2005/09/16

 

 

weekly_culture




أزمنة الشعراء وأزماتهم

شاكر لعيبي
في الحديث عن أزمة مستعصية في الشعر، لنقل إن على الثقافة العربية الوثوق قليلاً، بنفسها، وبشعرائها. ما عدا ذلك فكأن الأمر يتعلق بموت الثقافة والظن بعدم قدرتها على إنجاب الأبناء الشعراء البررة. هذه البداهة ذات نتائج خطيرة. إذا كان هناك القليل من الثقة والصبر في مطالعة المشهد الشعري الراهن، فيمكن القول إنه لا توجد أزمة شعر أو شعراء، لأن كثرتهم وكثرة الغث بينهم لا تبرهنان على أزمةٍ وكانت كثرة غثهم قاعدة تاريخية ثابتة. توجد أزمة فحص نقدي وأزمة حقيقية على مستوى القراءة، أي على المستوى الثقافي العام. وهذا ما تبرهن عليه شحة حجم المطبوع والمقروء في العالم العربي وانحساره لصالح أسوأ أنواع الثقافات البصرية المرئية، الأمر الذي لم يقع في ثقافات متأصلة نقدياً ومعرفياً.
يغيب الناقد والقارئ للشعر على حد سواء، أي يغيب الحسّ النقديّ القادر على فرز الشعرة من العجينة. وهذا يسمح بجميع أنواع الأحابيل النثرية والأكاذيب الشعرية: مثل صعود شعراء نجوم لا يستحقون نجوميتهم، ومثل ظاهرة طباعة المجاميع الشعرية (بل الأعمال الشعرية الكاملة) على الحساب الشخصي لمؤلفيها أو ظاهرة الشعر النسوي الإيروتيكي الضارب خبط عشواء، أو ظاهرة قصائد نثرٍ باهتةٍ أين منها أسوأ أنواع الشعر المترجم، وغير ذلك من الظواهر. يتملك المرء بسبب هذه الظواهر فاسدة المعنى انطباع قوي عن أزمة في الشعر وغياب للشعراء الحقيقيين. يتوجب مراجعة هذا الانطباع وشجبه.
ثمة فقدان ثقة بديوان العرب عموماً، لأن هذا الديوان غير موجود موضوعياً الآن بكل بساطة، ولأن العرب فقدت الثقة بالحرف المكتوب أو المنطوق الذي طالما خيب آمالها. على أن هذه العمومية في التوصيف لا تشفي غليلاً. وبدلاً منها لنتحدث بدقة عن المشكلات المهملة الأكثر التباساً، ولنتكلم بطريقة أقل غموضاً مما تعودنا عليه عادة.
عكس الموجة
ثمة شعراء يمشون عكس الموجة ولا تهمهم لا بهرجة المصطلح الحداثوي المُعاد على كل لسان من دون تدقيق، ولا آليات الميديا لأنهم في أحيان كثيرة غير قادرين على الدخول في أجوائها الموسوسة. يحتاج الشاعر الذي أزعم وجوده إلى رافعة نقدية ما زالت تعاني من خلل فادح. وإذا ما وجدت فليست صاحية الضمير دائماً، أو يستثمرها القلة وتستثمر بدورها الشروط الثقافية العامة المرتبكة في الثقافة العربية. ثمة وفرة من الشعراء الزائفين الزائلين الذين يغطون اليوم على الأصوات الأصيلة الناضجة، ولا شفاء لذلك إلا بالزمن، ولعله سيدوم طيلة حياة إنسانية كاملة، طيلة ظلم طويل.
لا أزمة في الشعر. ثمة أزمة في الحياة الثقافية مقطّعة الأوصال في العالم العربي التي لا يستطيع الشاعر الحقيقي، الذي أزعم بثقة وجوده بين ظهرانينا، إيصال نصوصه فيها بشكل متوالٍ متواصل لتدلل على نفسها بنفسها وتشير إلى طريقة تطوره الجمالي. لا يستطيع اليوم شاعر جيد طباعة ولا توزيع ديوانه الشعري في هذا الشرط. ثمة بلدان مكتفية بنتاجها الشعري مثل مصر التي لا تدعو إلا نادراً شاعرا عراقياً مثلاً إلى ملتقياتها. لم يكن ممكناً دخول شاعر سوري إلى العراق، لا عبر شخصه ولا بكتبه، والعكس بالعكس طيلة ثلاثين عاما وإنْ بتقطع زمني، ليكون الانطباع الطاغي في بغداد أن دمشق لم تنجب سوى بضعة شعراء مبدعين: ممدوح عدوان ونزيه أبو عفش وعلي الجندي. مقطعة الأوصال إلى درجة أن المنافي نفسها تمنع هذا الشاعر البارع المزعوم من التواصل السليم مع قرائه العرب، إذا لم تدعَ البتة إلى مهرجانات مثل جرش وكاراكاس ولوديف لأسباب لا تعرفها، ولم تترجم إلى لغة حية أو ميتة لأسباب تعرفها، ولا توجد مؤسسة ثقافية تدعم بالفعل فعلك الشعري لأن قدر الشاعر في بلدنا يشاء له ذلك، ستكون إذن مقذوفا وحدك في صراع جبابرة الظاهرة الشعرية في العالم العربي، وسيقال لك إن ثمة أزمة في الشعر وغيابا مطلقا لشعريتك الافتراضية. هذا المنطق البارد لا يستوي مع سخونة الواقع، ويستوي فيه الأعمى والبصير، وستقارن فيه شويعرة من قَطَر، دفعتْ ثمن طباعة كتابها وأجور بريده كي يصل الصحافة البيروتية، مع شاعر حقيقي لا يفعل من ذلك إلا أقله، وسيمنح الانطباع عن خواء سائد في عالم الشعر العربي اليوم.
