Shaker Laibi

الفرانكفونية والعربوفونية

ملايين الـعـرب المنسيين في تركيا

 

شاكر لـعـيـبـي

 

 

لماذا لا تستفيد الثقافة العربية من سياسة الفرانكفونية في تدعيم ضعفها الحالي والخلخلة التي ترج أوصالها في كل حقل ؟

تقوم الفرانكفونية على أساس الترويج للثقافة الفرنسية في مناطق غير خاضعة للدولة الفرنسية. إنها تدعم أولئك الكتاب وتلك الصحافة التي تستخدم اللغة الفرنسية أداة للتعبير. نعرف إن أصول دعم قوي مثل هذا تجد في فكرة أن اللغة، أية لغة، ليست فحسب أداة محايدة وباردة للتواصل الإنساني ولكنها كذلك مشحونة بالمعاني، بالفكر ويمكن أن تتسرب عبرها المعاني والأفكار

هكذا نرى أن الناطقين بالفرنسية في الجزائر ولبنان وكمبوديا ليسوا من المعجبين فقط بعبقرية وأصالة الثقافة الفرنسية ولكنهم، من طرف خفي، من المدافعين عن السياسات الفرنسية في الحقول كلها. إنهم عبر اللغة نفسها يمكن أن يقرأوا المخفيّ والدفين بين ثناياها، وأن اللغات المقروءة والبصرية تبشِّر عبر أساليبها الخفية المكتوبة والمرئية، خاصة التليفزيونية والأنترنيتية، بفكر ما

 

ما هي علاقة الثقافة العربية يا ترى بذلك كله؟

لنقرر أولاً أن ثقافتنا، رغم إشكالاتها العويصة، غير منتبهة إلى عناصر قوتها الداخلية وذلك بسبب ضعف السياسات العامة في العالم العربي وعدم قدرة الأوساط صاحبة القرار على تغيير مجرى الوقائع. لا ينبثق ضعفها من بنيتها ولا من تاريخها الطويل ولكن من تلك المؤسسات والقرارات السياسية والثقافية التي يمكن أن تمنح ثقافتنا الزخم والحضور والاستمرارية، بل بتقديم وجهها المشرق إلى العالم

 

لنقرر ثانياً أن ثقافتنا قد قطعت الوشائج الحميمة التي يمكن أن تربطها بملايين البشر، من غير العرب، والمسلمين في كل مكان من اولئك الذين يتعلمون لغتنا العربية من أجل، على الأقل، قراءة وفهم النص القرآني الكريم

 هؤلاء منسيون تماماً من طرفنا، ولم تقم ثقافتنا بمحاولة لمدِّ جسورٍ من التواصل معهم عبر هذا العنصر الثقافي بالضبط. لا أظن أن الفرانكفونية ستفعل الشيء ذاته لو تسنى لها ذينيك العنصرين: النص الديني أولا، والإيمان العميق بلغته وثقافته ثانياً. هذا الإيمان من نمط مختلف تماماً عن إيمان الفرانكفونيين، إنه أكثر تأصلاً في الضمير

 

في تايلاند والصين والجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي سابقاً، وفي تنـزانيا والسنغال ورأس القمر والكثير من البلدان الأفريقية ثمة ملايين من البشر التي لها علاقة معينة، مهما كانت طفيفة بثقافتنا. إننا نتجاهلهم ولا نحسب لهم أدنى حساب وهو أمر لا تفعله البتة السياسة الفرانكفوية مثلاً

الأنكى من ذلك أننا ننسى جيراننا الأقربين: الإيرانيين والأتراك الذين رغم بعض النـزعات الشوفينية بين ظهرانيهم، فإن ضرورات الجغرافيا والتاريخ الثقافي الإسلامي المشترك قد مدَّا عميقاً في أرواحهم شيئاً كثيراً من ثقافتنا ومفردات قاموسنا العربي. البعض منهم، بسبب غفوتنا، صار يزعم أن هذه المفردات العربية تستخدم في لغاتهم بطريقة اصطلاحية مختلفة جذرياً إكذوبة جذرية قادمة، دائما، من تغلغلنا في السهو

 

