Shaker LAIBI
الشاعر العربي ديكتاتوراً
(طبائع الاستبداد الشعري)
شاكر لعـيـبـي
1
لن نقول جديداً لو قلنا أن ظاهرة الاستبداد تتجلى في المجتمع العربي على شكل هيمنة لسلطة الواحد الذي يزعم العصمة، للسلطة الأبوية بمعنييها الرمزي والعائلي التي، بدورها، تزعم امتلاكها المعرفة النهائية والحكمة والنص الفريدين اللذين لا يأتيهما الزلل من مكان. لنعد القول أن كلا من التراتب العائلي والقسر الاجتماعي موضوعان هما أيضاً كقانونين نهائيين تحرم مناقشتهما. على الصعيد السياسي تتجلى الظاهرة في قمع أية ماهية معارضة، وأيما هيئة أو شرعة اجتماعية أو مجموعة تعلن بهاء التنوع بدلا من رتابة الصوت المعاد غير الضروري
2
وإذن فان الغياب القسري للآخر سيعلن بروز واحد مفروض على الهيئة الاجتماعية العربية وعلى الممارسة الآدمية والسياسية والثقافية. غياب الآخر هو حضور للاستبداد الجلي أو الخفي، للإجبار، (للجبر) كما يقول المعتزلة مقاربة بالإرادة، للعنت، للإلغاء وللتجاوز على حق الآخر في القول والفعل. وبعبارة أخرى فإننا أمام نفي للعقل الحر الذي يختار وفقاً للمنطق والحاجة والشروط الموضوعية عامة
3
أين يمكن أن نموضع الشاعر العربي المعاصر، خاصة الشاعر الطليعي والرائد، في سياقات الثقافة والاجتماع العربيين؟ لنمض بطرح أسئلة البديهي: ألا يشكل هذا الشاعر جزء عضوياً من بنية اجتماعية وأدبية وأخلاقية هي، في نهاية المطاف، الاسم الآخر للمجتمع العربي ولشروطه القاهرة؟ هل يكفي أن يزعم الشاعر العربي، لغوياً، تخطياً للإطارات القديمة للمجتمع حتى يكون قد تخطاها فعلاً؟ ما هو مقدار ترسّخ وثبات البنية المتردية هذه في داخل وعيه هو نفسه ومدى صيرورتها مكوناً من مكوناته الثقافية ومن ثم تجليها، مباشرة أو مداورة، في عمله وأشغاله الثقافية؟ هل أن الكتابة الشعرية، وهل أن الحقل الممنوح للشعر في ضميرنا الأدبي، هو انغمار في حقل لا أرضي، سام، متعال، لا علاقة له بالشروط الثقافية التي ينمو النص في حديقتها؟ ما هو دور (العادة) و(العرف) الثقافيين في تكوين القصيدة، من جهة، وفي تشكيل أخلاقيات الشاعر نفسه من جهة أخرى؟ هل صحيح أن (الشاعر العربي الكبير) يقف خارج البُنى والهياكل الثقافية وخارج أخلاق الأمة العربية الحالية؟
4
نريد أن نثبت في البدء نقطة منهجية جوهرية من دونها لا معنى البتة للأطروحة المقالة هنا. نقول أنه في كل مرة يجري فيها تقديم عمل نقدي وسجالي محرج في الثقافة العربية، فأن النوايا تذهب نحو تأويل غير حسن النية، وتُتهم بالقسوة والإلغاء والحط من شأن المبدعين الجاري تناولهم. نعلن إذن بأننا نقيم احتراماً عالياً جداً، بل ننحني بإجلال لأنجازات شعرائنا العرب الكبار، خاصة البياتي ومحمود درويش وسعدي يوسف وكبير القامة أستاذنا أدونيس. إننا نعلن بأننا تعلمنا على أيديهم وأن بعض الكلام المقال هنا قد وصلنا عبر إبداعاتهم العظيمة. نشدد على هذه النقطة المنهجية لأنه جرى، غالباً، إلغاء الحوار في ثقافتنا لصالح هشاشة التهمة. ولأن البعض من الصحفيين والقراء والكثير من الشعراء لا يقرأون في النصوص السجالية إلا ما يبدو لهم الفكرة الأكثر فضائحية والأكثر رعونة من دون إعارة اهتمام لا للسياق ولا للمغزى الأعمق للحوار. نعلن منذ الآن لكي نفوت الفرصة عليهم ولكي نصالح أنفسنا مع أنفسنا ومع أساتذتنا الكبار بأننا لسنا ابناءً عاقين لهم بل إننا بعض من غرسهم التاريخي
