الباحث التشكيلي شاكر لعيبي: صراع الشرق والغرب صراع افكار وعلى المتخصصين قيادة الحوار

 

حوار: طلال معلا

البيان الثقافي- الإمارات

الأحد22 صفر1423هـ 5 مايو 2002 -العدد 121


يتعرض كتاب الباحث شاكر لعيبي «الفن الاسلامي والمسيحية العربية» الى دور المسيحيين العرب في الفن الاسلامي، وقد صدر عن دار رياض الريس للكتب والنشر في سبتمبر سنة 2001، وفي تمهيده للكتاب يذكر المؤلف: «فوراً سيتبادر الى اذهان بعض القراء التساؤل عن علاقة (الفن الاسلامي) بـ (المسيحية العربية)، وربما سيجدون علاقة تعسفية بين فن يسمح باطلاق التوصيف (اسلامي) عليه بافتراض انه لصيق بهذا الدين، وبين ديانة اخرى، المسيحية التي تتخذ موقفاً اخر بصدد الفن وبشأن الرسم التشخيصي».

ويعتبر هذا البحث استمرارا لتفكير المؤلف حول الفاعلين المستترين والعناصر المهمشة في تاريخ الثقافة والفن في الشرق الاوسط سواء في تكوين الفن الاسلامي او في تطوير الفن البيزنطي، انه يحاول ان يقدم قراءة لفن المنطقة من وجهة نظر المنسي والمتروك في التاريخ الفني المكتوب. لذا لا يستهدي البحث بأية خلفية ايديولوجية مضمرة، وإنه لا يهتدي خاصة بأية نزعة قومية ضيقة طالما شوهت البحث العلمي وقبله النضال الاجتماعي والسياسي في العالم العربي.

المؤلف الذي يستعرض قضايا مهمة تطال مشكلة الرسم الشخصي في الاسلام ودور العرب في تكوين فنون الغرب ومساهمات الكنيسة النسطورية في تكوين الفن الساساني واستلهام الفن الاسلامي لمشاهد الانجيل وتوقيعات الفنانين وغير ذلك من الموضوعات كان لنا معه الحوار التالي حول مؤلفه: ـ تشكل الظروف التي نمر بها شكلاً غير طبيعي لاحتواء موضوع كتابكم فتمنحه اثارة برغم ان الامور كانت ستبدو عادية في ظروف اخرى، هل يمكنكم الاشارة الى بداية تكون فكرة الكتاب؟

ـ بدأت الفكرة عندما كنت اشرع في كتابة اطروحتي للدكتوراه وعن توقيعات الفنانين المسلمين على القطع والحاجات الفنية التي وقعوها منذ القرن الثامن الميلادي وحتى سقوط الدولة العثمانية. ومن ثم فقد قادني البحث رويداً رويداً الى ان اعالج مشكلة (المجهولية) في بعدها التاريخي وفي منطقتنا على وجه الخصوص اي في الحضارات التي سبقت ظهور الدين الاسلامي الحنيف، وكان لابد من الذهاب الى حضارات عربية مثل الحضر والبتراء

وتدمر والحضارة اليمنية لكي ارى فيما اذا كان هنالك توقيعات عن الفنانين، وبأية صيغة وردت وعلاقتها بالفنانين المسلمين، وكان يتوجب دراسة الفترة التي سبقت ظهور الاسلام في منطقة سوريا الكبرى (منطقة الشام) او ما يسمى بسوريا الطبيعية وهذا المصطلح كما استخدمه لا يمتلك اي بعد ايديولوجي بعبارة اخرى، في تلك الفترة التي كانت تخضع فيها سوريا الى هيمنة الامبراطورية البيزنطية وكانت كما نعلم امبراطورية مسيحية وارثوذكسية، وكان جزء كبير من السكان في سوريا واجزاء من شمال العراق يخضعون لهذه الهيمنة، فدرست بلاطات الكنائس في سوريا ولبنان الحالية لأرى اذا كان هنالك كتابات اثرية او اشارة الى اسماء فنانين او حرفيين،

