"شعراء عراقيون في هولندا" يرسمون نعش القصائد

عبدالحق ميفراني*

عن البيت العراقي في هولندا ، صدرت أولى سلسلة الإبداع العراقي ضمت قصائد لمجموعة من الشعراء العراقيين المقيمين في هولندا :

حميد حداد ، كريم نجار ، كريم ناصر ، موفق السواد ، محمد الأمين ، محسن السراج ، عبدالرحمن الماجدي ، علي البزاز ، علي شايع ، فينوس فائق ، صلاح حيثاني ، صلاح حسن ، شعلان شريف .

الكتاب الذي صدر باللغتين العربية والهولندية ، جاء ليلبي تلك الحاجة الماسة لإصدار " سلسلة تعني بأوجه الثقافة والفنون والتراث العراقيين ... وذلك لسد بعض النقص الحاصل بالتبادل المعرفي والثقافي ، وقلة الترجمات ..للقارىء الهولندي ".

رغم أن الكتاب يشكل ديوانا جماعيا لشعراء عراقيين يقيمون في هولندا ، إلا أن القارئ العربي معني هو كذلك ، خصوصا حين تأتلف جميع القصائد في تقديم صورة للقصيدة العراقية في المنفى ، وحين نعيد اكتشاف بعض الأصوات الشعرية المتميزة نذكر الشاعر صلاح حيثاني كنموذج لهذا التميز وهذا الغياب ، إن خصوصية هذا الديوان تنهض من عمق واحد ، .. كيف نكتب قصيدة بعيدا عن الوطن؟ وكيف نتصور العالم في طريق اللاعودة ؟ ما شكل الحياة التي تعيد اللغة ترتيب كولاجاتها ؟ وبأي رؤية يعيد الشاعر لملمة شظاياه المنكسرة ؟

ولابد من الإشارة لتقديم الشاعر والناقد العراقي شاكر لعيبي لهذا الكتاب ورقة نقدية عميقة برؤاها تعيد كتابة الشعر العراقي الحديث وفق رؤية جديدة.

حدد شاكر لعيبي أساس تصوره من خلال مقولة "يمثل العراق الريادة الفعلية للشعر العربي الحديث" وليقدم تجلياته التأكيدية لهذا التصور تابع مسار تشكل هذه الحداثة من خلال إرادة التمرد والتجاوز والحرية التي وسم بها الشعر العراقي مسار الشعر العربي الحديث ، ولعل عمق تناول هذا المسار يتمثل في إشارة الناقد شاكر لعيبي في أن تاريخ الشعر العربي " يقدم اعتدادا متضخما بالذات ولا يقدم إلا نادرا انكسارا حقيقيا للذات ؟ " هذا الانكسار الحقيقي مثلته القصيدة العراقية في انسلاخها الجزئي من فكر ما ضوي نحو شعرية جديدة أكثر حداثة ..

يشير الشاعر شاكر لعيبي للمسارات الثلاثة لتطور الشعر العراقي منذ أواخر الأربعينات عكس "التقسيمات العشرية" التي دأب عليها النقد في العراق. وعن المنفى يشير الكاتب أنه " أطلق الشعر العراقي نهائيا من إطار المحرم اللغوي والقاموسي والاستعاري نحو أفق الحرية في التعبير الشعري " إنه حقل لاختبارات شعرية جديدة، لكن أهم نقطة يثيرها هذا الحضور ومنها تطلع جماليات هذا الشعر "إنه باسم العدم والموت والخراب والدمار الروحي المحيق بشعرائه توصل الشعر العراقي إلى تفكيك إذا لم نقل تخريب القصيدة نفسها كي تنسجم مع طبيعة الخراب الشامل " .

