غازي الذيبة
الدستور
الوطن القطرية
البيان الإماراتية

 

حسرة الياقوت في حصار بيروت» لشاكر لعيبي

 غازي الذيبة  

   Date:Feb-11-2004  الوطن القطرية 

 

 

«حسرة الياقوت في حصار بيروت» تأليف شاكر بن لعيبي التميمي البغدادي‚ ولد سنة 1375هـ»‚ بهذه المقاربة الدالة‚ في تراثيتها‚ يقدم الشاعر العراقي شاكر لعيبي اسمه وعنوان كتابه وتاريخ ميلاده بالهجرية

صدر الكتاب عن سلسلة ارتياد الآفاق التي تصدر في ابوظبي عن المجمع الثقافي‚ وهي سلسلة ترصد جزءا مهما من ادب الرحلات المعاصر في الثقافة العربية‚ نشرت فيها عدة كتب الى الآن‚ لشعراء وكتاب‚ جالوا الافاق في العصر الحديث‚ يشرف على هذه السلسلة الشاعر نووي الجراح‚

يمضي شاكر لعيبي في اصداره الجديد الى منطقة‚ هي محمولة على فترة عيشه في كنف مدينة بيروت‚ الى جانب الثورة الفلسطينية وصحافتها‚ وكتابه الذي يعرض لهذه الفترة ليس مجرد رحلة في السيرة والمكان‚ انه رحلة ايضا في التاريخ‚ وشهادة حية‚ مازال دمها ساخنا على زمن عربي محشو بالألم والعناء

وباختصار شديد يمكننا ان نقارب «حسرة الياقوت في حصار بيروت» من قصيدة معذبة وعذبة‚ تذهب الى مكان مشدوه‚ الى ناس غير الناس الذين نعرفهم‚‚ الى حيوات‚ تضع حياتها بدقة متناهية في الالم

حصار بيروت عام 1982‚ كتب عنه الكثيرون‚مذكرات وتحاليل سياسية وطبية واجتماعية لكن لعيبي هنا‚ مرر روحه على الكلمات وجعلها تنبض عبر ذاكرة‚ ما فتئت تتمزق لهول الفجيعة‚‚ التي تناسلت لاحقا‚ بحصارات ومستوطنات مريعة يكتب لعيبي سيرته بلوعة‚ بشغف‚ بألم‚ واحيانا نسمعه يقهقه‚ حالما بلحظة استرخاء‚ تحوطه برقة ما‚ رقة تجعل منه روائيا‚ شاعرا في هذا النص الدافىء والحميم والمتدفق‚ مثل غبطة لامتناهية من العادي الى العادي في اليومي يذهب النص نتعرف فيها على شخوص قرأناهم ذات ورق هنا وهناك شخوص تراموا على اطراف النص وفي قلبه لكن روح السارد الراوي تبزع مثل لحظة وامضة لتشد الحكاية الى اقصى مكان ترفرف فيه طيور الذاكرة‚

انها اللغة

انه السحر‚‚ الذي يجعله البيان فياضا‚ فارغا‚ ومديدا مثل هالة من الضوء الذي لا ينتهي في مضيه الى الامكنة والذاكرة والارواح

لم اقرأ كتابا عن بيروت بعد «ذاكرة للنسيان» و«آه بيروت» مثل كتاب «حسرة الياقوت»‚

انه من النوع الذي يصطاد القارىء ويجذبه الى متعة سرية‚ تتكشف فيها الرغبات العادية لرجل خارج للتو من عباءة الماضي الى عباءة الحاضر

وتفضح عن غرائز البشر‚ تلك التي نخبئها كما لو انها سر الاسرار‚ اذا ما كشفت اصبحت رجسا من عمل الشيطان‚ لكن اللعيبي يقد هذا القميص ويبلل الورق الابيض بحبره كاشفا مستوضحا‚ وفي الآن ذاته معلنا عن قلق عابر للمفازات والذوات قلق الشاعر في المكان وقلق المكان في الشاعر وما بينهما قلق التاريخ الذي يتقافز مثل قط يتألم هنا وهناك‚ باحثا عن قارة للمعنى‚

بيروت بروحها وذاكرتها الحادة‚ وفلسطين بروحها وذاكرتها الحادة‚ تجتمعان معا‚ الاولى مدينة قدر لها ان تكون دائما في لحظة ومض والثانية بلاد منهوبة حتى الفجيعة‚ تلك التي لا يني شاكر لعيبي يقدم ومضات من قسوتها‚ وكل ذلك في احالة الى الجمال