5
في اللحظة الثقافية الراهنة (ونشدّد على صفة الراهنة تشديداً) تبرهن الممارسات والكتابات أن الشاعر العربي الكبير، لسوء طالعه وسوء تقديراته لنفسه، هو جزء عضوي من انحطاط وتآكل الثقافة العربية السائدة، إذا لم يكن واحداً من المساهمين المستترين في تأبيد معاناتها، من دون عمد في أغلب الأحوال. هذه البداهة ذات نتائج حاسمة
6
ذلك أن زعم الشاعر العربي بتخطي وتجاوز والتعالي على شروط وإطارات وأخلاقيات الثقافة الراهنة لم يُبرهن بالكثير من الدلائل حتى اللحظة. العكس تماماً هو الذي تقوم عليه البراهين. كل الأدلة تشير على أنه يتحرك ضمن روح مُستـَلهْمة ومُسْهتدِية بتقاليد التخلف المعممة الآن. وكمثال على الإشارات التي يطلقها الشاعر العربي دليلا على تجاوزه للبُـنـي وللمستويات الثقافية العربية الـمُعممّة : إصغاؤه ملياً وبعمق شديد إلى صوته الذاتي قبل أصوات العالم الخارجي، كأنه في غيبوبة طال مداها، كما إيمانه المطلق، شبه الديني، المقال خفية لكن المقال على أية حال، بان الشعر بالنسبة إليه هو شيء يشبه الوحي القدسي على ذاته المنتخبة والمتفردة فرادة مطلقة. تجاوزه للمعطى العربي العام وتساميه المطلق هو في نهاية المطاف من ذات طينة تسامي الأنبياء والرسل عليهم السلام
7
لكن تجاوزاً شعرياً هذه حدوده وتلك آفاق عمله ليس من طبيعة يمكن أن تفيد الثقافة نقدياً وأن تنعش البصيرة وأن تصير محركاً جوهرياً للنص ولقرائه
8
هذا التجاوز المزعوم، هذا السهو في الوعي وذاك الإطلاق يحتاج بالنسبة إلينا، نحن القراء وأنصاف المتعلمين العرب، إلى إيضاحات، إلى نقد إضافي وإلى نوع من التجاوز له هو نفسه
9
أول هذه التوضيحات القول أن القصيدة، لدى الشاعر العربي الكبير، هي نوع من نص مقدس، عال اكثر مما يتوجب، وبوهم عميق، على وعي جاد متجهم ممكن، ويرفض الحوار معه. انه نص يحلق ويهيمن ويرفرف على الوعي والتجربة المتراكمتين ويسخر منهما، لأنه، ببساطة، ليس جزءً منهما، حتى لو انه يزعم بأنه يطلع منهما لكي ينفصل عنهما. إن نصه، أنه هو نفسه، منشق منذ البدء عن كل تفحص عقلاني نقدي وانه، منذ البداية، يشيح بوجهه عنه لصالح بداهته. إننا نعرف إن التقديس المطلق للفكرة، للذات، للعقيدة الجامدة يقود إلى الذات المطلق
10
تصوره للعلاقة مع العالم وللذات انطلاقاً من تبجيل زائد عن الحدود ومن دون فحص للذات يتضمن الكثير من العنت، خاصة الكثير من الوهم عن علاقة النص الشعري بسياقه. فلا تعاليه عن السياق جعله ينفصل حقاً عن السياق لأنه يمتح منه يومياً في الممارسة والكتابة، ولا الإندغام، على الطريقة الميكانيكية لبعض الماركسيين، بالسياق والارتباط به آلياً سيجعل من النص فعلاً إستعارياً، جمالياً متألقاً. كلا التصورين يبتذلان النص وينحطان به إلى مستوى الأفعال وردود الأفعال. كلا التصورين يتضمنان نوعاً من العنف الرمزي على الواقع: العنف الذي هو أس قمع الآخر وسبب في صعود أقنعة الدكتاتور