وببالغ الدهشة اكتشفت ان القرون الاربعة التي تسبق الاسلام شهدت حضوراً مسيحياً عربياً كثيفاً في هذه المنطقة عبر توقيعات الفنانين التي كانت موجودة على فسيفساءات بلاطات هذه الكنائس كأسماء مثل ابن العربي وكان رجلاً مسئولاً دينياً وشخص آخر اسمه عبدالله واشخاص مثل مالك وكبر وسليمان واسماء اخرى كاللبناني وهو اسم يدل على شخص من جبل لبنان وليس لبنان الحالي لأن لبنان الحالي ككيان سياسي لم تكن موجودة بعد.

وقد قفزت الى ذهني ومن بين مجموعة من المعطيات فكرة. وبعد ان قارنت بعض الآثار والفريسكات المعتبرة اليوم من بدايات الفن الاسلامي التي وجدت في قصور الامويين ومنها عمل موجود في متحف دمشق، عندما قارنت هذا العمل بأحد الاعمال المعتبرة من الفترة البيزنطية (وهو عمل يمثل شجرة وتحتها اسد يطارد غزالاً)، وعندما قارنته بأحد الاعمال المعتبرة في كتب اخرى درست تاريخ المنطقة السورية البيزنطي (ذات المنطقة بالضبط) وجدت علاقة حقيقية من الناحية التشكيلية بين هذه الاعمال وتلك، وكانت النتيجة المنطقية ان صناع هذه الاعمال هم من المسيحيين العرب او من السريان فبدأت البحث عن الدرجة والطريقة التي ساهم بها المسيحيون العرب في تكوين وانشاء الفن الاسلامي فهناك سبب منطقي اخر في هذا الشأن هو ان منطقتنا التي شهدت ظهور الاسلام لم تكن خالية من السكان الاصليين

انما كانت منطقتنا مليئة ومكتنزة بالذين مرت عليهم الديانات التوحيدية الثلاث (اليهودية والمسيحية والاسلام) وبشكل متواز فاهتدى البعض الى بعضها في حين بقي الاخرون على ديانتهم وفي اطار شروط الجزية التي نعرفها، هؤلاء السكان هم في غالبيتهم منطقة الجزيرة وتدمر والحضر والبتراء من العرب الاقحاح وهؤلاء بشكل منطقي ساهموا في تكوين المشهد الاسلامي.

من جهة اخرى فإن اشارات مؤرخي الفن الاسلامي الغربيين الى دور الكنيسة النسطورية في شمال العراق في الموصل في التكوين والمساهمة في الرسم والتصوير الاسلامي قد جذبت انتباهي في وقت مبكر وظننت انه من الواجب ان اتعمق في دراسة الكنيسة النسطورية ومذاهبها والكيفية التي ساهمت عبرها في تكوين الفن الاسلامي وليس عبر الطريقة الغامضة التي يقول بها المؤرخون الغربيون.

وقد ذهبت لدراسة هذه الكنيسة بمساعدة المصادر القليلة غير الموجودة في المكتبة العربية ومصادر اخرى كوجود كتاب المؤرخة الروسية التي ترجم كتابها في دمشق وهو عن السريان أي الكنيسة النسطورية، وهي تدمج بين الاشوريين والكنيسة النسطورية وهكذا تعمقت بدراسة هذه الامور لأرى ان الكنيسة النسطورية قد ساهمت بدورها في تكوين الفن الساساني من جهة اخرى.. هكذا اتضحت الصورة وبدا لي جلياً ان المساهمات حقيقية سواء بالنسبة للنساطرة التي تقترب مفاهيمهم الدينية في بعض النقاط من مفاهيم الاسلام.

