لنقل منذ بداية هذه الكلمة أن كل سجال قُمنا به مع شعرائنا العرب الكبار، كل نقد وجهناه لنـزعاتهم الثقافية والشعرية لم ينتوِ للحظة أن يقلل من شأن منجزهم الكبير ولا من ثقل حضورهم في ضمير ثقافتنا الفردي، بل في تكويننا الثقافي والشعري الشخصيShaker Laibi
أدونيس وخصومه
دفاعاً عن أدونيس…
شاكر لـعـيـبـي
للسجال طبيعة مختلفة، وهو ضروري ضرورة مطلقة من أجل بلورة المفاهيم والمواقف والنـزعات الأسلوبية والثقافية، وهو أساسي في دفع هذه العجلة الحجرية والهوائية في آن التي نسميها الثقافة
غالباً ما فُهم السجال في ثقافتنا بوصفه، فحسب، حطاً من شأن المنقودين ولقد جرى استخلاص ما هو فوّاحٌ بالفضائحي منه وما لم يُقل البتة مرات في تلك السجالات
لنقل كذلك أن واحداً من أكثر الشعراء العرب المعاصرين تعرضاً للنقد، للنقد كله بمستوياته الساذجة والمتحذلقة وتلك الأكثر عمقاً هو الشاعر العربي الكبير أدونيس. لقد نُقد هذا الشاعر عن غير وجه حق في أغلب الأحيان. ولقد جرى الغمز، بطريقة لا تـمتُّ إلى أخلاقيات الحوار بصلة، سواءً من شعره المهم، أو من سيرته الشخصية الثرية أو من وقفاته النظرية العارفة من هذا الحدث وذاك ومن هذا الشرق وذاك الغرب. وبالطبع فإن هذا الغمز ذو العمر الطويل لا يدل، في جوهره، سوى على الأهمية المطلقة لهذا الشاعر في ثقافتنا، وأنه يشير بجلاء إلى مدى تغلغل اللاثقافي والمرضي في الحقل الثقافي
من الزاوية الشعرية أولاً نقول أن أدونيس يشكل عموداً أساسياً من أعمدة الشعر العربي الحديث لا يستطيع أحد غمض عينيه عن منجزه المتميز وقوة بلاغته وانحنائه على مواطن الأسرار في الكائن والكينونة. لماذا إذن يتوجب أن يكون عدم تحبيذنا مثلاً للغته واستعارته مناسبة لإشهار جمرات من الغيظ لا تُعلن أبداً إزاء شعراء آخرين لا نحب كذلك جماليات لغتهم وطبيعة استعارتهم؟ هذه (الـلماذا) جوهرية في فهم أهمية اللغة الأدونيسية التي تظل، إلى حين، تشكل الهامش والعمود الأكثر حسماً وتأثيراً في الشعر العربي. الهامش الضروري الذي يتوجب طمره بالأثمان والمزاعم الـمُقالة دون كلل منذ أكثر من عشرين عاماً دون وجه حق. إن الشعرية الأدونيسية، أحببناها أم لم نفعل، ثابتة في لغة الشعر العربي، وقد مارست فعلها على أجيال من الشعراء من خليج العالم العربي حتى مغربه
ثانياً ومن زاوية السيرة الشخصية لأدونيس، فإن نقاد الشاعر لا يفعلون، في الحقيقة، سوى إشاحة الوجه، كالنعامة، عن سيرة الكائن العربي الخاضع لشروط موضوعية محددة، لا تسمح فقط بإنجاز الأبطال العظام في الثقافة والحياة. إن سير بعض نقاد أدونيس الشخصية يندى لها الجبين سواءً في علاقاتهم المحكومة بالمصالح الضيقة أو في التذبذب والانتقال من موقع إيديولوجي إلى آخر أو في التوغل، عند البعض القليل الآخر، في الإنحطاط التام. لو تكلمنا بالعمومي وبالنقي المطلق فإن سيرنا الفردية جميعاً تعاني من شروخات عميقة. جميعاً. الآدمي في كل مكان يعاني من تناقضات بين الممكن والمحلوم به، بين النقاء الكوني وفساد الأمكنة المحددة، خاصة ذلك الآدمي الذي يعني شرطين قاهرين : (الكتابة) ثم (الكتابة في الشرط الثقافي العربي)
يرسم نقاد أدونيس للرجل صورة بطل قومي دون وعي منهم، لأنهم يريدون من سيرته الشخصية أن تكون أصفى من سير العرب جميعاً، أنبل وأنقى خاصة منهم هم. أن تردداتهم وتذبذباتهم يمكن، من وجهة نظرهم، تبريرها بمنطق الشروط الموضوعية والمعيشية التي تحيطهم، لكن ليس البتة تردده المزعوم. أن تردده من طبع إنساني يجب علينا احترامه بعمق