من عنوان الكتاب ـ الرحلة‚ نستمد للوهلة الاولى «الياقوت» «الحصار» وبينهما متفارقات‚ تجتمع لتضع الملح على الجرح‚

لعيبي ‚‚ لا يحلل

انه يقرأ

لا يؤرخ

انه يتذكر

يمنح الزمن روحا فضفاضة‚ تطغى عليها اللذة‚ لذة النص‚ كما باح بارت‚ النص الذي لا يتوقف عن اماطة اللثام عن الاشياء‚ النص الذي يختار قدرته على البقاء من البقاء ذاته‚ ثم يصعد مثل غيمة ممطرة‚ الى اعلى

حسرة الياقوت كتاب يختزل سنوات الحصار لمدينة مازالت حلما

هنا شذرات من كتاب شاكر لعيبي «حسرة الياقوت في حصار بيروت» :

آخر عين رمقتني‚ بعتاب‚ قبل خروجي إلى لبنان كانت عين أمي‚ بعدها حدَّقتْ بي عيونٌ كثيرة في السهل والجبل‚ عيون جدَّاحةٌ وأخرى أكثر براً‚ من الغريب أنني كنت أخرج إلى لبنان لكنني كنت أجد نفسي في فلسطين‚ أو في بلد هو في رحمة وطيبة واسترخاء لبنان‚ وفي آن واحد‚ في نبل وشطط وفروسية وكرم فلسطين‚ هذه هي بيروت بالنسبة لي سنة 1980 عندما هبطتُ أجرجر بقدمي غرين الزابين قرب مقهى (أم نبيل) في الفاكهاني‚ كان (جسر الكولا) أول ما طالعني وقربه كومة من التراب‚ هل هي يا ترى أول متاريس الحرب؟ كان عمري 25 عاماً

من الإندغام الودي بالبحر‚ برخاء نسمات الجبل إلى الاندماج بالآدمي‚ بكل أنواع الكائن المنشق عن بداهات العالم العربي‚ ثمة أرض كانت مقلقة بقدر ما كانت متألقة‚ لم تكن القذائف اليومية تلك السنة سوى منشطات شيطانية للروح الوثابة‚

المشهد الصامت اللحظة لكن الملتمع في الذاكرة هو مشهدُ حيويةٍ تليق بشبيبةٍ جسورةٍ واقفةٍ على غصن حلمي يكاد ينكسر لفرط مائيته‚ مشهدُ غزالةٍ نافرةٍ‚ طافرةٍ في أحراش لبنان من أرياف فلسطين وأهوار العراق وقيظ الجزيرة‚ مشهد كرمة يجلس في ظلها المتحاورون في السياسة والأدب والمقاومة المسلحة‚ كما يجلس في فيئها الرطب كذلك أولئك المدمنون على قهقهات عالية مثل قهقهات (غيلان) الطالعة‚ ربما‚ من حشيشة بعلبك‚

عندما قادني شخص إلى بيت الفنان العراقي يوسف الناصر في (الفاكهاني) قرب الملعب البلدي‚ كان أول من طالعني أنف (ك‚ع) المخرب‚ بعد ساعات وصل هاشم شفيق وكان يسكن غرفة في البيت وقفز عالياً من وطأة السعادة‚ كان ذلك الأنف المهشم القابع داخل قرنابيطة صغيرة اختصاراً بليغاً لحالة إخوتي العراقيين لحظتئذ

بعدها سنتلمس جميعاً الحيطان المدعومة بالدم‚ حيطان الفاكهاني التي هي الجريدة التاريخية اللانهائية في امتدادها حيث تناوب الشهداء والقتلى بالمرور عليها كخطاطيف الليل ذوات العيون الفسفورية‚ بالمرور والانمحاء فيها من أجل أن يحلَّ شريطٌ أسود آخر وعيون واسعة أخرى محلها‚ إلى الأبد

لم تكن بيروت آنذاك عالماً صامتاً‚ كان صخب الأمواج المتحطمة في (الرملة البيضا) يتغلغل في روح السلاح الأسود المبعثر‚ الطائش في المكان

أخوَّة النسيم العليل كذلك المار على قنينة عرق في شرفة المنتشين في جنائنها المعلقة‚ أسنانهم ملتمعة‚ كذئاب‚ وعيونهم باتساع عيون الأرباب الرافدينيين وقلوبهم تعبق بالبارود

بعد أيام قلائل سيطلع لي زكريا محمد بذات الشعرات البيض في رأسه وبعين الابتسامة المائية الثابتة نهائياً على وجهه‚ بالضبط كما طلع لي مرة في (مقهى البرلمان) في بغداد السبعينية