11
هذا العنف الرمزي قد مورس من طرف الشاعر العربي الكبير، بسبب السلطة الممنوحة له، وهو يستند على إرث جم يمنح الشعر في الثقافة العربية دوراً إستثنائياً: الحكمة والحكيم، المعرفة وإستبطان المخفي، التجلي عن روح أصلي وعن إشراقات صوفية. يمنح الشاعر سلطة رمزية كبيرة، رمزية وسحرية كونه صوتاً طالعاً في الوادي المهول المسكون بربات الشعر والحكمة: عبقر
12
لكن عبقرية النص الشعري في سياق تصورات الشاعر العربي الكبير عن نفسه تصير نوعاً من الاستبداد الصريح. كيف لا وهو يتخلى عن قناع الحكيم إلى الأبد، ويهجر عرفانية العارفين الكبار الزاهدين، ويتخلى عن رهافة الرومانسيين الحقيقيين المنـزوين في التأمل والعذاب، ويترك مقام الصمت اللائق بالشعراء ذاهباً إلى مهرجانات الحواة، وهو لا يطرح اليوم شكاً صغيراً عن القيم الروحية التي يقوم عليها وجوده ولا تساؤلاً عن قيمة شعره، وهو لا يعاود قراءة نصوصه كما كان يفعل أصحاب الواحدة أو أرباب الحوليات القانعين بالقليل من الأبيات لكن بالكثير من الشعر. إنه لا يصغي اللحظة لشيء سوى صداه، مثل قبرة عجوز
13
على طول وعرض تاريخ الأدب العربي كانت تسود هذه الثنائية : من جهة كان هناك أساتذة، وكان هناك، من جهة أخرى، تلامذة. الأول يـُملي على الثاني، الأول مدجج بالأسلحة الفتاكة للمعرفة والحكمة والرؤية الغائرة والروح النبوي والموسوعية والعطاء الغزير، والثاني محكوم، وهو ينـزوي في حلقة الدرس مع أقرانه المجهولين، بالقبول والتقبـُّل والأخذ، الأول يعطي من علٍ والثاني يأخذ باتضاع في علاقة من الإجبار التي تشبه كلمة الأب المتحققة، قسراً، في البيت العربي، تشبه صرامة أوامر أستاذ المدرسة في الحي الذي تهوي مسطرته على الأيدي الهشة ذات الأصابع التي لم تتقن حروف الهجاء بعد، تشابه حديـّة وقسوة معلم الكتاتيب في الماضي الملوح بعذاب (الفلقة) على القدمين الناعمتين اللتين لم تستويا بعد، وتشبه شيخ القبيلة العارف القاضي بحد السيف
14
الشاعر العربي الكبير يـعطينا مثال الرجل الطاعن في السن إزاء الولد الصغير الجاهل. من هو الجاهل يا ترى في هذه العلاقة المستلهمة من تقاليد يزعم الشاعر العربي رفضها؟
15
لما زالت ثقافتنا تتوهم أن الباحث أو الناثر لا يمكن أن يرقيا إلى سماء الشاعر، حتى لو كانا مزودين بعدة معرفية رصينة. إنها تفترض دوراً نبيلاً للشعراء، لا يحققه هؤلاء مع الأسف الشديد اللحظة. هنا يقع البعض الآخر من العنف الممارس على مُسْتهلكي الثقافة، خاصة وأن افتراضاً من ذاك القبيل يسمح، مرات، لمن لا زاد حقيقي من روح الاستعارة الشعرية لديه ولا الروح السمحة للشاعر الحق أن يُشعر ممارسي الضروب الأخرى من الكتابة بدونيتهم إزاءه، أن يمارس ضرباً من ضروب القمع الثقافي الخفي
16
