح بها كلمة النافذة
بالمفرد، وينقل ريلكه بذلك النافذة من سياق
العنصر الجامد «الآلة»، إلى الحي المتحرك،
وبالمقابل كان السياب يعالج منذ البدء نافذة
واحدة لـ«وفيقة» وليس نوافذ عدة، حيث يتكرر
فعل الأنسنة في جميع مقاطع قصيدة ريلكة التي
تكشف في النهاية أنه كان يتكلم في الحقيقة عن
امرأة حبيبة كان يراقبها من بعد وهي تطل عبر
نافذتها.
ويشير
الباحث إلى أن ريلكه كان يقود القارئ إلى مناخ
روحي تقترحه هيئة «النافذة» التي ينظر
الإنسان عبرها متطلعاً إليها، أو معتبرها
شيئاً حياً أكثر من كونها شكلاً هندسياً، حيث
تتحول النافذة عند ريلكة إلى منفذ مطل على
العالم، أو إلى مهرب للوجود مطل على الإنسان.
ويجد
ريلكه، حسب ما يرى لعيبي، النافذة رمزاً يعبر
عن جميع تأملاته الشعرية المبثوثة في أعماله
المختلفة، على أن نهاية قصيدته «الشبابيك»
تتملص بشكل تدريجي من الرمز الذي قادها إلى
معانيها الجوهرية، حيث يتخلى الشاعر عن موقفه
«النافذي» منسلاً نحو نوع من المناجاة الذتية.
ويلفت
الباحث إلى أن السياب، الذي ولد العام 1926، أي
في العام الذي توفي فيه ريلكه، يبدو في شعره
مأخوذاً بجميع الأشكال التي ترمز إلى
الإطلالة على الخارج، الشبابيك، النوافذ،
الشناشيل، الأبواب، والشرفات، حيث يبدو «شباك
وفيقة» مرقباً من تلك المراقب التي كانت تنظر
منها المرأة للعالم الخارجي بشكل أحادي
الجانب، وعبره يمكنها مشاهدة العالم الخارجي
من غير أن يسمح ـالشباك- للعالم أن يراها
لتبقى في عزلتها وعتمتها المفروضة عليها
قسراً.
ويشير
الباحث إلى أن قصيدة السياب تُظهر النافذة
بدلالتها التي تعبر عن الوحدة والتوحد
والوحشة التي تعيشها المرأة، حيث تبدأ
القصيدة بتسليط الضوء على التناقض الذي تشتمل
عليه النافذة، فهي مطلّة، وفي الوقت نفسه
معزولة، هذا التناقض بين الوحدة واللقاء هو
العصب الذي يحرك القصيدة من طرف خفي، منتجاً
بذلك مدخلاً لشعرية التنافذ التي تشغل بال
الشعر المعني بالشبابيك والشرفات بشكل خاص.
ويوضح
لعيبي في معرض تحليله لـ«شباك وفيقة»، أن
السياب يسعى في المقاطع التالية من القصيدة،
إلى مقاربة النافذة الوحيدة، بالشجرة
المنعزلة التي تنظر العيون إليها، بما يحيل
إلى الصورة السالبة للنافذة في عزلتها، رغم
أنها رمز للحيوية اللصيقة بالوجود.
وتعمل
سكونية النافذة، كما تتمظهر في القصيدة، على
إنعاش بصري لخيال المتلقي، الذي يمكنه أن
يتصور ما يجري خلف النافذة، وتبدو النافذة في
النص السيابي قوة جاذبة للدلالات وحاضنة
للمعنى ومحوراً للمكان. أما بقايا المشهد
المحيط بشباك وفيقة؛ نهر بويب، والريح،
والقرية، فهي ليست سوى اكسسوارات لتوطين
خصوصية تلك النافذة الرهيبة بعزلتها عن
العالم، ولكي تضفي عليه؛ أي العالم، دلالة
جديدة، حيث عمل السياب على شحن المشهد بعد أن
أضاءه من زواياه المنتقاة، عبر استعارة
النافذة بطقس ملحمي شمولي مكتوب بنبرة درامية
مؤثرة.
ويرى
الباحث في سياق متصل، أنه إذا ما كانت زاوية
نظر ريلكه لا ترينا بالضرورة عالماً عبر
النافذة، فإن زاوية نظر السياب ترينا العالم
بشكل صرح وغنائي، حيث تنتهي قصيدته من حيث
بدأت. وفي كلا النصين؛ نص ريلكه ونص السياب،
هناك نزعتان غنائيتان تستندان إلى مشاهد
ملموسة، وتصعدان نبرات الجمل عبر أوزان
مُطربة وقوافٍ صدّاحة تَجهد في إيقاف الجمل
الشعرية النابضة بخفقانات المفاجئ والمجهول،
إذ يلاحظ القارئ أنه في مجمل شعر ريلكه
المكتوب باللغة الفرنسية، كما في مجمل شعر
السياب، ثمة هوس بالتقفية.
الجمعة
22 نيسان 2005م