ثم سألتقي زهير الجزائري في ممر في محلة (الطريق الجديدة) وسيحتضنني بشدة وبفرح غامر وكان وكأن حضوره الشخصي يزداد‚ حرفياً‚ بحضوري ثم ثمة أطلال أبي الهول‚ وملاحم أبي الجماجم التي لم يكن قد سمع بها بعد أطفال العالم‚ يمران (من هنا‚‚) كما مررنا من هناك

بعدها ستقودني ذراع الفلسطينية الصيدلانية (عايدة) إلى المخيم حيث ولدت وحيث لم تتخل بالونات الأولاد عن ألوانها رغم هدير العواصف‚ كنا نحوك مشروعاً شخصياً حبياً لم يتحقق أبداً وكنا نذهب كذلك إلى شواطىء الرملة للإستحمام‚

اشتغلت في النهاية في جريدة (فلسطين الثورة)‚ أتذكر على وجه الخصوص النبرة الموسيقية الميلودرامية في صوت المحررين واستعيد الأسنان الصفراء (لعصفور) التي لن تلمعها ذاكرتي رغم جسارته فيما بعد في محاورة المفاوض التلمودي ذي الأسنان الأكثر التماعاً من شتاء الدببة القطبية

كانت الأشياء تتلبس بساطة غضار صيني

الأشياء مدوَّرةٌ حتى لو سقطت قذيفة مكورة على صحنك الدائري ذات صباح رائع وأنت تأكل (مقلوبة) في (مقهى أم نبيل)‚ أو حتى لو كنتَ لا تأكل شيئاً البتة عند صديقي الشاعر والمترجم (جاك الأسْوَد) قرب الجامعة الأميركية‚ ليس بعيداً عن (مرّوش)‚ الرائحة رائحة مخلل لاذع في كل مكان وهناك السادة في الطوابق العالية: مكتب (أبو أياد) الذي خرمته القذائف الطالعة دون توقف من الظلمات على نهار بيروت الصيفي‚ والبناية التي كان يقع فيها مكتب (أبو جهاد) التي رأيتها بعد الحصار مثلمة من كل صوب‚ وبنايات القياديين الآخرين التي انطوى البعض منها الواحد على كتف الآخر مثل أوراق مجلد عتيق محترق‚ أما غاليري الفن التشكيلي الفلسطيني أمام (جامعة بيروت العربية) فقد اختفى تماماً تحت ثقل ركام الجدران المجاورة

كأنك في العذاب الذي تتأمله وتشهده في آن كنتُ‚ والله‚ فتى غراً في عالمٍ من حُذاق العرب‚ ولم أكن أسيطر على مواهبي المفترضة‚ فعندما دعاني (ميشيل النمري) للعمل في مجلة (الموقف العربي) وافقتُ على الفور براتب أنحل من إبرة‚ كنت أجد في المكتب قبالتي حيدر حيدر ومن بعده غالب هلسا اللذين كنت أسمع عنهما فحسب وأقرأ لهما‚ كان هناك آخرون سيصيرون أسماء لامعة بعد ذلك مثل المصرية سلوى البكر والسوري نوري الجراح وغيرهما‚كنت قد تفتقتُ عن شهية أدبية وكنت أكتب بنهم في نقد الشعر والقصة حتى أن بعض دور النشر اللبنانية كانت تحاول غوايتي سراً للكتابة عن إصداراتها الجديدة مقابل أن تنشر لي مجموعة شعرية أو كتاباً‚ كنتُ غراً وفضلتُ أن تنشر لي (دار العودة) مجموعتي (نص النصوص الثلاثة)‚ أحمد عويدات وأحمد عبد الرحمن الفلسطينيان هما من دعماني بالفعل مع قلة معدومة من الصحاب العراقيين

كنتُ غراً وكان الهواء عليلاً

كنا نتدافع في مكاتب الإغاثة‚ في ملاجىء الحزب الشيوعي اللبناني‚ في حدائق الأميركية‚ في الشقق المكتظة بالعراقيين‚ في فنادق الدرجة الأولى‚ في مقرات الحزب القومي الإجتماعي السوري‚ في أروقة الصليب الأحمر الفلسطيني‚ في رأس بيروت الذي يشبه قلبها‚ في ريش الغراب قرب (برج حمودة)‚ في برج بابل‚ في (برج البراجنة)‚ في ضاحية العمائم التي تصد الريح‚ في برج الماء المنتصب في (الروشة)‚ قرب هنري ميللر في برج الجدي‚ في (كورنيش المزرعة) حيث باعة الخضار يصرخون في أحراشها القديمة من أجل لمعان جلدة الطماطم‚ (ساحة البربير) ثم (البسطا الفوقا) و(البسطا التحتا)‚ نتدافع في العمى الواضح في كل بقعة يدب الناموس الصاحي فيها ويغفو الناسوت قرب أطلالها إلى الأبد