لو قاربنا الشاعر العربي بالرسام مجايله لوجدنا الأول، الشاعر يمتلك خلفية تاريخية طويلة قد حفرت صورة له في الضمير الثقافي. هذا الصورة شاخت. ولم تعد تصف ملامحه الحالية، المخرفة. بينما يستعير الرسام كل مجده وغواياته من الصورة المجيدة للرسام الأوربي المعاصر (الغريب السلوك والسوريالي في الممارسة والقاضي نحبه مفلساً رغم عبقريته الفذة) التي انحفرت في الضمير العالمي، عبر الفن الأوربي، بوصفها صورة للرسام عموماً. لكن غواية الشعر في الضمير العربي ليست غواية التمثيل البصري، وهو أمر وضع فن الكتابة عموما والفن الشعري خصوصاً، موضع الاعتداد بالنفس أمام ضروب الفن القيمة الأخرى. إننا إزاء قمع رمزي آخر
هذا التراتب الجامد والمطلق بين عارفين ومريدين يصيب الشعر العربي لأنه سيختار الموقف الموصوف، المتعسف بعض الشيء. بصدد أدونيس يشير محمد الماغوط عن حق أن :"أدونيس يريد من حوله مريدين لا أنداداً" (جريدة النهار/ السبت 3 مارس 2001). الشاعر العربي الكبير يفترض حضور الأستاذية والمعرفة والإشراق في صلب كينونته، كما يتخيل شعره الشفيف مرفرفاً عالياً فوق انحطاط العالم العربي وأسمى من عوالم النثر الجافة القاحلة الموجودة في صلب كينونة الأبناء الفاسدين
17
هذا التراتب يمنح الشعراء العرب المعاصرين مجداً مشكوكاً ببعضه، ذلك أن دورهم ملعوب اليوم من دون الكثير من الرويّة والإئتاد وانه مفترض من دون تمحيص ومن دون نقاد لا يعاودون قول المألوف
18
ما هي طبائع الاستبداد الشعري العربي؟
19
من أجل جواب دال سنطرح المزيد من الأسئلة التي لا تنتوي سوى إيضاح الصورة والإيحاء بإجابات ممكنة، ونبدأ بالسؤال: لماذا يدأب الشاعر العربي أن يلغي معاصريه لحساب عمله الشخصي فحسب؟ كل القراء المتنورين يعرفون هذا الأمر
20
منذ أن استقرت الحركة الشعرية الحديثة في العالم العربي فان الملاحظ أن الكبار من الشعراء لا يعترفون إلا بأنفسهم أو إلا بقلة قليلة تُعتبر حاملة ألوية الريادة والمعرفة والإبداع، ويعتبر ما جاء بعدها شعراً هشاً، مقلداً، ضعيفاً وركيك المخيلة. يقول الشاعر بلند الحيدري بهذا الصدد: "لا يزال بدر شاكر السياب ونزار قباني وأدونيس هم المسيطرين أمام هذا الكم الهائل من الأصفار الشعرية فهي ليس إلا عربات فارغة لا يشكل فراغها إلا ضجيجا كبيراً" (في مجلة الكفاح العربي 6-5-1993)
21
إن شعرنا يعاني من وجود محورين ليسا من طبائع الأشياء الشعرية: يقف في طرفه الأول المبدعون الرواد، بينما يقف في طرفه الثاني الشعراء العاديون، المقلدون من الجيل الثاني ومن كل الأجيال الشعرية التالية. هذا التمحور ذو نزعة إستعلائية وإلغائية. إنه غير عادل على الإطلاق. ومن أين له أن يكون عادلاً في مجتمع غير عادل على أية حال؟
22
إن إلغاء الشاعر الكبير للشاعر الآخر هو إلغاء لكل ذات أخرى في نهاية المطاف. سوى أن إلغاء الشعراء تصير رديفاً صارخاً لاستبداد مستمد من طبع غير شعري. هذا الاستبداد يعاود الطلوع بعناد في حقول بعيدة عن السياسة، ويظهر بالتالي في الحقل الأدبي، في الشعر خاصة
23
مثل الشعراء الكبار الطليعيين الذين يلغون الأجيال اللاحقة لهم مثل من لا يعترف بأبنائه، مثل من يقمع أولاده ويجبرهم على الانخذال والإنخزال والبقاء في السرداب المظلم في بيت العائلة وإلا فإنه سينهكهم إهانة وتوبيخاً
24