ثمة اليوم شعراء سيبرهن الزمن ببطء قاتل على شعريتهم يقيناً، لا يريد النقد فحصهم كما يتوجب، وينصرف لكبار السن المؤسسين الذين يستحقون من دون شك توقفات تأملٍ ونقدٍ مطوّل شرط ألا ينحصر الأمر بهم فحسب. لنطالعْ أي كتاب أو مقالة في نقد الشعر، لن نجد إلا أسماء بعينها. إذا ما أُلحقت بها أسماء أخرى فقد وقع ذلك لأسباب ليست دائماً من طينة شعرية بل طبيعة تتعلق بالعلائق الشخصية واستعارات الإعلام ومجد الإشاعة الثقافية وحذلقة النزعة النسوية التي هجمت علينا من دون سابق إنذار (ونحن بطبيعة الحال من أنصار المرأة ومتولهون بها قبلها). في أحيان كثيرة، لا تصل كل مجاميع الشعراء البارعين إلى النقاد والقراء لأنهم لم يطبعوا لدى دور نشر كبيرة أو لأنهم متفرقون في المنافي الأوروبية الواسعة. بعض هؤلاء الشعراء المعنيين يرفضون إرسال كتبهم الشعرية للصحافة أو للسادة النقاد الذين تعودوا بدورهم على استلام الكتب مجاناً خاصة المتعلقة بالشعر منها.
لا يعترفون بمن بعدهم
الوحيدون من بين كل الشعراء في العالم، على حد علمي، ممن لا يعترفون البتة بمن يأتي بعدهم هم الشعراء العرب، في دورة أزلية: كلما كبر جيل زمنياً ظن أن عليه تأبيد عظمته وحدها ونفي الشعراء الآخرين إلى قارة العَدَم المطبق. هذه الدورة لا تحدث حرفياً مثلما نصفها هنا، لكن المسعى محمومٌ لجعلها القاعدة الذهبية. وللأمر تمفصل سوسيولوجي عالجناه في مكان آخر. كل هذا يوطّن الانطباع المذكور أعلاه عن وجود أزمة في الشعر والشعراء، ففي هذا المنطق لا يوجد عداي، وما سواي يعيش أزمة خانقة وليس بشاعر أبداً.
هل يتابع عبد الله الغذامي الشعر الجديد برصانة الناقد الذي عُرف به؟ ولماذا لا يكتب عبد الله إبراهيم في نقد الشعر؟ لماذا توقف عباس بيضون عن عروضه النقدية الممتعة للمجاميع الشعرية الجديدة؟ ولماذا لم تعد معالجة النص الجديد تعني يمنى العيد؟ ومن هو محمود البريكان؟ وأين خالدة سعيد؟ ومن قرأ بالفعل حسب الشيخ جعفر؟ ومن هو عقيل علي؟ وماذا أنجز مريد البرغوثي؟ وما هي خصوصية زكريا محمد؟ ولماذا لا يجري التوقف أمام ظاهرات شعرية كثيرة جديدة تماما وبالجدية اللازمة؟ ولماذا لم نقرأ دراسة رصينة واحدة عن شعر فوزي كريم؟ ومن يقوم باستدعاء الشعراء إلى مهرجانات الشعر العالمي؟ وأين هي النخب الاجتماعية إذا لم تهاجر ثقافياً وفيزيقياً إلى الغرب؟ وكيف يبرهن الشعراء المجيدون، الموجودون بكل ثقة، عن أنفسهم، إذا حجبت عنهم المنابر الأساسية؟ أليس مريباً أن يكون الشعراء الأكثر شهرة من الجيل الجديد هم من المحررين الثقافيين في الصحافة؟ الغالبية المطلقة من الشعراء العرب ليست هي من يكتب أسبوعياً نصف صفحة كاملة في صحيفة عربية معروفة واسعة الانتشار، عن مشروعها الشعري والنقدي.
مثل هذه الأسئلة جوهرية.
يبرهن تاريخ النقد في العالم أنه متراجع غالباً عن الظاهرة الشعرية الأصيلة، بل كانت تسبقه واحتاج في حالات كثيرة لسنوات وعقود من أجل إعادة اكتشافها. نتكلم عن نقد متأسس تاريخياً، وليس عن إعادة استهلاك للنظرية النقدية الغربية أو القيام بعمل تطبيقات لها في أحسن الأحوال كما هي الحال في ثقافتنا. من المستحسن في يقيني قراءة المصادر الأصلية في نقد الشعر التي يغترف منها نقادنا الأفاضل بلغتها الإنكليزية والفرنسية، بدلاً من قراءتها مستعادة ومؤوَّلة على أيديهم الكريمة البيضاء.
لا توجد أزمة لا في الشعر ولا في الشعراء، لا يُقرأ الشعر فحسب بالعين التي يستحق لأسباب لا علاقة للنصوص بها.