كنا‚ أبو فرح التي كانت ما تزال جد صغيرة‚ وأم فرح‚ يعني عدنان حسين وزوجته‚ وزهير الجزائري وآخر لا أتذكره اللحظة‚ قد سكنا في شقة كبيرة قرب (الملعب الرياضي)‚ لسوف أمر على يافطة (دار الآداب) قرب جامعة بيروت العربية لكي أصعد عالياً إلى خرائب الملعب وأصل إلى البناية واصعد إلى الطابق السادس (أم كان الطابق السابع؟)‚ ومن الشرفة كنت أنظر مرات أثناء الاشتباكات مع (الجبهة اللبنانية) إلى لهب القذائف القادمة من الشرق الهمجي لتحطيم الغرب الوثني‚ كان احتفالاً مهولاً للموت‚

بعد الحصار كانت دمعتي تتحجر عند عتبات البنايات المهجورة التي كانت شرفاتها مسكونة بفساتين بنات مهجري الجنوب المقصوف بالقنابل العنقودية التلمودية السوداء

كانت النعمة تتهدج في حروف الأب (جورج ابي خضر) في جريدة (النهار)‚ بينما كانت النعمة والنقمة كلتاهما تترنحان في صوت (مارسيل خليفة) على أثير المرابطين أي (إذاعة صوت لبنان العربي) التي كانت تبث من (جامع جمال عبد الناصر) آخر أيام الحصار:

«بيروت حزينة

بيروت حزينة

بيروت حزينة»‚

الأغنية التي لن يقولها لاحقاً في أية مناسبة أخرى

لم يكن للاعتبار التقليدي اعتبارٌ‚ السجائر مهربة والليرة ما زالت صاحية‚ الطماطم لماعة في السوق وعلى الأرصفة تتعايش التجارات والخسارات‚ باعة المفرد والجواسيس‚ الجميلات والمحجبات‚ في الفترة 1980-1982 كانت تغدو مقهى‚ حسب شهادتي‚ مجمَّعاً للمثقفين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب‚ كانت تحتمي‚ بأمان‚ في ظل بناية شاهقة حديثة تعود لبنك أحسبه البنك اللبناني-السوفياتي‚ لم أشاهد أبداً بنكاً سوفياتياً طيلة حياتي إلا في ذلك الموقع

كنتُ أتخذ مسافة ضرورية مع ثقافتي العراقية‚ وأدخل قانعاً في الروح الشامية

 

 

حسرة الياقوت في حصار بيروت لشاكر لعيبي

 بيروت اوائل الثمانينات.. مدينة العنف والحرية والهزائم المنتصرة

 

  