وحين يتحدث الشاعر شاكر لعيبي عن التجاوز فلكي يسميه تجاورا واستمرارية، لكن هذه الرؤية التدميرية في القصيدة العراقية ، وقصائد هذه السلسلة نموذجا توضح أنه ليس ثمة استمرارية ولا تجاور ، قدر انسلاخها من هوية جمالية واحدة إلى انفتاح مدوي على خصوصية وهويات كونية ، وما تركه المنفى على جسد القصيدة العراقية لا يقاس بالجمالي ولا بالتراكم ، بل بالعودة لإشارة سابقة : انكسار الذات وتمزقها كلما فقدت هويتها كلما انسلخت من التقعيد ومن ثمة تعبير عن هاجس المثقف العراقي اليوم / لا هو بالدون الكيشوت ولا هو إله الخصب ، هو هذا الانتماء واللاانتماء ، هو هذا المتعدد ، ولعل هذه السلسلة الأولى كفيلة بتقديم ولو صورة مصغرة لما وسمناه بتعدد شعري داخل نفس البنية والنسق . يقول الشاعر حميد حداد في قصيدة " حديث سيلين " وهي مفتتح هذا الديوان الجماعي : رجل في الثلاثين يهرم بعد أن عاش كل الحروب

ينطلق مشهد الانكسار منذ البداية ، ولعل عنصر العجز مؤشر شعري لتوقف أنطولوجي ، يعمق جراح شعرية تشعر باليتم والعزلة ، ولعل استقلالية اللحظة الشعرية تؤشر على أولى ملامح شظايا المنفى ، لذلك نستوعب هذا التوصيف للشاعر كريم النجار في قصيدته "روباك":

كان العالم مرا

مؤشر لفظي عن مدى سوداوية عالم القصيدة عموما ، فالشاعر هنا ينكتب بالألم ، وكلما بدت ذاته منكسرة ، كلما زادت رؤيته الشعرية خرقا وتشظي ، لذلك نفهم سر هذا الانسلاخ والتحرر من كل مرجع شعري يوازي هذا الفعل ، يؤكد كريم النجار ذلك :

أعاين العالم وأرسمه ككرة من زجاج تتبعثر في يديه إنه عالم بخصائص مفردة ، لا يشكلها الشاعر وفق منظومة قيم شعرية أو أخلاقية بل هي تتعدد حتى تمسي صور منكسرة خصوصا حين تغلق بمأساوية متفردة أخرى لعلها إحدى البشاعات التي جعلت الشاعر كريم ناصر يقدم لها ترافلينغ Travelling سينمائي لحركة العين ، يقول في قصيدته "الستائر الزهرية": كل المغاور شحنت بالجتث حتى القرى بليت بالمجازر هذا الوصف الدسم للمأساة ، يقابله إعادة تأثيث لعالم بدا أول الأمر فراغا شعريا ، يتحول لمشهد سواد دائم ترممه الضحايا والضحية هنا لا تحمل معناها الاشتقاقي الصرف بقدر ما ينفتح نافذة نفسية تعمق صورة الشاعر العراقي لذاته وللعالم. ولعل قصيدة موفق السواد" رحيل " أنموذج متفرد، ومكتمل لهذه الرؤية، وذلك بتركيزها على صوت جماعي، وقصر الجملة زاد من عمق الصورة الشعرية التي نستشف من خلالها هذا الموت الجماعي : ربما نلد قصائدنا على الأرصفة أو في عربات القطار أو في زحام المقاهي أو ربما نسأل الموتى عن موت أجمل لكياناتنا ويزيد هذا المقطع الشعري المتفرد من تعميق شظايا المنفى ، بل هو تعبير عن هوية متعددة "كياناتنا" ، لكن الشاعر ، دون وطن ولا أرض ، ولا حتى شاهد قبر يشكل انتحاره الجماعي ، وهنا مكمن هذه الخصوصية التي تبدو صادمة ، هذا الخواء والغياب والموت ، و..و..

سلسلة لا نهائية من تيمات محورية في هذه القصائد ، تنزع لدا كل شاعر إلى نقطة ترميز ، تمكن الشاعر من نشر موته علنا على القصيدة لا العالم / وإذا كانت الصورة تحفر انتروبولوجيا سحيقة في تاريخ بعيد ، إلا أنها تهرب لحفر استقلاليتها بدون استئذان ، وبدون رغبة نقدية جامحة .