ـ نعلم ان تأريخ الفن في منطقة بحثكم عبر الاستشراق وخاصة فيما يتعلق بقضايا التصوير بشكل عام وكان هناك موقف غربي او استشراقي في هذه المنطقة بالرغم من وجود الاعمال الفنية التي اتيت على ذكرها ما هو سبب عدم ابداء الموقف الحقيقي من قبل الغرب من الفنون في منطقتنا، وكيف تعرضت لمنطق التفكير الغربي في كتابكم؟ ـ سؤال مهم جداً، لكن لابد من ذكر ان التخصص غير موجود في ثقافتنا، بل ان بعض التخصصات في حال وجودها ضيقة جداً، ومنها مثلاً ما يسمى بالبيزنطيات، وهذه تهم تاريخنا في المنطقة وتاريخ الفن الاسلامي، بسبب العلاقة الوثيقة بين الاخوية، هذه العلاقة حبيسة في الذهن العربي ولها اثرها في الاسلام، لهذا السبب، ولغياب التخصص يجري في العادة اعادة ما يردده المستشرقون الغربيون من ان الفن الاسلامي متأثر بالفن البيزنطي.

ـ هل هذا صحيح أم ان العكس هو الصحيح؟

ـ حاولت ان اثبت ان العكس هو الصحيح، وسأتابع في المستقبل استكمال تصوراتي حول الموضوع. اظن ان المستشرقين قدموا هذا التصور بسبب ايديولوجي وليس لسبب علمي او بحثي، الايديولوجية ليست من طبيعة علمية وفرضيتهم بسيطة للغاية وتعتمد على قولهم (كما ان اليونان اساس الفكر الفلسفي فإن اليونان هي اصل الفكر المسيحي) وبالتالي فهي اصل الايقونية المسيحية، يعني الرسم المسيحي في العالم كله.

هل هذا صحيح؟

وفرضيتي المناقضة لذلك تقول: هل يوجد دين في مكان في حين تولد اشكاله التشكيلية والتعبيرية في مكان اخر. هذه الفرضية تبدو شكلانية للوهلة الاولى ولكنها ليست شكلانية على الاطلاق سآخذ مثلاً جوهرياً درسته طويلاً في هذا الكتاب موضوع السؤال، وهو الفريسكات الموجودة في منطقة (دورا اوروبوس) او صالحية الفرات في الجزيرة السورية اليوم وهي مدينة كان يسكنها سكان المنطقة من التدمريين والآشوريين وكانت تتعايش فيها ثلاثة تيارات في القرنين الاولين من الميلاد وهي تيارات دينية، تيار وثني مزدهر وتيار اليهودية التي رسمت نفسها آنذاك في المنطقة وتيار المسيحية المولودة للتو،

وكان التعايش معقولاً بين اليهودية والمسيحية كما كان هناك معبد في منطقة (دورا) التي تعني الدور بالسامية او الشكل الدائري ثم اضيفت لها لاحقاً كلمة اوروبوس، وكان معبد المؤمنين فيها يحتوي على رسوم تعبيرية عن قصص الكتب المقدسة، وعندما سمع اهالي مدينة دورا اوروبوس بأن هناك احتلالاً فرثياً (اي فارسياً) للمدينة فقد قرروا ان يطمروا ـ حرفياً ـ المعبد بالتراب ويغطوه ويسووه بالارض وعندما احتلت المدينة فعلاً لم يفكر احد على الاطلاق بأن يزيل التراب عن المعبد، والصدفة وحدها هي التي قادت الى اكتشافه من جديد في نهايات القرن التاسع عشر لنجد الفريسكات الحائطية تحتفظ بطراوتها وجمالها ورونقها التشكيلي وهي تعبر عن مشاهد دينية وفيها نرى بوضوح شديد ان بدايات الفن المسمى مسيحياً قد ولد في صالحية الفرات.