عمان – الدستور: غالبا ما ارتبطت الرحلة بلذة الاكتشاف وبتحفيز غريب من غريزة (الفضول)، وربما لأن العالم بات اصغر مما يجب ومما تطيق او ترغب به المخيلة البشرية في نزوعها الى غموض شعري ما مسبوق بالتوجس والريبة ومشوبا بالحذر.لقد غلبت التقنيات الحديثة في الاتصالات والمعلومات الجغرافيا وقلصت من فضول المغامرين الشغوفين بالترحال والتنقل ومن ثم الكتابة عن مناطق تصير بمرور الزمن تخييلية اقرب الى الرواية منها الى اي فن آخر بل ان البعض من الابداعات في ادب الجغرافيا بات رواية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة واكبر آية على ذلك كتاب (رحلة ابن فضلان).وكتاب الشاعر العراقي شاكر لعيبي (حسرة الياقوت في حصار بيروت) الصادر مؤخرا في اطار سلسلة (سندباد الجديد) عن مشروع مشترك للنشر يجمع دار السويدي للنشر والتوزيع في ابو ظبي الى المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت ينتمي الى ادب الرحلة الروائي ذاك الذي اطلقه ابن فضلان وليس مصادفة ان اللعيبي قد اعاد تحقيق الطبعة الحديثة من رحلة ابن فضلان التي صدرت في اطار المشروع ذاته الذي يطلق عليه (ارتياد الآفاق - مئة رحلة عربية الى العالم).وذلك لجهة ان الكتاب ايضا بل رحلة في الذاكرة الشخصية وليس انتقالا من بيروت الى عدن، في اعقاب حصار مجرم الحرب ارييل شارون بيروت ذلك الصيف اللاهب من العام ،1982 على ظهر سفينة يونانية تدعى (هيرا قليطس).ولأن الذكرة هنا هي الفاعلة في ترتيب الاحداث والامكنة ولانها ذاكرة تاريخية شخصية جدا فان تصور الشاعر شاكر اللعيبي عن نفسه وفكرته عن ذاته هي التي اعادت رسم الامكنة والازمنة والتأرجح بينها.ثمة خلط في الازمنة ومزاج في السرد يجمع بيروت الى بغداد في حنين واحد قاله لعبي الآن بوعيه الراهن عن ذلك الشاعر الشاب الذي كانه بمزاجه المنفتح ورؤيته النقدية الثقافية لما يدور به ولما يدور حوله مثلما يعبر عن ذلك هذا المقطع الطويل: كانت الباخرة التاريخية تتهادى، معبأة بضمائر أمم شبه مهزومة. كانت تندفع غير عابئة بشيء طيلة أيام سبعة قاطعة اللجة ولا شيء سوى البحر. كان قيدومها يشق الامكنة وكان روادها الماضون الى المجهول خلائط الشعوب؛ مصادفة غير مألوفة في علم اجتماع بحري. كانوا هجائن مطرودة من حدائق الخرافة، شبانا منذورين للبحر، قوادا عسكريين ذاقوا مرارة الخسارة المنتصرة التي لا بد منها كل مرة والتي كانوا يعرفونها منذ يوم الاشتعال الاول. خاض بعضهم معارك في الوديان وبعضهم من وراء طاولات من الفورمايكا ببزات افعى وشعر اشيب. لكأنهم خرجوا من الاسطورة الى الاسطورة.انها لغة الحقيقة الموجعة ورؤية للهزيمة المنتصرة والتعامل معها انما بعاطفة متقدة ربما مبعثها ان السرد تذكر وتأمل في الماضي الشخصي بوصفه جزءا ماضا يخص مرحلة تاريخية هذي شهادة لعبي عليه وعن حياة خاطفة في بيروت تلك المدينة - المرأة التي أغرت شعراء الثمانينات الغضين آنذاك وخلفتهم نهبا لمرارات قاسية وحنينا اليها عزّ نظيره وبعثت بهم الى منافسة لن يعودوا منها إلا الماما بوجوه بيضتها الثلوج في المطارح بعيدة من الجغرافيا وسؤال الشعر والماضي الجميل بعذاباته وحرارة الحنين اليه.وشخوص لعبي في كتاب رحلته الشخصي جدا (حسرة الياقوت في حصار بيروت) لا تتعين. انها متأرجحة بين ان تكون وان لا تكون؛ اشبه بأطياف يمكن للمرء ان يلمحها اكثر مما يراها حتى غالب هلسا بدا كذلك في النص السردي الحميم: كان غالب بشعره الاشيب ووجهه الروماني يمشي بهدوء بين ممرات الباخرة، بينما كان الهواء الطفولي يلاعب جبهته وتجاعيده المسواة، المكتنزة مع ذلك بعافية القرى. كان النسيم ملائكة هوائيين يضرب بحنان خصلات شعره ويبعثرها ابعد قليلا من شحمتي اذنه«.وعلى هذا النحو ظل غالب صموتا وشخصية اقرب الى التأمل والشرود منها الى الحركة والصخب فليس سوى بضعة كلمات تبادلها مع غالب هلسا في سرادق على ظهر (هيراقليطس) استلها لعبي على الارجح من ذاكرة قديمة بل يمكن القول انه التذكر الحميم لغالب هلسا: »كان يلاطف الجميع. كان يتمشى في الرواق برزانة من خسر في حياة عائلية قديمة او يتوقف ليستمع الى قصص يرويها بعض الشبان«.اما الشخوص الاخرى فلم تكن مسماة الا بحرف او اسم مستعار اختاره شاكر لعيبي حقا كما لو انه روائي محترف.صورة بيروت وحصارها تقترن بالتحليل والنقد اللاذع السليط والمتسلط الذي يضرب بخفة على وتر حساس بكلمات قليلة اشبه باشارات عديدة التأويل واكثر شخوص لعيبي ها هنا تأثيرا هو الشاعر هاشم شفيق.ففي مرويات لعيبي عن صديقه الذي سبقه الى تلك المدينة الدائخة والمدوخة آنذاك يبدو هاشم شفيق شابا وشفيفا مسالما ينزع الى الحب والسلم اكثر من نزوعه الى الحرب بل انه يمقت هذه الفكرة غير الانسانية والتي توجعه الى حد البكاء.