السلعة الميتافيزيقية

ملاحظات عن المكافآت الأدبية

Slaibi@perso.ch

 

 

مازال البعض في ثقافتنا يعتقد أن الكتابة، أن الأثر الأدبي سواءً أكان شعراً حالماً، قادماً من عالم روحاني آخر، أو كان دراسة مقارنة عقلانية من عالمنا، إنما هو جهدٌ من طبيعة أثيرية هائمة وغير محسوسة تقع، إجمالاً، في مناطق الشعور والهواجس الباطنية وليس في عالم الوقائع.

انهم يقيناً يعتقدون بأنه عملٌ شجاع يستحق التشجيع لكنه، ربما، لا يستحق المجازاة المادية لأنه ليس من طبيعة منفعية مباشرة أو تجارية تُباع ويُضارب عليها مثل العقارات المنقولة. إنهم ينتجون نوعاً من سلعة ميتافيزيقية.

 

إننا نمنح المبدعين في حقول الأدب والثقافة، أي ما يُعتبر الفكر اللامادي والسلعة غير المرئية (ولو كانت غير فاعلة)كل التثمين والتشجيع المعنوي، ولكننا من الناحية المادية، يعني العملة النقدية، سنثمن سلعتهم الميتافيزيقية القليل جداً. بين التشجيع المعنوي وذاك المادي تقع بعض الرؤية العربية للإبداع : رؤية رومانسية لا أس لها في واقع الكائن المنتج للسلعة الميتافيزيقية. هذا الكائن هو كذلك، وإلى جانب تعاليه على الواقع الكثيف والى امتلائه بالروحي، فإن كينونته تتكون من بداهات المعاش اليومي أكلاً وشرباً وتعطراً وغضباً وجنساً. هذه البديهيات الحيوية سنلتقي تشديداً عليها في كبريات أعمال التاريخ المقدسة أو الإبداعية لكن ليس في رؤيتنا الموصوف بعضها ها هنا.

 

سوى إن إعادة الاعتبار المتأخر زمنياً إلى الكتابة الأدبية بوصفها أثراً مادياً يستحق عناية من ذات الطبيعة (أي أجرة) لقاء حضورها في منبر صحفي أو تليفزيوني (اللذين هما بدورهما سلعتان تجاريتان)، قد دفع بالظاهرة لدينا إلى الطرف المفرط الآخر : هو التضخم في العمل الكتابي الـمُطالِب بأجر، والاندفاع في حقوله دون تروٍ ولا تفكير من اجل الحصول على المكافأة لوحدها. يحدث هذا خاصة على يد كتّاب ينتمون الى بلدان ذات أوضاع اقتصادية صعبة مقابل وجود إمكانات ثقافية كبيرة فيها.

هذا الذهاب من تطرف إلى تطرف، من اعتبار الكتابة هباءً إلى اعتبارها مجرد سلعة محضة، قد أوصل جزء من العمل الثقافي لدينا إلى آفاق متجهمة : إما شراء الذمم من طرف بلدان غنية وصحافات رسمية دعائية باسم أهمية (المهنة) الكتابية، هذه المرة، التي لأيديها العاملة قيم وأثمان في السوق. أو إلى التنكر في الممارسة لمبدأ المكافأة السليم ودفع جماعات كثيرة من المؤلفين إلى الكتابة في الصحافة على أمل الدفع لهم يوما لكن من دون أن يحصلوا على شيء أو إلا على النـزر اليسير. إن آليات هاتين العمليتين في الممارسة ليست بالوضوح الذي نقوله هنا بسبب أن طبيعة الثقافة هي بمكان من التعقيد كبير. الأمر الذي لا ينفي اشتغال الآليتين، عملياً، في حقول العمل الصحفي، اليومي خاصة.

يتوجب القول أن ثقافتنا العربية تغيب عنها، في هذا المجال، القوانين والمعايير الدقيقة. إن عقود الكتابة الموقعة من طرف البعض من المؤسسات الإعلامية لا تُنجز إلا من اجل قلة جد قليلة من الأسماء اللمّاعة، وأنها لا تحترم أشباه العقود الغامضة وأشباه التواقيع على أوراق أخرى موقعة مع أسماء أخرى أقل لمعاناً ولو أنها ليست أقل أهمية.

حتى اللحظة الحالية نلاحظ أن المكافأة لها حدان : فأما أنها أفسدت أقلاماً كثيرة دافعة إياها لمجرد الكتابة من أجل ربح مجرد دون أي مواقف إنساني أو تاريخي أو أخلاقي. كان كاتب مصري معروف يعلق على سبب إنجازه كتاباً ضد القضية الكردية "بأنهم قد دفعوا له" وأن ذلك يكفي، بالنسبة إليه، لاستكمال مشروعه من دون وازع ثانٍ. من طرف آخر فالمكافأة قد قادت إلى إسكات وإلغاء من لا يريد الاندماج مع المنطق الشكلاني القائل (بالدفع لقاء كتابة)، أيما كتابة مدفوعة الثمن.

بين هذا وذاك كان الموقف العربي العام يتأرجح بين محاولة الإفساد ومحاولة الإرضاء ودائماً باسم المكافأة الممنوحة للعمل المكتوب. لا يصدق هذا التأرجح على بلدان تمتلك في آن واحد أيديولوجيات صارمة وثروة طائلة وهذه البلدان لا ترضي بغير الإعلام الموجه أحادي الصوت بديلاً.

إن (الجدارة) هي الغائب الحزين. إن معرفة من هو (جدير) بـ (ماذا) لا تتم لدينا وفق تمحيص وإنما تتم بمزاجات المسؤولين المعنيين. ثمة بالطبع ضرورة لمنح المكافـآت للمشتغلين من خارج المؤسسات الصحافية لكن ثمة ضرورة مماثلة باتجاه فرز الغث من السمين. في صحافتنا الثقافية والسياسية، يوجد اليوم تداخل وتشابك مغرض بين الغث والسمين لصالح الغث الذي لا يرقى السمين إلى مستوى ممارساته البهلوانية.

السمين يفضل الانسحاب بهدوء من المشهد في النهاية.

 

العودة الى صفحة المقالات