لكن ، لا يمكن طرد عامل أساسي متمثل في ما خلفه المنفى كثقافة عدم ترسيم شعرية لا تستطيع التخلص من إعلان انكسارها الأبدي ، فهذا الشاعر محمد الأمين في قصيدته " وردة الغريب " يؤكد متسائلا : لماذا بين الحقيبة والجسد يترنح موتك؟؟ كيف سأتهجى حروفي لأغدو سليل موتي

والشاعر محسن السراج في قصيدته " أغنية للغريب "يجيب تساءل محمد الأمين ب : سيد معطل .. عزلة لا تحاصرها الفوضى ..

ولن تحاصرها ، لأنها دائمة ، ولأنها رغبة جامحة للانمحاء ، ولأن الاحتقان انتهى للأبد ، ولأنه أمسى موتا لذيذا نهائي ، ولأن الانكسار يؤشر على الولادة ، فثمة ولادات وانعتاق أسطوري لا ينفك الشاعر يتساءل عن شعريته لا بدايته ، ومن ثمة خصوصية العراء الذي تستشعره الألفاظ ، والصور ، خصوصا حين يظل الموت معلقا بين حقيبة سفر ، وجسد شاعر أنهكه المنفى .

الشاعر عبد الرحمان الماجدي في قصيدته " عزلتي استدل بها علي " يقدم جواز سفر وجنسية بمعناها المجازي لهذه الذات المنكسرة ، هذه الشظايا ، اللامفرد : نمشي منحشرين في حارات اليأس الضيقة ينزل الليل / نطول به عزلتنا إن تأجيج صور المأساة ، وترسيم حدود العزلة لا يزيد إلا من تعميق هذه الجراحات التي أمست متون جاهزة شعرية ، تزيد من تخصيب بنيان هذه القصائد ، بل إن الانفلات الواضح في هاجس الكتابة الشعرية يتغير وفق صيرورة هذا الخراب والموت الجماعي .

ويعمق الشاعر علي البزاز في قصيدته " معا نقلد الوردة مداها " من شعرية هذا المنحى حين يقول: نحن لا نرقع آلامنا ، بل ننشف نسيانها أما الشاعر علي شايع في "مآرب " فيوضح : ثمة رصاصة تدفعني راكضا أمامها انحني لأكتب ولعلها إشارة الخصوبة ، خصوبة الخراب ، الألم ، الموت ، الغياب ، ....والمزيد من متواليات العدم ، وهنا نورد التركيز على أن الديوان مشرحة حقيقية للحياة ليست العراقية ، بل هي مشرحة كونية مفتوحة على شعرية المأساة فحين تؤكد الشاعرة فينوس فائق في قصيدتها "لا تناديني" :

الوطن كتاب نقرأ فيه تاريخا أحمق سمائي في الليل قصيدة لا تحبها الأرض فلا نستشف عنصر الانسلاخ إلا بقدرته على إضاءة هذا الانكسار/الصيرورة والذي يتوحد في معاني لا معنى مفرد ، إن عمق قصائد هذا الديوان المفتوح رغم نثريته الشفافة ، ومنطقه التركيبي السلس ، لا تزيد إلا من كشف رغبات الانعتاق والتحرر سواء الشعرية ، أو الشكلية ..

لدا لم نعتبر عنصر المجاورة بل التجاوز والرغبة في خلق فضاء حميمي يتملك الشاعر مفتاحه وصولجانه دون المرور إلى "قصر النهاية".. أما الشاعر صلاح حيثاني هذا المتفرد في صحراء القصيدة العراقية ، فإنه : طوال الليل .... كنت أمد رأسي باتجاه الكلام ولا أسقط من فمي