وفي الحقيقة فإنك عندما تلغي الآخر فإنك تلغي جزءً من ذاتك، من شعرك. إننا أمام علة مزدوجة الأذى: إنها تؤذي الآخر وتؤذي في آن واحد ذاتها هي نفسها
25
إن إرادة الأبناء الانتقال إلى مواقع رؤية شعرية جديدة لا تؤخذ على محمل الجد، بل تقمع بصراحة وبضراوة. على الأبناء المشي على هدي رسالة القبيلة ورؤسائها التاريخيين. لأن الخروج عن السياق المضمون، المعروف، الأمين الذي بنته الطلائع الواثقة (التي لن ينجب التاريخ الفكري والشعري مثيلاً لها كما يبدو) غير مسموح به. أنه مقموع بعبارة أخرى
26
وبطبيعة الحال فلن يأتي الشاعر الكبير لكي يخذلك علانية وبفجاجة أمام الملأ. إنه مثل الأب العربي، سيفعل ذلك زاعماً أنه يرحمك ويتمنى لك الخير يعني الشعر الجم
27
الإلغاء الشعري للأجيال اللاحقة في القصيدة العربية المعاصرة هو نوع من التأديب لها لكي تظل في موقف المريد، الطالب، في موقف الشاعر من الدرجة الثانية وفي موقف التلميذ الذي لن يتعلم إلا بعد وضعه في الزاوية المعتمة وتأديبه بالعصى
28
هذه العُصُي، من الزاوية التي تهمنا، رمزية إلى حد بعيد، إلى حد مرير
29
إذا كان الشاعر العربي الكبير يمارس هذا الدور فلأن (أناه) بالغة الضخامة كما قلنا. سوى أن هذه النـزعة العلوية، المتضخمة تظهر في تاريخ الشعر العربي برمته منذ امرؤ القيس مروراً بالمتنبي وصولاً إلى أدونيس. (أنا) الشاعر العربي تروم القيام بمقام النبي كما حضر في ديانات منطقتنا التوحيدية المتعاقبة (وليس الرائي على الطريقة الفرنسية المتلامسة مع نوع من إشراق داخلي أو جنون)، أو بمقام الرباني الذي يقول نصوصاً مقدسة، مرهفة القداسة، وليس مقام الكائن البشري الفاني الذي يقول الشعر الجميل. علينا اليوم إعادة تقييم جذري لهذه النـزعة
30
فلنقل أن الاعتداد غير العادي بالذات وهو نقيض لبساطة التواضع وعمقها، إنما هو سمة من سمات الاستبداد قبل أن يكون عرضاً من أعراض القلق النفساني. ثمة آلاف من الأمثلة في الشعر العربي القديم والحديث على هذا الاعتداد المرضي (بالأنا) المدَّرس لنا بوصفه علامة وإشارة ودالة من دوال الشاعر المهم والشعر الحقيقي. قال سوَّار بن المضرَّب
أعاذلتيَّ في سلمى دَعَاني فإني لا أطاوع من نـهاني
وقال الممزق العبدي
إن يُتْهموا أُنجِدْ خلافاً عليهمُ وإن يُعْمنِوا مستحقبي الحرب أعرِقُ
المتنبي تعلم من هؤلاء. ولقد علّمونا الأوهام
إن (أنا) متضخمة لا تسائل نفسها ومن دون نسبية ورجوحية، إنما هي (أنا) مريبة. قد تكون مهمة وعظيمة ولكنها مريبة
31
يبرهن لنا الدكتاتوريون في سدة السلطة بأنهم أبعد ما يكونون عن أي تواضع. إنهم يطرحون أنفسهم كذوات قدرية، كبيرة، فظيعة، سامية حتى عندما تمارس الذبح، وضرورة تاريخية لا محيد عنها، حتى أنهم يخترعون لأنفسهم سلالات دينية وذلك لكي يتماهوا خفية مع النص الديني بل لكي يتعالوا عليه. نعرف أن أحدهم قد اخترع له نسبين مزدوجين : في طرف منهما ينتمي الى السلالة العلوية الشريفة وفي الطرف الأخر إلى السلالات الرافدينية الموغلة في الماضي. هذا الرجل يحسب أن فضاعته واستبداديته لا تتوطد، بالضبط كما يفعل الشاعر العربي الكبير، إلا بتوطين الخرافات حوله وتضخيم الذات، وإلغاء شعبه التلميذ، أي شعر الجيل الثاني الذي لم يقم بالثورة، ثورة الشعر الحديث مثلاً