ـ ما هو موقف المستشرقين من هذا الكلام؟

ـ في الحقيقة عندما قرأت المراجع الاساسية عن الفن المسيحي باللغة الفرنسية او الانجليزية اكتشفت بأن هنالك تقليلاً غير منطقي وغير عقلاني لدور (دورا اوروبوس) في تكوين الفن المسيحي الاول وبالمقابل التجديد على دور روما للاشكال الكلاسيكية في تكوين هذا الفن.

اننا نجد لأول مرة في التاريخ اشكال الايقونة بكل اشكالها التي ستتطور لاحقاً في بيزنطا، وهذا صحيح، ولكنها بدأت في منطقة دورا اوروبوس وقبل ذلك يمكننا ان نجد في هذه الفريسكات تأثرات بفنون بلاد الرافدين وتأثرات بالفن التدمري الذي هو متأثر بدوره بالفن الرافديني ثم بالهيلينية التي كانت سائدة كتيار فني، وهذا الامر يمكن فهمه بسهولة كما لو اننا نقول بأن الفن العربي اليوم متأثر بهذا القدر او ذاك بالفن الغربي،

وهذا شيء لا محيد عنه لأنه من ضرورات الاشياء والتاريخ، لكنه سيبقى فناً عربياً نتيجة ايدي الفنانين العرب، لذلك نقول بأن ذاك الفن كان محلياً، اوجدته الايدي العربية ولم يكن الغربيون ينوون على الاطلاق ان يقولوا بأن فن دورا اوروبوس لا يمتلك اي نزعة محلية، مرة اخرى يظهر المنطق الاستشراقي بحقل لا علاقة للاسلام به ولكن له علاقة بمنطقتنا، وكأن ما يراد ان يقال لنا بأن منطقتنا ينقصها منذ زمن طويل وقبل الاسلام الاصالة.

ـ اذن ما هو موقف الباحث العربي من هذه الحقائق جميعها وكيف كان يمكن ان يستفيد من ذلك للتأنيس واحتواء الافكار التي تخدم الفن العربي مع بداية القرن العشرين.

ـ من الصعب الاحاطة بهذا السؤال، ولكني اعتقد بأن الفنان والباحث العربي يجب ان يلتفت الى تاريخه الفني بتفاصيله الدقيقة ولا يكتفي بالمعلومات العامة، ويذهب بعيداً في البحث ويرى الى الاشكال والتكوينات التي انبثقت في منطقتنا فيه سقوط اخر حضارة تسمى (سامية) ولا استخدم المصطلح بمعناه العرقي كاستخدام الآرية،

وانما للاشارة الى مجموعة من البشر ذات اصول لغوية واثنية تعيش على بقعة جغرافية واحدة متماثلة في حياتها وترتيبها العائلي ونظامها الاقتصادي وحتى سقوط الدولة الآشورية على يد الفرس. (300 سنة ق. م).

يخيل لي ان هناك ـ دائماً ـ امتدادا ثقافيا وتشكيليا يمكن ان نلتقيه في ممارسات فنية ليست قليلة الشأن وقد بقيت منذ تلك العصور الضاربة في القدم وهذا نجده في السجاد وفي الفن الشعبي المصنوع في الريف كالذي يسمى في العراق (المحمل) وعلى اشكال الحلي ومختلف التعبيرات التشكيلية التي تميز آثار منطقتنا سواء اكانت تجريدية او زخرفية اي السجاد الذي يحمل صورة اسد منقض على غزالة او مناظر صيد الملوك للاسود وللغزلان التي نراها في بيوتنا على السجاد المسمى ايرانياً والمعتبرة خطأ موثيفات ايرانية. انها موثيفات قديمة في تاريخ منطقتنا ونراها في الفريسكات الآشورية منذ اقدم العصور.

