Shaker Laibi
صورة الآخر في الشعر العربي الكلاسيكي
شاكر لعـيـبـي
كيف يا ترى يظهر (الآخر) في شعرنا العربي القديم؟ ما هي الملامح الممنوحة له، ما هي درجات اقتراب الشاعر القديم أو ابتعاده عن سمات وصفات (المختلف) عنه لغوياً وإثنياً وثقافياً؟ هل تعلن النصوص الشعرية المتوفرة بين يدينا، قبولاً وتسامحاً أم تُبطن رفضاً لذاك المختلف؟
هذه الأسئلة لا تتعلق بالماضي لوحده، لأنها تـمسُّ الحاضر
إذا أخذنا أكثر الأمثلة تطرفاً في نفي الآخر، فسوف نتوقف أمام بيتي المتنبي الشهيرين
لا تشتر العبد إلا والعصـا معه إن العـبيد لأنـجاسٌ مناكيدُ
من علم الأسْودَ المخصيَّ مكرمةً آباؤه البيض أم أجداده الصيدُ
مثال فادح في النفي. الآخر هنا مرفوض رفضاً باتاً لسبب نسميه اليوم عنصرياً. لكن البيتين يمثّلان مشكلة فعلية لأنهما لا يستجيبان لإرث عربي إسلامي مشحون، نظرياً، بموقف إنساني عالٍ يتقبل الآخر المختلف طالما استوى في ممارساته مع القيم المعتبرة قيماً فاضلة. يتوجب، من زاوية المنطق التاريخي، محاكمة الموقف من (الزنج)، أي الكائنات الإنسانية ذات الأصول الأفريقية، بصفته موقفاً كان يحكم مجمل تاريخ البشرية ولا يتحدد العرب لوحدهم في داخله
لنعاود القول أن هذا الموقف من الآخر الأسود اللون يشكل تناقضاً في منظومة الوعي التقليدي الذي، من جهة، يحث على المساواة وفق (التقوى)، ومن جهة أخرى يعلن ممارسات ساخطة، صريحة في سلبيتها إزاء المختلف مثل بيتي المتنبي من بين مئات أخرى لا يسعنا الاستشهاد بها ويمكن العثور عليها في مظانها التراثية
لنتبق في سياق التعاطي الإثني، ولنرَ أن موقف الشاعر العربي التقليدي من العلوج (علوج الروم التي طالما استحضرها أبو تمام والبحتري وغيرهما الكثير) ومن الصقالبة ومجمل سكان الإمبراطورية البيزنطية، كان يتميز بذات النوع من التوتر والتعالي، وهو يستحث مواقف الجبن والإنخذال والخزي لديهم، كما يسخر أحياناً من صهبة ألوانهم ويعتبرها رديفاً لضعف أصلي كامن في وجودهم الداخلي والفيزيقي
الرجل الذي يشكّل استثناءً معروفاً، في تقديرنا، هو المعتزلي الكبير أبو بحر الجاحظ الذي امتدح في رسالتين معروفتين له السود والترك. الناثر والمفكر إذن وليس الشاعر العربي (وبشكل إستثنائي تماماً بسبب صلابة وعيه العقلاني الإعتزالي) هو من مرق عن النظرة السائدة للآخر المختلف
وعلى أية حال فلدينا المفارقة الجديدة التالية: هناك أخوُّة عربية رفيعة المستوى بين أبناء القبيلة الواحدة أو الأمة الإسلامية الواحدة، هناك إنسانية ملموسة في (قبول) الرابطة المتأسسة على الدم إلى درجة متطرفة تذهب إلى (أنصر أخاكَ ظالماً أو مظلوماً) التي لم تختف حتى اللحظة. ثمة كذلك ذلك (الكرم) في رفد (الغريب)- لكن الغريب المنحدر من ذات الملة والأمة : أخا العرب، الـمُحْتـَفَى به بسبب غربته أياماً طوالاً. ثمة شعر عربي كثير يتعلق بذلك الأمر. ثمة ها هنا رحمة قلما نلتقيها في ثقافات أخرى. رحمة ستتبقى رحمة طالما احتاج الغريب إلى العون وطالما لم يمتلك الوسائل المادية ولا صلات الرحم التي تضمه في منطقها. رحمة ستختفي عند انبثاق اختلاف جوهري، أو يُعتبر جوهرياً، وتحل محلها قسوة عالية تتجلى بفكرة (النفي) أو (الحرب) على مضارب الآخر وفي تقتيله وتشريده
نتكلم عن (غريب) هنا بمعنى مجازي، لأن حقل الكلمة الدلالي يظل يشتغل في نفس النطاق الثقافي وفي تقاليد الذات الشاعرة، وليس غريباً منحدراً من تقاليد ثقافية أخرى
إذا ما جاء كائن آخر من ثقافة أخرى، مثل (ابن الرومي) و(ياقوت المستعصمي) البيزنطي، فما هو ياترى موقف ثقافتنا العربية منه؟