32
شعريته تنبثق من علوه المفترض المضخّم وليس من مكان آخر أرحب في الإنسانية وأوسع في الأخلاقية
33
لكن أليست ضخامة ذاته هي ردة فعل على روح الطفل الذي طالما قُمع. الشاعر العربي الكبير هو طفل كان مقموعاً بشدة، وهو يعوّض الآن ذاك القمع بقمع الآخرين. هل تستوي هنا نظرية الطفل المقموع من أجل تأويل قمع الشاعر العربي الكبير لكل الإرث الشعري المعاصر الآتي بعده؟ أم أنها ستحمل على محمل الطرفة؟ ستؤخذ في الغالب كطرفة، الأمر الذي لا يمنع من رؤية شيء منها في صلب الواقع الشعري العربي الراهن
34
هل يمكن لطفل مكسور الجناح أن تبلغ (أناه)، وهو يتقدم في السن، ما تبلغه أنا (بعض) الشعراء العرب الكبار من الضخامة والإفراط لكن مقابل إحساس آخر يستشعرونه في دواخلهم وهم يعرفون معرفة أكيدة القيمة الحقيقة لشعرهم بعد سنوات طوال من كتابة الشعر؟ هذا سؤال محرج لا ضرورة للإجابة علية وتجيب عليه مثلا التصريحات التي أطلقها مؤخراً الشاعر سعدي يوسف. فقد رد على سؤال فيما إذا لا توجد في الشعر العراقي الحالي إضاءات أو إستثناءات (جريدة القدس10/11 شباط 2001) قائلاً :"يوجد فحسب كذب كبير لا يصدَّق" و"أنا لم أعد أؤمن أن الشعر يولد في العراق" و"الثقافة العراقية في تدهور شامل ولا فرق بين ما يكتب في الداخل أو في السويد". أنه ينفي في الحقيقة، جهاراً نهاراً، أي صوت آخر سواه من على خارطة الشعر العراقي. إنها تكشف عن عمق الورطة التي يجد شعر سعدي يوسف نفسها في داخلها، وتشير إلى أن شاعراً كبيراً يمكن أن يخرف في نهايات حياته. أننا نحب آباءنا حتى في تخريفهم
35
غير أننا نعرف أن براءة الطفل هي ضرورة مطلقة للشاعر. الشعر هو الطفولة المستعادة قصداً كما كان يقول بودلير. غالبية الشعراء العرب الكبار يمتلكون يقيناً زاداً ثراً من هذه البراءة، وهو ما تبرهنه لنا أعمالهم الشعرية الأولى، مثلما هو حال دواوين أدونيس والبياتي وسعدي يوسف الأولى. الأولى خاصة، ذلك أن التوطن اللاحق في الجو الثقافي العربي لا يفعل سوى جرح (الطفولة) الأولى الضرورية للشعر، سوى سقيها المُرَّين، ترويضها، ثم نفيها بعيداً، إذا لم نقل قتلها
36
ثمة تناقض جوهري بين (البراءة) وأحابيل وقسوة الواقع الإجتماعي وفساد الأجواء الثقافية في العالم العربي المليء بالخدع والمؤامرات والمصالح والمصالحات والظلم الشديد. وباختصار، ثمة تناقض بين البراءة والظلم لصالح الأخير الذي يجهز على كل عمل ذي طبيعة نقية وطفولية وذات روح شعري متألق
37
إن ثقل الأحبولة في الثقافة العربية لا تنقل فحسب البراءة إلى طبيعة مناقضة، بل أنها تبذر بذرة عدائية وصراعية، ستعتمل في داخل المواهب الشعرية الكبيرة بسبب تعرضها المستمر للأذى من كل حدب وصوب. إننا نعرف أن للشهرة وطأتان: وطأة لذيذة لأنها تشعر صاحبها بالجلال والسمو، ووطأة كارثية لأنها تعرضه لشتى المحن والمؤامرات الصغيرة منها والكبيرة، حسداً وغيظاً من موهبته الشعرية الكبيرة. عليه أن يقوم بدور قدسي في الكتابة ولكن عليه أن يتحمل ابتذال أقاويل وصغائر الحياة الثقافية العربية. لا مجال هنا لأي نوع من البراءة. تنطفيء البراءات رويداً رويداً لدى الشاعر العربي الكبير أمام الهجوم الكاسح لصغائر الأمور التي تصير في ثقافتنا (التي تضم الشعراء أنفسهم بالطبع) (عادة) و(عرفاً) للمثقفين. تنطفيء البراءات ويرتدي الشاعر العربي الكبير قناعاً آخر أكثر جسارة، قناع المحارب الضاري