غير ان بيروت اثناء حصارها وقبل ذلك بدت ضيقة لان السارد اذ يتنقل في غربيها الذي تحت سيطرة المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية فأماكن تنقله قليلة في مدينة دخل اليها وهي تشهد حربا فعرف فيها طعم الحب او تذوق الجسارة فيه مثلما عرف الخوف الى حد الرعب: »كانت كمية الخراب جديدة على بقعة جميلة وأمومية. لم يكن يليق بمكان حنون أبدا ذاك الخراب«.انها رؤية الى مدينة تعد بقدر من الحرية الى حد امتلاكها غير ان الحرب الاهلية المدمرة وعبثية الحصار جعلت من خاطبي ودها يؤولها وفقا لتجربته معها او وفقا لمدى نجاحه او اخفاقه في اقامة علاقة حب مع المرأة التي فيها والتي تشبهها ما يعني ان بيروت لدى شاكر لعيبي بالتأكيد هي بيروت التي تخصه وتعنيه والتي يحن اليها ولا تسعى اليها قدمه بل ان لعيبي يقول انما هو في كتابه هذا يؤول بيروت الخاصة به.هنا تبدو شخصية المرأة البيروتية التي هي عايدة مطرح حنين جارف بالنسبة اليه بل انها امرأة قادمة من مخيلة شعرية صافية تقطرت فيها نساء مدن بحرية:»كان الهواء مالحا في رئة عايدة التي كانت تصعد الآهات الى فمي. مالحا وحاذقا. وكان يشابه ذلك الهواء الذي تزفره امهاتنا الصابرات في غرفهن نصف المعتمة. كنت اريد ريحا معبأة بعبق الحياة. كنا نريد جميعا اغنية اخرى أقل حزنا وأقل توترا. كنا نسعى الى احلال اغنيات فيروز في الحياة الواقعية نفسها حيث الطفل الرمز المعشوق، شادي، لا يختفي في الحرش، في الموت. كنا نحب الحياة برعونة وكنا نحب بيروت رمزا للحياة و(للحي - العضوي) العربي الممكن. سوى ان الاحبة كانوا يختفون بوضوح في ابر القنافذ الى الابد وكان حصار بيروت، لذلك، اسوأ اللحظات في حياة مسعورة رغبت بالتهام عشبة الخلود«.كان شاكر لعيبي آنذاك طائرا صغيرا في هجرة موسمية لم يكن يعرف ان الاقدار جعلتها هجرة الى الابد وهجرة في الأبد. كان قد فرّ سريعا من عراق انقلب فيه نظام صدام حديث العهد بالرئاسة آنذاك على الجبهة التقدمية الديمقراطية. عراق فيه نظام مسعور من فرط شهوة الاغتيالات الغامضة.. عراق كان يعد بحياة مدينية منفتحة على الافكار والطروحات ليس سهلا فيه الانقلاب على الحياة المدينية بقتلها واختصارها في صورة الفرد الأب القائد.. عراق وصل الى ما وصل اليه بفضل الغباء السياسي المفرط الذي جاء باميركا احتلالا في ثياب المحررين والديمقراطية من طراز ديك شيني وغونزاليسا رايس وسواهما في البتناغون والخارجية والبيت الابيض.ان صورة بغداد في نص الرحلة البحرية لشاكر لعيبي تحضر غالبا في صورة الأم لذا فهي تحضر منذ السطر الأول للرحلة التي لم تنته مثلما تحضر في تذكارات طفيفة لكنها عميقة حيث اول الحب واول الكتابة وفي مقارنة عابرة بين مدينة نهرية واخرى بحرية. غير ان الصورة دائما يغالبها الحزن شفيفا وجارحا وكأن السارد إذ يتذكر فإنه كأنما ينظر من مكان عل يتأمل الماضي الذي الى الاسفل منه مرئيا من الجهات الاربع ومنظورا اليه من عين طائر يحلق بتؤده.حسرة الياقوت في حصار بيروت.. كتاب في المكان ايضا وان على نحو اقل فهو يلامس الامكنة ملامسة كأنما هي في خفة تطيش على سطح الذاكرة التي تتهادى كأنها (مركب سكران).. وهو بالفعل ما حدث ذلك ان السفينة (هيراقليطس) التي اقلت شاكر لعيبي الى عدن في سبعة أيام صورتها في كل الكتاب انها تتهادى على سطح بحر لم يسترح الا في اليوم السابع.وأخيرا الى ما جاء في الغلاف الاخير للكتاب والذي لم يحمل توقيع احد وربما ما صاغه احد سوى الشاعر غوري الجراح المشرف على السلسلة التي صدر فيها نص الرحلة: كتاب شاعر في لحظة حميمة مع المكان. سيرة شخصية ويوميات من رحلة بحرية اعقبت حصار بيروت صيف 1982. وما يميز هذه الرحلة انها نموذج حي انساني وجمالي لمساهمة المبدعين العرب في كتابة الاوديسة الفلسطينية. بيروت هذا الكتاب هي المكان الاكثر كرما في رحلة البحث عن الحرية بالنسبة الى شاعر.ولجهة التوصيف فان للشاعر شاكر لعيبي العديد من المجموعات الشعرية والدراسات في نقد الشعر وتحديدا جهوده في القول بقصيدة عربية. يهتم بالفنون التشكيلية وحاز درجة الدكتوراة من جامعة لوزان في سويسرا حيث يقيم عن الفن الاسلامي من وجهة نظر علم الاجتماع. يكتب بالعربية وبالفرنسية احيانا وله ترجمات شعرية الى العربية ويساهم في مشروع (ارتياد الآفاق - مئة رحلة عربية الى العالم وقد اعاد في هذا السياق تحقيق وتحرير عدد من الرحلات وكتب الجغرافيا منها: رحلة ابن فضلان ورحلة المقدسي والاخيرة من أقدم النصوص في الادب الجغرافي العربي.