لقد حلت ثقافتنا، مثلها مثل أية ثقافة أخرى، هذه الإشكالية في تأكيدها على ضرورة إندغام الآخر بمكوناتها وصيرورته جزءً منها. كان يتوجب على الآخر، والحالة هذه، الإندماج بمؤسساتها العائلية كأن يجد لنفسه نسباً عربياً (لقد جرى غالباً الغمز من أصول فارسية مزعومة لأبي نواس) أو يصير (مولى). يبرهن كتاب (الفهرست) لابن النديم أن ثمة الكثير من البيزنطيين (الروم) كانوا مقبولين كلية الى درجة اندراجهم بالمؤسسات الرسمية والدوائر الحكومية وصناعات الدولة. انه مثلاً يتحدث عن رجل يوناني اسمه (بسطلوس) كان صانعاً ماهراً للإسطرلابات في بغداد نهاية القرن التاسع الميلادي
على أن من الـمُحال تماماً، كما نزعم، على حضارة كبيرة، في لحظات انتعاشها القصوى، أن تنفي (الآخر)، إنها تجد له جميع (الحيل الفقهية) والمناسبات لكي يندغم في حركتها. لم تكن الحضارة العربية الاسلامية بمنأى عن هذا المنطق العملي. فلكي تزدهر يتوجب عليها الاستعانة بأية خبرة ممكنة. الآخر النسطاس، يعني الطبيب البارع مثلاً سيصير صديقاً حميماً للشعراء وللخلفاء رغم أنه كان يأتي من أفق ديني نصراني، عربي أو آرامي أو بيزنطي
جميع العناصر الموصوفة تؤكد لنا أن صورة (الآخر) في الشعر العربي التقليدي هي في غاية الاختلاط والتناقض. من بيتي المتنبي إلى قصائد الرثاء المكتوبة في كبار أطباء البلاط النصارى، لدينا شعور قوي بأن هناك شيء ما غير مترابط وغير عضوي: من الناحية العرقية واللونية ثمة ازدراء للآخر، الأسود والأصهب والأحمر التي كانت تعتبر كلها دلائل لونية على انحطاط ما. في حين أننا من الزاوية الثقافية والحضارية أمام احترام بل تبجيل لمعارف الآخر، اليوناني خاصة، ثم الصيني والهندي رغم جميع التفارقات الدينية الجذرية بين دين الإسلام الحنيف التوحيدي وديانات البوذية والبرهمية غير التوحيدية، بل المشركة جهاراً. هذا الموقف ما زال حاضراً حتى اليوم ولكن بالمقلوب
إننا نعرف بأن هناك الكثير من الهنود العاملين بهدوء شديد في بغداد العباسيين وأن هناك حي كامل لصُنّاع الخزف الصيني في العاصمة نفسها كان معرروفاً باسم (سوق خضر). لا الهندي ولا الصيني الآخرين كانا مطرودين من عالم الإسلام. بل أن البيروني الفارسي الأصول واللغة (ت 440 للهجرة)، انطلاقاً من احترامه الجم لمعتقدات الهنود، سيؤلف كتابه تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة
يتبقى القول أن حركات طالعة لكي تُشهر موقفاً نافياً للآخر، مثل ما يسمى (بالشعوبية) التي تضع تحت تصرفنا شعراً كثيرا مفيداً في معالجة المشكلة، كانت فحسب ردة فعل إيرانية متأخرة على سقوط الإمبراطورية الساسانية. أنها تمثل أسى شعب رأى إلى تـهاوي دولة قاومت قروناً طويلة أمام أعتى مؤسسات زمانها العسكرية والحضارية لكنها سقطت، لسوء حظه، على يد العرب وحدهم. هذا (الآخر) كان كذلك جزءً من بنية ثقافتنا التاريخية. القصائد الشعوبية (ونعلن هنا بأننا لا نحب المفردة) التي تمتدح الفرس على حساب العرب، مثل طروحات البعض حالياً الذين يمتدحون الآراميين على حساب الثقافة الوحيدة التي يمتلكون، العربية، هي في آن واحد نوع من رثاء للذات وتوبيخها كما أشاحة الوجه عن المعطى الواقعي الملموس وهو حضور الثقافة العربية، بقضها وقضيضها، كثقافة مهيمنة إلى أجل غير مسمى
في هذه الشروط فان صورة الآخر في الشعر العربي تقدم إشكالية حقيقة جديرة بالوصف والتأمل. لأنها تقدم لنا، من طرفها الخفي، أزمتنا الحالية نفسها مع الآخر
من الإزدراء القديم إلى الإندغام الأهوج الحالي، ومن احتقار الذات الوطنية والمحلية التي نعرفها في الكتابة كما في المطارات العربية، إلى الإحتفاء المبالغ به بالآخر الأوربي عبر الترجمة كما في تبجيل جوازات سفره، ومن الإحترام العالي للثقافات الآسيوية في ثقافتنا التقليدية كما يبرهن جميع الرحالة المسلمين إلى إزدراء الآسيويين الراهن المشتغلين كخدم في منازلنا، ومن تقديم أوصاف مُـمْـتَدَحَة لسمرة السيدات العربيات في شعرنا العربي التقليدي إلى إنشغالهن الحالي بتغيير لون شعرهن إلى ألوان فاتحة، جد فاقعة وشقراء، ثمة أزمة حقيقة لا نحسد عليها البتة
العودة الى صفحة المقالات