هل يُستطاع الحديث منذ اللحظة عن قيمة البياتي الشعرية؟

 

شاكر لـعـيـبـي

www.perso.ch/slaibi

 

لا الهجاء قليل البصيرة ولا المديح الـمُتفلت من قيود المنطق بقادرين على فهم عمل الشاعر الكبير. سيظل البياتي عصياً علي استقطاب التفكير أحادي الجانب. سوى أنه سيظل لوقت طويل كذلك مناسبة خصبة حوار نقدي ذي شجون بشأن قضية الشعر ووضعية الشاعر كليهما. إن اندماج حياته، بتفصيلاتها الأجمل والأنقى، بتلك التفصيلات الأكثر إقلاقاً للحس السليم، واختلاط الحقيقي والحميمي فيها بـما هو مـُتخـيـَّلٌ ومُـمَسْرحٌ، بل اختلاط الحقيقة بغير الحقيقة في مسيرته الشخصية يجعل من هذا الشاعر الكبير مثالاً عن الكيفية التي ينطبع فيها عمل الشاعر بالمشكلات المخصوصة لمجتمعات مثل المجتمع العراقي والعربي.

 

في العالم العربي، فأن واحدة من خصائص القرن العشرين وهو الخلفية التاريخية للبياتي ومجايليه، كانت صعود الهم السياسي عن جدارة وإشغاله الحيز الأكبر من اهتمامات المثقفين والمتعلمين والمهتمين، قليلاً أو كثيراً، بشؤون العالم وقضايا أوطانهم الكبرى. يتبقى هذا الهمّ إذن السبب الأول لمجد شعراء من طراز الجواهري - ربما آخر عملاق في الشعر التقليدي- والبياتي أول طلائع الشعر الحديث. هذه الحقيقة ليست على الدوام لصالح الشعر الصافي، الشعر المتأمل الذي يخوض في مياه أقل ضجيجاً. إن قراءة متأنية لشعر عبد الوهاب البياتي سوف تدل القارئ أن العميق في شعر البياتي، ذاك الشعر الذي سنبقى نعاود قوله لأنه يمسُّ عصباً خفياً في أرواحنا، لا يشكـِّل الجزء الأعظم، كمياً، من شعره.

 

لنقل إن البياتي قد كوَّن لنفسه منذ البدء لغة شخصية تتميز بالوضوح والإشراق وتنطوي على أسلوب مباشر قليلاً يستند على موضوعات أساسية (الموت، الحب، الإنسان، الثورة، الماضي...على سبيل المثال) كانت دائما الشغل الشاغل لكبار الشعراء في العالم. ثم أنه قد انصرف، أو أن حاجات مجتمعنا الملحاحة قد صرفته، إلى أن يلبس، وبشكل ثابت، قناع المناضل اليساري. يا لخسارة الشعر. هذا القناع يشكـِّل، في تقديرنا، (العقدة) الكبيرة في شعرية البياتي وفي مجمل تاريخه الشعري والشخصي. سنقول عن هذا الموضوع كلمة أخرى بعد حين.

 

سوى أن لغة محددة المفردات وقاموساً شعرياً شخصياً ثابتاً ينطويان على رهان صعب للغاية، ذلك أنهما سيظلان يراوحان في مكانيهما غير قادرين على تعميق مجمل القاموس الشعري للقصيدة العربية.  ليس بمحض الصدفة أن لا نجد إلا مقلـِّدين معدودين للغة البياتي الشعرية على طول وعرض العالم العربي، ثم إنهما غير قادرين على تطوير رؤية الشاعر نفسه إذا ما افترضنا علاقة تأثير متبادل بين الشاعر وأدواته : هو يؤثر فيها ويخلقها بينما هي بدورها تؤثر فيه وتخلقه بمعنى من المعاني. لهذا السبب فإن البياتي لم يكن شاعراً خوَّاضاً في تلك التجريبية الضرورية، حتى بحدودها الدنيا، لكل شاعر. إن شاعراً كبيرا مثل سعدي يوسف منطوٍ، مثل البياتي، على كارثة الهم السياسي ذاتها وفي السياقات الدرامية العراقية، بدا للحظات وهو يقدم قصائد تجريبية عن جدارة في مجموعته (الأخضر بن يوسف ومشاغله) وفي قصائد قليلة أخرى خاصة قصيدته (إعلان سياحي عن حاج عمران).