الدستور 14-4-2004

 العدد 14232 الجمعة 26 صفر 1425 هـ الموافق 16 نيسان 2004 م عمان الأردن    

 

 

 

حسرة الياقوت في حصار بيروت

 الوطن القطرية   Date:AUGUST-04-2004

 

 

عواصم ـ الوطن ـ قنا ـ كتب الكثير عن حصار بيروت على يد قوات العدوان الصهيوني‚ تاريخا ومذكرات ويوميات وخواطر‚ لكن كتاب الشاعر العراقي المتميز شاكر لعيبي له نكهة خاصة

 

عنوان الكتاب «حسرة الياقوت في حصار بيروت» وصادر ضمن سلسلة سندباد الجديد التي تعنى بأدب الرحلات الحديثة‚ لكنه كتاب ينتمي الى عدة اجناس ادبية دفعة واحدة‚ فهو شيء من ادب الرحلات ولكن اية رحلات يحكي عنها! وهو شيء من المذكرات او ادب السيرة وهو لون من الرواية الحديثة‚وهو ايضا يملك طعم الشعر ورائحته وغموضه

 

كتابة عذبة لكنها مجللة بالدموع‚ هادئة لكنها تغلي بالحزن والاسى‚ تنتمي للادب لكنها في قلب السياسة‚ تحكي عن التاريخ‚ لكنها تضعك في قلب الاجتماع وعلم النفس‚ كتابة تتحرك بين البشر‚ تلامس وجدانهم‚ تجوس في مشاعرهم‚ في افراحهم واحزانهم‚ في عقدهم النفسية‚ ونزواتهمفي ضعفهم وقوتهم‚ بيروت في بداية تصاعد الانفجار الكبير‚ بيروت تحت القصف‚ في ظل الحصار‚ في الابحار عبر الباخرة الى عدن‚ بيروت التي جاءها المؤلف شابا في العشرين في تلك الايام «آية رحمة في قلوب اللبنانيين لكي يحتملوا وطأة القلب العربي الكبير المصاب بالآهة لكي يستوعبوا شذاذ الآفاق‚ النمر المستفزة المطرودة من الغابة العربية‚ الحكائين ذوي الخرافات‚ الغواة‚ اي حنان في فؤاد ذلك الجزء الغربي الذي لم تكن تغربعنه شمس الكائن الحر» ويستذكر تلك الايام الاولى له في بيروت في مغامرته مع فضائها المفتوح‚ مع مثقفيها ومناضليها مع مجلاتها وجرائدها ومطبوعاتها

 