38
في سياق يضيِّع البراءة ويطفيء القلوب الحرّى، يفترض الأبن البريء ان الشاعر العربي الكبير، بسبب جلاله، سوف يتشبث على الأقل بتواضع باهر، على أساس أن واحدة من الطبائع الداخلية للشعر إنما هي رجوحيته وهيماناته في الآفاق وتجواله وتقليبه في المعاني من أجل المعنى الأعمق، وعلى أساس أن نسبية هشة تحكم افعال الشاعر وأشغاله لأنه ليس حكماً ولكن وصافاً للمشهد، شاهداً وحكيماً. يقول الابن الضال: ربما عوض حضور التواضع لدى الشعراء عن غياب وتحطم الطفولي فيهم، أي غياب الأولي والأصلي. التواضع في القول والفعلة، كان يفكر، ليس سوى سعي للإمساك بفضيلة الزهد من أجل الإعلان عن محدودية الكائن، شاعراً كان أو ناثراً، كبيراً أو صغيراً. محدوديته التامة التي تود تجاوز نفسها طالما تحاول ممارسة صعبة مثل الشعر
39
يغيب أي شكل من أشكال التواضع لدى الشاعر العربي الكبير إلى درجة أنه يعلِّم المعمورة الأمر التالي: توخي الحذر من إظهار أي تردد داخلي فهذا سيجري النظر إليه بوصفه هشاشة إنسانية وضعف يشابه المرض النفساني. إعلان التردد الداخلي والشك قليلاً بالذات الخلاقة هو، في ثقافتنا، رديف لضعف النص الشعري نفسه صنيعة الكائن المتردد الموصوم بالعلل النفسية
40
يغدو التواضع، ويصير الصمت رديفين لعلة إنسانية ثم لعلة شعرية باطنية. بدلاً من التشبث بالزهد والصمت والتأمل، يحسب الابن الرومانسي الضائع، يهجم الشعراء بالاقاويل والنصوص على الواقع الثقافي. انه يستعرضون أمامه صلاباتهم وصلافاتهم ومعرفتهم التي لا يرقى الشك إليها. الوثوقية إذن بدلاً من الرجوحية، والعلو والتكبر بدلاً من التواضع. الشاعر العربي الكبير يفعل ذلك، مقدماً للأجيال التالية دروساً وأمثلة. منهم سيتعلم وعنهم سيتابع بعض أبنائهم من الشعراء والكتاب الصلف عينه وليس البتة شيئاً سواه
41
ما هو مصير النص الشعرى يا ترى في سياق مشتبك لا زهد ولا تواضع فيه، سياق فواح بذرق الطواويس؟
42
إن النصوص التي يطلع منها الشعراء العرب الكبار تتذبذب بين
أولاً: حياكتها على إنجازاتهم الأولى، الشبابية القديمة (بإمكاننا يقيناً استثناء شعر محمود درويش في العشر سنوات الأخيرة) وإعادة إنتاج نص شعري واحد، سنقول، موحَّد اللغة والمخيال والموضوعة وهو ما تبرهنه أعمال سعدي يوسف في العشر سنوات المنصرمة وهو ما نتعرف عليه لدى البياتي والحيدري
ثانياً: الوفرة المفرطة في النتاج الشعري التي لا تضيف بدورها شيئاً إلى إنجازهم الناضج المعروف. هذه الوفرة الغريبة تعتبر بالنسبة لبعضهم تمثيلاً لخصوبة شعرية خلاقة تستطيع إنجاز النصوص في كل لحظة وفي كل مكان. فسعدي يوسف وهو أبرز من يمثل هذا الوهم الغنائي يسعى عبر التكاثر إلى غزو السوق الثقافي وتوطين اسمه وأشعاره بالتكرار اللامتناهي لنص واحد تقريباً. يتجلى العنف الرمزي هنا مرة أخرى عبر خضوع وسائل الإعلام لصيت الشاعر وإجبارنا، على مضض، على اللقاء بنصوص مستعادة مكرورة