هذا الانتباه يمكن ان يؤدي الى بحث تشكيلي من نمط اخر لا يقلد بالضرورة الفن الاوروبي ولا يعيد انتاجاً سهلاً وميكانيكياً للأشكال المعروفة. بمعنى آخر ان نخرج بحصيلة اخرى قادمة من المعرفة وليست قادمة من التقليد، وانا اعتقد ان مسألة الاصالة والمعاصرة على سبيل المثال المثارة في البحث التشكيلي العربي الراهن هي مشكلة زائفة لأنها مشكلة ذات طبيعة ايديولوجية

وكأننا لا نمتلك اية اصالة في الفن التشكيلي المعاصر لذلك نشدد على كلمة الاصالة وعلى البحث فيها لغوياً. اعتقد ان اية اصالة يجب ان تمتد فتضرب عميقاً في الجذور الثقافية وهذا ما كان واضحاً جداً في الفن العربي الذي يتعمق في بحثه وفي تيار كل مدرسة تناقش التيار او المدرسة التي سبقتها وتنقدها وتخرج منها فكرة او مذهباً جديداً او اسلوباً تكوينياً جديداً وهكذا تكون الحالة في نقد معرفي مستمر لمعطيات موجودة في الواقع التشكيلي لثقافة من الثقافات.

ـ الا تعتقد معي ان القطيعة مازالت قائمة لدينا فيما بين البحث التشكيلي والبحث الاركيولوجي، وهذه القطيعة تؤدي الى غياب الكثير من الحقائق، كيف تنظر الى ذلك؟

ـ هذا سؤال طريف وخطير، وكما تعلم ان تاريخ الفن يستند على البحث الاركيولوجي اصلاً اي (علم الآثار) لأن الاثريين يوضعون تحت تصرف مؤرخي الفن وبالتالي تحت تصرف الفنانين اللقى والمواد التي يكتشفونها اثناء تنقيباتهم، لكن البحث الاركيولوجي، مثل اي بحث اخر ـ يمكن ان يخفي تفسيرات وتأويلات من طبيعة غير علمية، واذا ترك هذا الحقل بالتالي لباحثين غير متخصصين بمنطقتنا،

اي لا يعرفون كيف يتكلمون بطريقة سليمة وسوية لغة سامية قديمة على سبيل المثال، فأعتقد انه سيكون هناك قراءات مختلفة للنصوص القديمة، والذي لا يعرف كيف يلفظ حرف العين الموجود بدون ادنى شك في لغتنا القديمة سواء الآشورية او البابلية او الكلدانية او الآرامية او الفينيقية والكنعانية او العربية لاحقاً او اللغات اليمنية، فأعتقد انه سيؤول بعض الكلمات التي يقرؤها في النصوص الاركيولوجية بطريقة سيئة، هذا من جهة،

ومن جهة اخرى، هنالك غياب دراماتيكي للبحوث الاركيولوجية على يد باحثين متخصصين محليين في منطقتنا وهذا الحقل متروك كلية للآخرين. الشيء الاخر ان الباحثين الاثريين القلة المهيمنين الموجودين في العالم العربي ليس لهم كلمة مسموعة او انهم لا يريدون ان يساهموا طواعية او مجبرين في حقول بحث اخرى مثل علم الجمال والبحث التشكيلي وتاريخ الفن، وهذه مشكلة عويصة وحقيقية.

مؤرخ الفن الغربي يستند في بحثه على المعطيات الاركيولوجية في حين يأتي الباحث العربي ليستفيد من بحوث جاهزة لمؤرخين في الغالب هم من الغربيين وهو يعيد افتراضاتهم بأخطائها. وهذه مشكلة حقيقية وانا ادعو الى مزيد من الاهتمام باللغات القديمة وهي ليست من القضايا الصعبة كالذي نجده في السنسكريتية والهندية، وقد حاولت ان ادرس اللغة الحميرية وفي النهاية تكتشف انك تستطيع قراءة نص حميري بسهولة فائقة، وتفك رموزه، البحث الاركيولوجي ضروري لدعم البحث التشكيلي دون شك.

