Shaker LAIBi

أدب الاعتراف

الغائب في الثقافة العربية

شاكر لعـيـبـي

إذا كان الأدب الأوربي قد عرف أدباً عالياً تقع كل أهميته في (اعتراف) الكاتب بوقائع وتفصيلات عن شخصه، هو نفسه، لا يجر عادة الكتابة عنها بوصفها تجربة شخصية، فالأدب العربي الحديث لم يعرف إلا لماماً مثل هذه الاعترافات

عرف أدبنا أدب المذكرات الشخصية التي تنفي عن حقل عملها، غالباً، أي اعتراف يمكن أن يقود إلى إدانة الكاتب أو تجريمه. هل لأن الأمر يتعلق بمفهومة الأدب نفسه التي لا تمنح، عندنا، مكاناً إلا للعمومي والتجريدي والتجربة العريضة والمعنى الشمولي والحكمة التي تتجاوز التفصيلات، إزاء الخصوصي والملموس، التجربة الضيقة ونسبية المعنى عندهم. أم هل أن الأمر يتعلق بمقدار توطـّن (الذات) الكاتبة، التي هي عندنا متسامية على التفاصيل والأحداث بينما هي عندهم تتوطن في هذه التفاصيل؟ ليس السؤال بريئاً البتة

لنلاحظ في البدء وندقق أن الثقافة العربية تعدم اعترافات مثل ما حصل ويحصل في الثقافة الأوربية. من أجل إعلان هذه المفارقة نقدم هنا أمثلة عن كتب الاعترافات الأوربية : (اعترافات القديس أوغسطس) الشهيرة، (سينيك: رسائل إلى لوسيليوس)، (نيتشه: إنساني وجد إنساني، اعترافات)، (أيميل سيوران: مفكرة 1957-1972 صادر عن منشورات غاليمار 1997)، (اعترافات اوغسبورغ)، (اعترافات جان-جاك روسو)، (جول رونار: يوميات 1887-1910) وأخيراً وليس آخراً (بودلير: اعترافات)

وعلى أية حال، فلا مكان لاعترافات أدبية صارخة لدينا. الاعتراف ، في العرف الأدبي العربي المعاصر، يـُخْرِج المادة رغماً عنها من حقل الأدب إلى حقل الفضيحة. هذا ما تـبـرهنه مبيعات كتاب مثل رسائل غادة السمان وغسان كنفاني الذي قُرأ بوصفها فضيحة من نوع ما وليس أدباً. الأديب الكبير لدينا هو، فحسب، من يُعـْلِن ويعبـِّر ويصير لسان حال الجماعة حتى وإن استخدم تجاربه، مواربة، مادةً للكتابة

 

سوى أن المادة الاعترافية يمكن أن تصير مادة للتفكير العميق إذا ما كتبت تحت هيمنة أنماط اجتماعية محددة (مثل اعترافات النسوة في ظل قمع اجتماعي وجسدي) أو الرجال والنساء تحت هيمنة أنظمة سياسية شديدة الوطأة (مثلما يمكن أن يكتبه سجناء أنظمة الأيديولوجيات الديكتاتورية). اعترافات تلكم النساء وأولئك الرجال يمكن أن تحتوي على فكر خصب ومعاني جمة أين منها الإنشاء الأدبي العادي الذي نلتقيه كل يوم

 

كل أدب اعتراف شخصي سيُفهم، عربياً، بشكل مخطوء، وسيؤول لصالح الحط من شأن المبدع أو النيل من كرامته الشخصية أو سيُستخدم ضده يوماً بمعنى من المعاني. ولذلك دلالة لها تاريخ طويل في الضمير الإجتماعي العربي. فلقد أُعْتُبرت إشاعة السر خطلاً جسيماً واعتبر الاحتفاظ به فضيلة كبرى. ثمة أدبيات وأشعار تملأ الصفحات الطوال تتعلق بضرورة كتمان الأسرار الذاتية حتى ولو (انفلق) المرء نفسياً من وطأة الاحتفاظ بها لوحده. لماذا؟ ولماذا لا يمكن أن يشاطر الآخرون سر المرء الوجودي الرهيب؟ لماذا لا يمكن للآخر أن يكون رحيماً ويفهم المعنى العميق للكلام الداخلي للكائن الذي هو جزء أساسي ووجودي منه كما من ضميره؟ لأن إعلان الوجودي للملأ سيحيل الآخرين على فضاء محرَّم اجتماعياً، على فضاء مغلق، على حرمة شخصية. إن المجال الوحيد المباح لحرية قول الصعب هو الخفاء وأن التجربة الفردية تعاش فحسب في السر وان عليها الارتياب بالعلانية أيما ريبة

وإذن فإن كل علانية، أي كل اعتراف هو أباحة وتدمير لهذا الفضاء المغلق، لهذه الحرمة، وهو انتهاك لحقل الحرية المُمارسة سراً. كل شيء يُمارس في العالم العربي بنوع من الابتعاد عن عيون الآخرين وفضولهم. كلما كان الفضول أقوى كان السر أشد تماسكاً، وكلما كان السر أشد تماسكاً يصير الفضول أشد وطأة وهكذا دواليك في معادلة مغلقة. إن أديباً يكتب عن تجارب جسده الصبيانية أو عن أولى عاداته السرية بل يكتب عن معترفا بحماقاته وضعفه البشري سيؤول أسوأ تأويل رغم الضرورات المنطقية والسايكولوجية والانسانية لمثل هذه الكتابة الاعترافية. على الأديب العربي فقط أن يُشهر قوته ونقاط تفوقه وليس مواطن انكساره. إننا أبناء ثقافة الانتصارات المزعومة

مرة أخرى نقول أن أدب الاعتراف وقول الضعف يصير على الصعيد السياسي ضرورة لم تدركها بعد ثقافاتنا المحلية. فعندما يرى المرء الى خروج جمهرة من مثقفي السلطة في العراق في السنوات العشر الأخيرة لكن من دون أن يرى الى كلمة واحدة من طرفهم عما أحدثوه وساهموا به، ولا يرى اعترافا واحداً نبيلاً وصريحاً سيرى الى المعنى البعيد لما نود أن نقول هنا. لو أننا التقينا باعتراف مأساوي في جملة قصيرة للروائي عبد الستار ناصر من قبيل: "صحيح أنني أخطأت بحق نفسي وتاريخي، لكن الرجوع عن الخطأ فضيلة.." (الزمان، العدد 826 بتاريخ 20/21- 1-2001) فإن سعادتنا لا توصف رغم أنها قيلت في ثنايا السطور وبعد ممهدات ومقدمات تبريرية جد طويلة. ثمة الكثير من الأدباء العرب الذي ساهموا بخراب ثقافتنا أو بإنمائها وتطويرها ممن ننتظر (اعترافاتهم). انهم سيثرون معرفتنا بخفايا العالم العربي من جهة وسيمنحوننا الإحساس بنبل الكلمة، حتى لو وصل متأخراً، الذي نحن بأمس الحاجة إلى حضوره بين ظهرانينا، من جهة ثانية

العودة الى صفحة المقالات