ثالثاً: فإن وقفات أدونيس وتنظيراته في تاريخ الثقافة والأديان بدءً من كتابه (الثابت والمتحول) الذي يشكـِّل عقدة عند البعض، والتي اُستخدمتْ حجة في نفيه من فئة العربي (الحكيم) ومن سياقات الشاعر الـمدافع عن أخيه ظالماً ومظلوماً، إنما هي وقفات طلعتْ منى قراءة طويلة وتأمل بالتراث وانحكمت بوعيه الفردي المشروع. يود نقاده في هذا الحقل أن ينتزعوا عنه (الحرية) في التفكير التي يزعمون الدفاع عنها. هل يتوجب أن تصير خلافاتنا مع أدونيس بشأن نظراته في الثقافة والشعر العربي نفياً (لحرية) الكاتب والشاعر أو نفياً للأفكار التي لا تلائم الأفكار والمزاجات الثقافية السائدة في ثقافتنا؟ يقدِّم (الثابت والمتحول) عرضاً نظرياً ممكناً لتأويل تاريخ الفكر والشعر. كل تأويل، على ما يبدو، غير مسموح به، سوى التأويلات المعروفة والسائرة في ركبها. أليس في ذلك شيء من التعسف والشطح المتطرف؟
ثمة تدخُّلٌ فضٌّ يصيب حرية هذا الشاعر العربي في قول الشعر وفي التفكير النظري. فضٌّ إلى درجة نخجل منها وتأبى على العقول المتنورة في أمكنة أخرى من العالم. إنه مطالب بتبرير لغة شعره واستعاراته من جهة ، ومن جهة أخرى بتبرير وجهته في التفكير. لا يرقى عموم نقاده لا إلى مستواه الشعري ولا إلى أفقه المنفتح على الفكرة الطليقة. ولأنهم غير قادرين على تقديم حجج مناهضة لحججه المعرفية، ناهيك عن جمالية نصوصه، فإنهم يتوترون توتراً خارجاً عن نطاق المنطق السليم
يتبقى أن نقول أن مواقف أدونيس من هذا الحدث وذاك، ومن هذا الشرق وذاك الغرب قد فُهِمتْ على الدوام، كما يبدو، بطريقة رمزية: إننا نطالب واحداً من (رموز) ثقافتنا، في جوهر الأمر، بأن يكون الناطق الرسمي باسم الموقف العربي السائد من الأحداث. أي أننا ثانية ننفي عن الرجل إمكانات الكائن العربي على التفكير بطريقة مغايرة، وأننا نحدده بأفقنا المعروف الذي لا يُبرهن الواقع، دائماً، على صوابه. نطالب (الشاعر) إذن أن يكون (رمزاً) للجماعة الثقافية بحسناتها وسيئاتها. هل أن هذا الدور الرمزي ممكن بالنسبة لشاعر متنور ومتفتح مثل أدونيس أو بالنسبة لأي شاعر جديد على شاكلته؟ لا نظن
ثمة نقد ممكن تماماً وشرعي لأدونيس مثلما هناك نقد لأي منتج للثقافة في سياق معرفي محدد، دون الخروج الفاضح عن أنماط (العقلانية) و(المعرفة) و(المنطق). هنا يريد بعض نقاد أدونيس فصل الشاعر عن ذاته لكي يتطابق مع وعيهم، ومن ثم جعل الشاعر محايداً تماماً ومن دون وجهات نظر سوى وجهة نظر الجماعة التي لم تقم الكثير من الدلائل بعد على عمقها
كل هذا المنطق سيقود ناقداً لأن ينفي عن أدونيس حتى الأهلية باستلام أدونيس الجوائز الأدبية، مثلما هو حال جهاد فاضل في العدد المؤرخ بتاريخ 25-31 مايو سنة 2001 من مجلة (الحوادث). إنه يذهب في التطرف بعيداً. لنلاحظ أن هذا النمط من النقاد يضربون بأطنابهم في فهم كلاسيكي، عصبوي، مهلهل للثقافة، وأنه في دفاعه عن الشعراء الآخرين غير المتوجين، مثل أدونيس، بالجوائز الأجنبية، يريد أن يقتل شاعراً مجيداً مثل شاعرنا الكبير. لا نستطيع أن نـُمجِّد شاعراً بقتل شاعر. لا نستطيع أن ندافع عن (الشعر) بنفي (الشعراء) الكبار، ولا بتمجيد ضرب واحد من (الشعرية). هذه الأطروحة تنطبق، في تقديرنا، على أيما ناقد جدي وعلى أيما شاعر حتى لو كان أدونيس ناقداً ومنقوداً