ـ هناك تاريخ للصورة ومسار وببلوجرافيا تخصها وقد تعرضت في كتابك لهذه الببلوجرافيا او الى الولادات الاولى لللايقونية في سوريا وجعلت البحث الميداني يدعم آراءك هل يمكن ان نعتبر هذه البحوث تقدم جديداً في مجالات حياة الصورة التي قدمها الشرق للغرب ام ان هناك خلافاً فيما بين الشرق والغرب حول الاصول لهذه الصورة سواء اكانت دينية أم غير دينية.

ـ اعتقد انه بالنسبة للفنون الرافدينية التي هي من اقدم الفنون وكذلك المصرية والتي هي اقدم من الفنون الاغريقية، تختلف لدرجة كبيرة عن الفنون الاغريقية بالامر الجوهري التالي:

الفنون القديمة في منطقتنا، وخاصة الرافديني لم يكن معنياً باظهار التناسبات الطبيعية عندما يقوم برسم صورة وتمثال وانما كان مهموماً بالتعبير عن (المقدس) وعن الروحاني، وعندما اقارن تمثالاً اغريقياً بتمثال رافديني، بالنسبة لباحث غير نزيه سيرى عدم التناسب في التمثال الرافديني، وسيري تناسبات في غيره، وفي الحقيقة

فهذا لا يأتي من عدم القدرة التقنية او هندسية عند الفنان الرافديني بقدر ما يتعلق الامر برؤيته للفن ولمعناه ودوره ووظيفته. في حين كان الفنان الاغريقي المتأخر على الرافديني، معنياً بفكرة التناسبات المثالية (النسبة الفاضلة) كما يقول اخوان الصفا، في العالم وفي الكون، فقد كان الفنان الرافديني مهتماً بتجسيد فكرة المقدس والروحاني في الفن. وياللغرابة ـ وهو ليس صدفة ـ ان يأخذ الفن الاسلامي فكرة المقدس والمثالية ويستمر بها بعيداً حتى في اشكاله التصويرية والمنمنماتية،

هذا الفارق جوهري، والصورة التي ولدت مع الانسان، لحاجته اليها، ولاسباب سحرية، فقد كان يعتقد بأنه عندما يصور حيواناً على جدار الكهوف فإنه سيمسك بروح الحيوان ويسيطر عليه، لقد لعبت الصورة دوراً سحرياً في التاريخ، ومازالت، وفي كتب التاريخ العربي الاسلامي جرى غالباً تفسير التماثيل المشاهدة في مصر وغيرها بصفتها طلاسم لايقاف زحف الرمال على مصر مثلاً، ويمكن ان نقرأ ذلك عند المسعودي والمقريزي وغيرهم كما ان بعضها يفيد لايقاع فيضانات النيل المتكررة، وفي اطروحتي احصيت الكثير من هذه القصص عن الوظيفة السحرية للصورة في ثقافتنا

ولهذا السبب اعتقد شخصياً ان المتشددين من المسلمين في حقبة متأخرة، في الحقيقة ـ كانوا يصفون ما نجده في المخطوطة الموجودة في بطرسبورج الان (ان المقامات المصنوعة في سوريا في القرن الثالث عشر الميلادي، وقد وقعت هذه المخطوطة في يد احد المتشددين ممن كانوا يعملون خطوطاً فوق الصورة، ولا اقصد الهالات فهو تقليد بيزنطي استمر في الفن الاسلامي، وهذه ايضاً حقيقة.

ـ يقال ان هذه الهالات اتت من الهند والصين قبل البيزنطيين.