لكن جيراننا هؤلاء، وهو ما يهم هذا المفتتح، يحتفظون على أراضيهم الحالية بملايين من العرب الأقحاح. هذا هو حال الجمهورية التركية التي يبلغ مجموع العرب فيها حسب أسوأ التقديرات الرسمية التركية ما يبلغ الأربعة ملايين نسمة، يتوزعون على مدن مثل (عنتاب) و(نصيبين) و(أدنا) و(أكاري) و(هتاي haty) و(أورفه) و(مارسين) وغيرها. هؤلاء العرب يقبعون في نسياننا بطريقة مأساوية. تقمع الدولة التركية العلمانية بشدة أية ممارسة لغوية وثقافية غير الثقافة التركية حديثة الولادة، تاريخياً، فوق التراب البيزنطي السابق. تقع الدولة هذه في تناقض جوهري (هو من طبيعة كل نظام قمعي سافر) بين علمانيتها التي تبشِّر بها وتدعونا إليها، علمانية العسكر، والتي تستوجب نظرياً القيام بالفصل بين مبدأ المواطنة القائم على احترام دستور دنيوي وبين الإنتماء الحر للمواطن دينياً وإثنياً و لغوياً. إنها، رغم علمانيتها المزعومة، لا تفصل معتـبرةً كل كائن حي يدبُّ فوق أراضيها تركياً عليه التكلم والاندماج بثقافة الأتراك المعاصرين

هذا القمع تتعرض له كذلك جميع الطوائف الأخرى غير العربية بشكل لا يقل شراسة. وهو لم يمنع إخواننا العرب في تركيا من التحدث بلغة الضاد بعد ما سيقارب القرن من نفي الآخر في تركيا

حدَّثني عربي من ماردين هذه السنة، وكنت في نصيبين من أن والدته لا تتكلم حتى اللحظة اللغة التركية أو إلا الضروري منها. كان يعلن (تفاؤلاً أسود)

ثمة الكثير من الإشارات إلى أن الناطقين بالعربية في تركيا لن يؤول إلى تحسن ملموس في ظل السياسة الراهنة، خاصة إزاء تجاهل العالم العربي لهم

التفاؤل الأسود إذن، لأن هناك، من جهة، جماهير عريضة من العرب في تركيا لا يمكن اقتلاعها بسهولة من جذورها اللغوية والثقافية والإنسانية (البعض منهم تربطهم قرابة مع عائلات سورية عريقة)، ولأن هناك، من جهة أخرى، نسيان مطبق لهم من طرف من يعتقدون، هم، أنهم ذراعهم الأيمن

 

علينا أن نذكر القراء هنا أن المنطقة التركية المسماة حتى الآن (ديار بكر) كانت، قبل وصول قبائل الأتراك من الأناضول، مسكونة بقبائل بكر العريقة وبالطبع فلسنا في معرض أي مطلب سياسي أو حدودي، هذا الأمر يصير في حكم التاريخ، وإنما نُذَكـِّر بالعمق التاريخي لهذه المنطقة

ولأن لا أحد اليوم يستطيع في العالم العربي المطالبة حتى بالحق البديهي، ناهيك عن انتزاعه انتزاعاً، فإن السياسة الفرانكفونية مفيدة بهذا الشأن بسبب نزعتها السلمية كلياً وبسبب فاعليتها وحيويتها المبرهن عليهما

 يمكننا على ضوء (حكمة الفرنسيين الفرنكفونية) أن نعيد تأسيس علاقة جديدة مع العرب في تركيا عبر الثقافة بشكل أساسي

عبر الأقمار الصناعية والمحطات التلفزيونية الموجهة، محطات الراديو، الأنترنيت خاصة، يمكن اليوم أكثر من أي وقت مضى التوجه مباشرة إلى هؤلاء الأعزة، ويمكننا إعادة التذكير بتاريخنا المشترك، بنصوصنا الشعرية القديمة والحديثة، بفكاهاتنا القليلة وبمآسينا في السينما والمسرح، بتقديم مشكلاتنا مع العالم من وجهة نظرنا نحن وليس من وجهة النظر الأحادية التي يروِّج لها الإعلام والإيديولوجيا التركية ذات الوجه العلماني المزيف. هكذا يمكننا بالقليل من الإرادة التي تحسب للتاريخ حساباً، أن نعيد زراعة الثقافة العربية في وسط الدولة التركية آخذين الفرنكفونية مرة أخرى مثالاً باهراً. الفرانكفونية عبر الثقافة لا تسعى فحسب إلى تقديم أصالة وقوة اللغة والحضارة الفرنسية، إنما كذلك وبشكل جوهري، تقريب أولئك المتكلمين بالفرنسية من وجهات نظر الدولة الفرنسية حول شؤون العالم

هكذا تبدو الفرانكفونية وكأنها تطبيق للسياسة ولكن بوسائل أخرى، إذا ما أخذنا ذلك التعريف الشهير للحرب كنموذج لتعريف الفرانكفونية

 

هل ثمة الكثير من الفنتازيا في هذا المفتتح؟

هل ثمة العويص من المشكلات الداخلية في الثقافة العربية تمنعها من الذهاب بعيداً عن حدودها الحالية؟

ذلك كله ربما

S.laibi@bluewin.ch