كنت والله فتى غرا في عالم حذاق العرب‚ ولم اكن اسيطر على مواهبي المفترضة‚ فعندما دعاني ميشيل النمري للعمل في مجلة «الموقف العربي» وافقت على الفور براتب انحل من ابرة‚ كنت اجد في المكتب قبالتي حيدر حيدر ومن بعده غالب هلسا اللذين كنت اسمع عنهما فحسب واقرأ لهماكان هناك آخرون سيصيرون اسماء لامعة بعد ذلك مثل المصرية سلوى بكر والسوري نوري الجراح وامجد ناصر وغيرهم

 

يتذكر تفاصيل حميمة مطبوعة في الذاكرة اماكن وشخصيات ومواقف بنايات ومكاتب وشوارع وباعة‚وطبيعة «لم يكن للاعتبار التقليدي اعتبار‚ السجائر المهربة‚ والليرة ما زالت صاحية‚ الطماطم لماعة في السوق وعلى الارصفة تتعايش النجارات والخسارات‚ باعة المفرد والجواسي‚ الجميلات والمحجبات في الفترة من 1980 ـ 1982 كانت مقهى الاكسبريس تغدو حسب شهادتي مجمعا للمثقفين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب‚ كانت تحتمي بأمان في ظل بناية شاهقة حديثة تعود لبنك احسبه البنك اللبناني ـ السوفياتي لم اشههد بنكا سوفياتيا طيلة حياتي الا في ذلك الموقع»‚

 

ويتحدث عن العدوان الاسرائيلي وبداية حصار بيروت «من الواضح ان الاسرائيليين قد اختاروا الفترة التي تجري فيها مسابقات بطولة كأس العالم لكرة القدم لسنة 1982 لمحاصرة بيروت واخراج المقاومة وقددرسوا في ظني بعمق عميق هذا الوقت الرياضي حيث ينشغل العالم بالعبث الكروي وتنهض في الشعوب فجأة نزوات قومية بل شوفينية لا تنهض بها دوما نصوص السياسة والفكر الرفيع والصحافة الجادة‚ كان العالم في خدر اما التلفازات التي كانت تنقل مباريات كأس العالم‚ وربما كان العالم العربي اكثر غيا من غيره في متابعاته اليومية للمباريات لسبب تعويض عام وهو الامر الذي درسه غزاة بيروت بدقة لكي يقللوا من حجم ردود الافعال الشعبية العربي على الحصار لقد كانت ردود الافعال عند حسن ظنهم الى حد بعيد

 

 

حسرة الياقوت في حصار بيروت

 

تأليف :شاكر لعيبي

 

 

 

هل هناك ادب رحلة عربي جديد، له ملامح وسمات مميزة عن تلك التي ظهرت في كتابات الرحالة العرب حتى مطلع القرن العشرين؟

 

يبدو أن السلسلة الصادر حديثا عن دار السويدي للنشر والتوزيع والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، تحاول ان تجيب عن هذا السؤال باحتضانها للنصوص الحديثة في أدب الرحلة العربي، وكذلك نصوص الكتاب العرب من المكان والنصوص الأدبية المستلهمة من الاسفار ومدونات التراث الجغرافي العربي والاسلامي في مسعى قصده تشجيع المؤلفين على مقاربة هذا اللون من الادب القائم على الخبرات الشخصية في العلاقة مع المكان، والحركة عبره،

 

والاطلال على الطبيعة والناس والعمران وما تذخر به الحياة الحديثة في الجغرافيات المختلفة من اختلاف في احوال الانسان، معاشه ونشاطه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وميوله وعاداته وتقاليده وحياته الروحية.

 

والكتاب الاخير من هذه السلسلة يتحدث مؤلفه شاكر لعيبي عن رحلته الى بيروت عام 1980 ومادار معه من احداث خلال تلك الرحلة، مدوناً ليوميات شخوص التقاهم:

 

كتاباً وشعراء وباعة ومناضلين واصدقاء، ولأمكنة عاش فيها ولافكار وجدال وأحداث صغيرة وكبيرة «انفجار الحرب مثل انفجار الحصباء.. مثل تفتق التويجات على الساق الطرية التي لم يمسها احد بعد.. مثل المباضعة تبدأ بمداعبات موحية وتنتهي بترك اثر..»

 

وتكون الحرب واجتياح الجنوب حتى الوصول الى بيروت ومحاصرتها بأوامر من الارهابي شارون.. وتكون لحظات الوداع والخروج من بيروت.. وبداية النهاية للمقاومة خارج الارض المحتلة.

 

الكتاب: حسرة الياقوت في حصار بيروت

 

الناشر: دار السويدي والمؤسسة العربية

 

ابوظبي 2004

 

الصفحات: 79 صفحة من القطع الوسط

 

البيان الإماراتية التاريخ :2004-03-21