هكذا يبدو أن القيمة الفعلية لشعر البياتي مستلهمة من مصادر غير شعرية في غالبيتها. لقد جرى الإعتكاز على هموم فقراء (القارات) القارات تلك المفردة التي يحبها البياتي- وجرى الانغمار (بعمود) بلاغي جديد صارم لا يقود بالضرورة إلى حقل الشعري المقلق والسريِّ.

لقد أثبت التاريخ الأدبي في المنطقة العربية أن السياسة، وقبلها مؤسسة الخلافة، لم تستطع أن تختلق شاعراً كبيراً مثلما لم تعصم العودة إلى النماذج المألوفة المعروفة في الشعر من البقاء في مكان شعري ضيق لا روح فيه. إن قاموس البياتي الذي لم يتغير إلا قليلاً طيلة أكثر من نصف قرن قد أدى، في نهاية المطاف، إلى نص ذي نسق واحد ونظام داخلي يعاني من ثبات ليس من طبيعة الشعر ولا من طبائع الشاعر الطليق خلاق الأشكال واللاعب على الكلام من أجل المعنى الأعمق. لا يحب البياتي اللعب على الكلام.

نكاد أن نقول أن شعر البياتي ملقيٌ في عموميات عريضة عن الإنسان، بمعنى أننا لا نلتقي بأثر بارز (للتجربة الشخصية) الفردية، المخصوصة وبالتالي المؤثرة بعمق في قرّائها.

إن (تجربة العمومي) تنفي كما يبدو الشعر نفسه الذي هو في جوهره (تجربةٌ للخاص)، الخاص إلى درجة أن خصوصيته لا يمكن التعبير عنها إلا بلغة الاستعارة التي تبدو وكأنها الوحيدة القادرة على قول المتفرد في حياةِ إنسانٍ، فردٍ، شاعرٍ، وليس بالضرورة تعبيراً عن حاجات وإجماع الأمة. لو أخذنا أدونيس كمثال من الطرف الآخر لرأينا أنه ينطلق بشكل أساسي من (تجربة الخاص) هذه ويتعمق فيها إلى درجة أن شعره كان يتهم غالباً بالفردانية، كما لو أنه مطالبٌ أن يكون الناطق الرسمي باسم الجماعة. واحد من نقاط الخلاف مع أدونيس، كما قيلت مراراً، تقع في عدم (التزامه) بالسائد العام. وفي حين أن أدونيس كان مطالبا بأن يكون المتكلـِّم باسم المجتمع كان البياتي يفعل.

مما عمَّق إحساس بعض القراء بحضور تجربة العمومي الموصوفة هنا هو نبذ البياتي، لوقت طويل، أي عمل شعري أخر غير عمله. ليس من باب الطرفة أن لا يعترف البياتي، إلا على مضض، بتجارب أساسية لشعراء من جيله أو من أجيال أخرى. ربما يقع في هذا النبذ موقف عبد الوهاب البياتي ذي اللغة المحصنة والقاموس النهائي، الذي يرتاب بأية تجربة لا تختط لنفسها مساراً واحداً نهائيا، بل تنهمك في مغامرات لغوية ووجودية.

 

يبدو لنا أن شطراً من مغامرات البياتي الوجودية متخيـَّلة. وهنا مفارقةٌ لا نلتقيها إلا لدى الكبار من الشعراء. فقد استطاع بجهد شخصي (مخدوم من طرف ظروف العرب السياسية) أن يقنع القراء بأن شعره السياسي هو نتاج مواقف حازمة ومعاناة شخصية فظيعة في مواجهة قمع الآلة الاجتماعية والسياسية العربية، في حين أنه كان يعيش، عملياً، بعيداً عن ذلك كله مختاراً منافٍ (مريحة) غالباً في ملحقيات النظام العراقي في أوربا ومعلناً في الوقت نفسه مواقف مترددة أمام غالبية الشعر الطليعي العربي المعاصر له. إننا أمام طرفة حقيقة.

 

سوى أن البياتي شاباً هو شاعر كبير.

 

تطلع أشعاره الأولى من حرقة حقيقة ومن مواطن الشعر وأسراره، وذلك خلافاً لنصه اللاحق الذي دوَّم طويلاً في فضاء واحد.