ومن خلال قصيدة الشاعر صلاح حيثاني نكتشف غورا حقيقيا اتجاه النص الشعري ، وهو ألق وترياق لأفق الشعر ، فالشاعر يجابه منفاه بلعبة محببة لديه ، لعبة اللغة وانشدا دها نحو العبث الذي لا يخفي لبوسه السور يالي حينا ، أو الرغبة في كتابة قصيدة شبيهة بالهدنة ، تحتفي باليومي ، وبالأشياء وأضدادها ، عكس الشاعر صلاح حسن فهو : بيني وبيني حرب أهلية

وحين نتساءل عن أطرافها يقول الشاعر : هذا هو شعبي ولكنه عابر فيه ذاكرته مقبرة غريب عن سعادته لا يحلم وإذا نام ففي تابوت

يعمق الشاعر صلاح حسن من تأثيث هذا المشهد الدموي البئيس ، إنها خواتم نهائية ، تعيد العالم إلى بكارته الفضية الثانية . ولا يحتاج الشاعر إلى مساحيق ، وحد لقات بلاغية ، إنه يكتب فقط وبطريقته مشهد انكساره ، ومشهد تعدده ، فالحرب صورة مصغرة لهذا الخراب ، لكنها هي الامتداد لأنها " لا تقف " ، حرب "لا تقف" والشاعر يرسم خرابه في تابوته ، وعي بالحلول الصوفي في الانتهاء والفراغ.

فهذا الشاعر شعلان شريف يختتم سلسلة القصائد بتوضيح صريح :

 

" كان لعزلتي ما يبررها ، كنت مشغولا طوال الوقت ولأعوام طويلة ببناء أسوار عالية ، كنت أطليها بألوان غامقة تحجب كل ضوء " ولعلها وعي القصائد جميعا.

إذا كان المنفى يوحد القصائد جميعا ، إلا أننا نجابه قصائد تتنفس بمعنى امتدادها الشعري الحي في المقروئية ، أو في سلوكها التجريبي الواضح المرتكز على تحرير اللغة ، ومرجعها ، إن ما وسمناه بالمتعدد هو الوجه الأمثل " للخصوبة " لكنها شعرية تعمق سؤال حداثثها الداخلية ، وتغني من جهة القصيدة العراقية الحديثة التي طالما قولبت أنماطها الشعرية ، إن الغنى الشعري الذي تقدمه هذه السلسلة أو تلك القصائد السابحة هنا وهناك ، جزء من غنى الأفق الشعري بامتداده العربي ـ لكننا نركز هنا على تخلص الشاعر وانسلاخه من رؤى شعرية نمطية دعونا نسميها "مشرقية" لتنفتح كليا على عمق عربي ولما لا كوني حيث القصيدة والكتابة ـ، قداس والعالم هو ما ننهيه عندما نكتب مكان وتوقيت أحرف البهاء .

يعتبر الديوان جزء من تركيبة هذا المشهد الشعري الذي أمطر النقد نصوصا جعله في ركن المتفرج ، لا يعي فرصته السانحة كي يعيد صياغة مناهجه ورؤاه الاستقرائية ، على ضوء هذا السيلان النصي ، تعيد القصائد كتابة سؤال الكتابة ، بل بشكل أكثر دقة تعيد ترسيم حدود شعريتها ، وتخصيب أفقها ، فحين نقرأ هذا الديوان الجماعي فلكي نساهم مع الشعراء في رسم تابوت أجدر بالقصيدة لكي تشرأب للحظات انعتاق جديدة.

آثمة شعرية أعمق تنهض من كل هذا الخراب ؟؟؟؟؟؟ في الماضي قدم المشهد الشعري الفلسطيني تركيبا سحريا للحياة ، وللشعار الشعري الذي تعيش من أجل تجديده القصيدة ، أمام هذا الديوان تتشظى أجساد القصائد وترسم مشاهد انكسارها الجماعي ، ولعله أفق منهجي لنص شعري حي متعدد بتعدده بغناه بمنفاه.. *********

* كاتب من المغرب / صدر له ديوان شعر "كولاج الشاعر"2001- منشورات اتحاد كتاب المغرب، ويصدر له السنة المقبلة ديوان "صمت الحواس".