ثالثاً: وهو مثال شاعر عربي كبير معروف، تسميته لا ضرورة لها البتة في هذا المقام، شاعر مثقل بمنجز شعري ونقدي ثريّ وغنيّ وبالغ الخصوبة والشاعرية، لا يغني للأسف إلا ذاته ولا يرى إلا إلى نفسه. جميع ما صرّح به وقاله وكتبه يتضمن، خفية، عدم الاعتراف بأيما إنجاز شعري أخر، سوى الاعتراف بالأموات الكبار فحسب في أحسن الحالات
43
نحسب أن كل تعال روحاني حقيقي على الواقع، إنما هو تعال على الذات، يغيب معه بشكل وآخر الملامح الشخصية وتنمحي بالقانون الشامل للكوني وللمطلق ولكن ليس ذاك الكوني والمطلق الذي هو فحسب جهل بالوقائع الطفيفة التي تشكل القانون الكوني في نهاية المطاف. ما يحصل لدينا أن مزاعم التعالي على الواقع تتصاعد معها نزعة فردانية مفرطة الهوس بشخصها. لماذا تتشكل المعادلة على هذا النمط المتناقض؟
لأن الشاعر العربي الكبير يزعم التعالي على الوقائع الطفيفة ولا يتعالى على الواقع كله. بين (الوقائع) و(الواقع) ثمة مسافة لا تُحسب لصالح قصيدة الشاعر العربي الكبير التي تمتح من نبعين وتتردد مجبرة بينهما ولا تستطيع الإفلات من شدة الواقعي ملغي الذات الشعرية لكي تسقط في نقيضه اللاواقعي معلِّي الذات علواً جسيماً. وعلى أية حال يتوجب التذكير هنا أن ليست كل نزعة ذاتية هي نزعة مرضية. إنها تنحرف إلى المرض كل مرة لا ترى فيها إلا نفسها وتتبقى في ظلمة كبيرة
44
الانغمار في الشمولي هو (رفض) للطفيف واندماج بالكبير
45
الكبير هو على ما يبدو، هو تصعيد لذات أخرى (خنثى). وليست (مخنثة) كما أراد أحدهم أن يؤول هذ النص أسوأ تأويل قبل نشره. وإذن فان ما يفتقده الشاعر العربي الكبير كذلك هو هذه الروح الخنثى التي ليست، بالطبع رديفاً لمثلية جنسية، إنما هي تفهُّمٌ أفضل للأجناس الأخرى من كل نوع، تفهم عميق للجنس الآخر أياً كانت طبيعته: إنسانية أو نباتية أم حيوانية، وهو تفهم يمنح الشعر وظيفة من وظائفه كمعبر عن (الحي)، عن خفقان الحي وتصويتاته في العالم
46
لا يستطيع الدكتاتور أن يكون خنثى أبداً. إنه يعبِّر فحسب عن الرجولي، بله (التمرجل) المعتبر نسقاً أشد صرامة، أقوى وأكثر ثباتاً من أي نسق آخر، نسقاً أقل تردداً، مثلاً، من ذاك الموقف الأنثوي الموسوم، خطأً، بالضعف. وفي الحقيقة فإن المرأة أبعد ما تكون عن صورة الملاك الطاهر، الرحيم الممنوحة من جهة أخرى لـها
47
إن المعادلة أعقد، في ظني، بكثير من هذا التبسيط. لا الدكتاتور (المتمرجل) الذي هو تعبير جلي عن الرجل الشرقي بممثل صادق للقوة، ولا الأنثى الهشة هي نقيض لمفهومة مثل هذه للقوة
48
من دون أدنى شك فان الشاعر العربي الكبير يتماس تماساً خفيفاً مع (تمرجلات) الذكر الدكتاتور أكثر مما يلتقي مع روح الأنثى. روحها هشة وصلبة في آن واحد بمزيج سحري أثبتت لنا الأيام بأنه ممكن جداً وناجح.
العودة الى صفحة المقالات