إذا كانت فرضيتنا، بأن البياتي الشاب كان شاعرا مجيدا وكبيراً، صحيحةٌ، فإننا أمام مفارقة أخرى. إنها تدلنا أن حقل الشعر غير معنيٍ بالبداهات وبالمنطق الرياضي. لكنها تشير إلينا أن تجربة متأصلة بالسياقات النضالية لوحدها (وأعاود تكرار لوحدها) تؤدي إلى مشكلات تمس الشعر نفسه الذي يعمل نضاله، ببساطة متناهية، في مكان آخر. لماذا نسامح الهفوات الكبيرة للموهبة الكبيرة، مثل البياتي وفؤاد التكرلي، في حين لا يسامح أحدٌ أحداً على أخطائه الطفيفة حتى في حقل العمل الثقافي وفي المجال السياسي الذي انبنى عليه مجد كثير من شعراء العرب في القرن الماضي؟ لسنا معنيين بالإجابة على هذا السؤال. إننا معنيون بالنص الشعري، وبعمل شاعر كبير مثل البياتي يضعنا وجها لوجه أمام تساؤلات جذرية من قبيل: هل أن الشاعر أكبر من المؤسسات ومن المنافع أم أنه جزءٌ منها؟ هل يتعالى الشاعر على الواقع أم أنه ينهل، مرات، منه بطريقة مفجعة؟ هل يوجد اتفاق بين ظهرانينا، أم لا يوجد، على أن التنميط والثبات في اللغة الشعرية يقود إلى جمود وثبات في رؤية العالم وأشيائه؟

 

تبرهن حالة شاعر كبير مثل البياتي، أو حالات شعراء أقل أهميه منه، أن الشاعر العربي يمكن أن يكون جزءًا من المؤسسة اللغوية المألوفة ومن المؤسسة السياسية المستتبة ذات المنافع، وتبرهن بأنه يمكن أن يستمد من ظلامية واقع ثقافي معين ومن تأخره التاريخي مجداً دائما أو مؤقتاً. إن الزعم بالتعالي على الانحطاط لا يمنع من استثماره بشكل شخصي.

لا يمكن بالطبع اختصار البياتي بهذه المقولات إلا من باب الفرصة التي تتيحها لنا سيرته بشكل عام وأشعاره بشكل خاص. اختصار البياتي، مثلما كان يختصر هو مجايليه، يقود إلى أفق لا يرى المرء إلا نفسه فيه.

 

سيبقى البياتي حاضراً في الشعر العربي. لقد قرأه الجميع  في المدارس وسمع الكل صوت عائشة التي تدين (الخصيان) غير القادرين على الاستجابة لفعل تاريخي مدوٍ. على أن فقراء البياتي الذين طالما اشتكوا فقرهم متجولين في قارات العالم ومنافيه، لم يعودوا يكتفون بهجاء العالم، في الشعر، لأنهم صاروا يرونه بعيون أخرى ويقولونه بنصوص جديدة.

 

إذا كنا نقول أن (القناع) هو (عقدة) حقيقة في الشعر عموماً وفي شعرية البياتي بشكل أخص، فلأن الأمر يتعلق بأن القناع يعلن، من جهة، لاعباً متمرساً في الحياة ويبرهن، من جهة أخرى، على ثقة داخلية متزحزحة، ذلك أن ذاتاً تتقنع بهيئة ليست البتة هيئتها - أياً كان اسمها - لا تفعل سوى ترصُّد العالم وما سنـتـجلي عنه معاركه قبل أن تنـزع عن وجهها القناع، لكي تتخذ فيما بعد فحسب موقفاً منه. هذا التخفي ليس من ضرورات الشعر الذي يضرب في مبدأ العري والبساطة والعمق. الشعر لا يحب قضاء وقت طويل في لعبة الأقنعة. نلاحظ في هذا السياق أن نصوص البياتي الشاب لم يكن تضع إطلاقاً مثل هذه الأقنعة وكانت تقول العالم بسلاسة انطلاقاً من تجربة الخاص تلك. نتذكر عرضاً هنا أن واحداُ من أقنعة شاعرنا العراقي الكبير، (سارق النار) لا ينتمي، في الحقيقة، إليه ولكنه يعود إلى أسطورة اليوناني المعروف بروموثيوس.

 

سنذهب إلى مصادر البياتي العربية العارية التي كانت تؤثر في حساسيتنا، وستبقى تؤثر لوقت طويل رغم كل ملاحظاتنا المطروحة في هذه المداخلة.

 

رحم الله عبد الوهاب البياتي.

 

جنيف 4 آب 2001