ـ ما نقصده ان التأثر بالفن البيزنطي وارد لكنه ليس بالحجم المعطى له، المطلق والنهائي، وكأننا لا نعمل شيئاً الا تقليد الفن البيزنطي، والذي اريد ان اقوله ان هذا الشخص كان يضع خطاً على الصورة لكي يفصل بين الرأس والجسد لاعتباره ان هذا جزء من السحر، وهكذا يمكن القول ان الصورة لعبت في البداية دوراً سحرياً وطقسياً في النهاية، فكثير من الطلاسم

وحتى الان في الاوساط الشعبية يقوم الشيخ الذي يعمل الطلسم بالمقاربة بين الاشخاص كالمرأة والرجل او لأي سبب اخر من هذا القبيل فإنه يرسم صورة تمثل الحالة (شيماتيك) او تبسيطية لأنه يعتقد بأن الصورة تلعب هذا الدور الطقسي او السحري في التقريب او في الابعاد، او في الولادة، او اقصاء العدو، او في الاخصاب وما الى ذلك.

ـ الكتاب يأتي في هذه الفترة الحرجة، رغم انك تعمل به منذ ما يزيد على الثلاث سنوات، انها مرحلة يقتضي ان يكون الحوار عنواناً لها، حوار الاديان والحضارة والجمال والفنون والثقافة بأنواعها، حوار معمق اطرافه الشرق والغرب، هل تعتقد بأن هذا الكتاب سيشكل طرفاً في الحوار الذي ولدته الظروف والمقتضيات والمصالح الاخيرة.

ـ فكرة الكتاب تسبق جميع الاحداث التي مرت بها المنطقة وفكرته تعود الى ثلاث او اربع سنوات عندما كنت في طور كتابة اطروحتي وخرجت برأي ان هذه الفكرة تستحق ان تكتب باستقلال عن غيرها باللغة العربية كوني انجزت اطروحتي بالفرنسية، فبدأت بتجميع المعلومات والبحث موازاة مع انجازي لاطروحتي، لكنني احس بأن الاحداث الدولية اليوم تحتاج الى حوار ثقافي وجمالي، لم لا، اعتقد انه من الصعب مخاطبة الغربيين او اقناعهم بافكارنا

وبمواقفنا السياسية بسبب التضارب في المصالح، وبالتالي فهم يقدمون الافكار والايديولوجيات لتبرير مصالحهم ونحن نحاول ان نقوم بالشيء ذاته لتبرير مصالحنا ولكن دائماً ـ وعلى ما يبدو ـ فإن القوة هي التي يسري مفعولها بينما كلمة الضعيف وايديولوجية ـ حتى لو كان على حق ـ فإنها لا تمشي لكن هناك باب آخر للحوار ولابد من فتحه للحوار

وهو باب الثقافة والجماليات. لقد لاحظت ـ بأسف شديد ـ بأن قراء كتاباتي عن الفن الاسلامي (يكتب بالعربية والفرنسية) بالفرنسية عن الفن الاسلامي هم اكثر واكبر استمتاعاً ودفعة في ملاحظاتهم من قرائي باللغة العربية، وفي هذا الامر دلالة بالغة ويمكن ان تقودنا الى القول بأن فتح باب الحوار للثقافات من جهة الفن قد يكون نافعاً ولهذا فأنا ادعو الجميع للاهتمام بالفنون القديمة والفن الاسلامي وسماع آرائهم وتشكيل جماعة من المتخصصين في الفنون الاسلامية يفهمون بدقة كيف يستطيعون ان يحاوروا الاخر. غياب المتخصص مشكلة حقيقية نعاني منها ولابد ان نرى بدقة قضايانا.

حين اتكلم عن دوراً اوروبي يحس البعض بأني اتكلم بلغة صينية لقد تعلمت من الغرب لغة النقاش وانا اناقشهم.. دورا اوروبوس في الشام وهي التي تدل من ابدع الايقونية المسيحية اي الفن المسيحي، هل وجدت في روما ام في منطقتنا، هل يوجد في منطقتنا فن مسيحي او لا يوجد، لابد من وجود متخصصين يمتلكون القدرة على محاورة الآخر بتفاصيل دقيقة وبكافة مناحي علم الجمال والفن الاسلامي.. لذا انا ادعو المتخصصين ليقودوا الحوار مع الغرب.